رواية عقول غيبها العشق بقلم الكاتبة أسماء حميدة، هذه الرواية حصري على موقع مجلة الأسطورة، ممنوع النسخ نظراً لحقوق الملكية الفكرية
البارت_6
*في قلعة صياد الوحوش.
تمتم (أرون) بغيظ، لتفوهها بالحماقات غير المفسرة، وأرجأ التفكير في قصة (شيزر) حالما ينفرد بنفسه ويستشير صديقه (توماس) مقراً، بأنه سواء أكان هناك هاجس اسمه (شيزر) أم لا، فهو ليس مستعداً لجعلها ترحل في الوقت الحالي ولا يعلم لِم!!
لذا عاود يقول بنبرة آمرة : – قلت ادخلي لتنظيفي هذا؟
اعترضت (كيتي) تقول بصوتٍ مختنق:
-لا أريد، أنا بخير، سأعود إلى النزل الذي حجزت غرفة به، فعلى أية حال سيارتي على مقربة من هنا، لقد تركتها بمرأب في الجوار.
كل ما تتفوه به كذبٌ وإدعاء، إذ أنها قد سوت حسابها بالنزل صباح هذا اليوم فقد جعلت مهمة هذا المقيت (إبرام) آخر ما ستقوم به في جولة عملها.
وحزمت أمتعتها وحقائبها، ووضعتها في السيارة الصغيرة التي اشترتها بالتقسيط المريح بعد أن اقترت من مصاريف نفقاتها الشخصية حتى تؤمِن لنفسها وسيلة انتقال، موفرةً ما تهدره من أموالٍ للترحال ما بين هنا وهناك كي تزاول مهنتها الشاقة تلك.
فتفكيرها باقتناء هذه السيارة نوع من المحاولات لضمان أدنى سبل الراحة في مشوار حياتها المرهق هذا؛ إذ توفى والديها منذ فترة بالتتابع وما كان بهما من حسرة وألم توارثته (كيتي) عنهما، وتلك كانت مأساة أسرة بأكملها وذلك بسبب فقدان شقيقتها التوأم التي اختُطِفت في صغرهما وكانت بالكاد في السابعة من عمرها.
تنهدت (كيتي) بأسى وهي تتذكر توأمها، فلابد وأن (سارة) مترسخ بذاكرتها البعيدة مواقف طفولية تجمعهما معاً، ف (كيتي) لا زالت عالقة بذكريات الماضي وألعابهما التي تحتفظ بها حتى الآن في منزل العائلة.
انتبهت عليه عندما عقب يقول بعدم تصديق:
-هل أنتِ تعنين ما تقولين؟! أتظنين أنكِ في حالتكِ هذه يمكنكِ قيادة السيارة؟!
نعم ستفعلها بأي شكل من الأشكال، ستتوجه إلى المرأب ومنه إلى المطار مباشرةً، وهناك يمكنها استخدام أي مرحاض عمومي لتنظف جراحها وتبدل هذه الثياب المغبرة وترتدي الفستان الذي جاءت به إلى هنا في المرة الأولى صباح هذا اليوم.
أجابته بوهن: – هذا لا شيء، يمكنني تدبر أمري.
صمتت لبرهة ومن ثم استكملت تقول بنبرة أبعد ما يكون عن الامتنان:
-يبدو أنني مدينة لك بالشكر لإغاثتي.
أجابها (أرون) بحاجبٍ مرفوع، يقول مردداً بامتعاضٍ:
-يبدو!!
-أجل، يتوجب عليكِ فعل ذلك ولكن لا مجال بيننا لمثل هذه المجاملات المتملقة، لذا لا تزعجي حالكِ.
ثار كبريائها اللعين للهجته المحتقرة تلك وتملكها إحساس بالدونية، لذا أردفت تقول على مضض:
-ومن قال أنني سأفعلها سيد (أرون دانييل) ولك أن تطمئن فأنا لن أضايقك بعد الآن، سأرحل وحسب.
تتحداه، ولابد وأنها تجهل مَن هو (أرون دانييل) صياد الوحوش، لذا أعجبه اللعب معها، فأجابها يقول:
-لا أعمل لِم لا أستطيع تصديقكِ آنسة (كيتي)، ولا أدري لِم لا أستصيغ فكرة رحيلك وحسب تلك؟!
قالها وهو مسلط الأنظار على الحقيبة التي بحوزتها وقد رفعتها على كتفها تقبض عليها بحماية ارتاب لها، فامتدت يده ينتزعها ولم تتمكن من فعل شيء لردعه، ومن ثم أخذ يحركها بين يديه بتقييم وكأنه يزنها وبعد لحظة تفكير، قال بإقرار:
-على ما أعتقد أنه يتوجب علي الاحتفاظ بهذه الحقيبة، فربما تعوضني عن غيابكِ الذي أتمناه منذ أن وقعت عيناي عليكِ عزيزتي، ساعتها فقط سأشعر بالأمان.
وتلك كانت حجة ليبقيها بإرادتها فمن تستميت لأجل هذه الصور لن تتخلى عنها بسهولة.
جحظت رماديتيها بذعر، وهي تدنو إليه ملقية بنفسها عليه تجاهد في التقاط الحقيبة وهي تقول بِعداءٍ بعد أن أقصاها عن مرمى يدها، تجاهد للحصول عليها، صارخة به في استهجان:
-لا، إنها لي ولا يحق لك فعل ذلك!
ابتسم (أرون) بتهكم، يسألها بتشدق:
-لا؟! أنا مَن يتمتع بكافة الحقوق هنا ما دمتِ على أرضي.
-أتيتِ إلى حدود أملاكي تتسحبين كاللصوص وترهقيني باعتراضكِ المستمر.
-قَدِمتِ برغبتكِ، لذا أنا مَن سيفرض قوانين اللعبة لا أنتِ آنسة!!
توسلته تطالب بما في يده، قائلة:
-أرجوك، إنها تحوي آلة التصوير، ولا يمكنني العمل بدونها.
رد بتسلية، وهو يرى الخيبة ترتسم على ملامح وجهها، ولن ينكر أنها تبدو فاتنة:
-وهل تتوقعين أن أتأثر بما قلتِه؟
-في الحقيقة رؤيتكِ على هذه الحالة لَهُوَ أكثر الأمور متعة، لقد سرني ما أنتِ عليه الآن، و كثيراً.. بل لأبعد حد.. فأنا بقمة نشوتي حتى أكون صادقاً معكِ.
رمقته (كيتي) بعدائية، تقول بنقدٍ لاذع يستحقه:
-وماذا سأنتظر من شخص قاسٍ عديم القلب والإحساس مثلك؟!
ومن ثم تمتمت تقول بلكنتها:
-يخرب بيت غلاستك، البعيد تلاجة!!
أجابها (أرون) بعنجهية:
-ها قد أظهرتِ بعض من التعقل عكس ما فعلتِه لأجل صورة.
قالها وهو يرمق الحقيبة بشك:
-تملكين آلة تصوير، وتكبدتي كل هذا العناء لتلتقطين فيلماً واحداً!!
-إذا قايسنا المدة التي بقيتِ فيها تختبئين عند الصخور وبين ما تحتاجينه من وقت لالتقاط أفلامكِ الرخيصة تلك سيتأكد حدسي الذي ينبئني بأنكِ لم تحصلي على فيلم واحد فقط؟!
تمهل يضيف مضيقاً عينيه بتحدي:
-منذ متى وأنتِ تتلصصين؟!
فأجابت (كيتي) بصدق:
-منذ ساعات، ولكنك كنت بالداخل ولم تظهر إلا لحظات قليلة.
قطب (أرون) جبينه يناظرها وكأنه يُقَيَّم ما تقول، ومن ثم تسائل:
-معكِ حق أنا لم أخرج إلا لبضع دقائق، فلنقل ربع ساعة، ولكن اخبريني آنسة (كيتي)، كم يلزمك من الوقت لتلتقطين فيلماً كاملاً بآلتك الحديثة تلك؟!
أمال رأسه على جانب واحد رافعاً حاجبه، يتحداها بأن تكذب، فاعترفت تقول:
-من دقيقتين لثلاث لا أكثر.
-ولكنني لم أفعل، فقط واحد يكفي.
زفرت بضيقٍ ومن ثم أضافت عله يقتنع، فما إن يُفرِغ محتويات الحقيبة سيكتشف كذبها، حتى وإن لم تكن جميع الأفلام الموجودة بها تعود إليه، فما يخصه منه إلا القليل:
-في الحقيقة، أنا بحوزتي داخل تلك الحقيبة ما يتعدى المائة من الأفلام المستعملة، وهذه حصيلة عملي لمدة عشرة أيام.
-فكما أخبرتك إنني كنت بالجوار في رحلة عمل.
ابتسم (أرون) بتهكم:
-وهل بعد جرأتكِ الغاشمة تلك وتبجحكِ هذا تنتظرين مني أن أقتنع بما تقولينه الآن؟!
ارتجفت أوصالها وأحست بصقيع يجتاح أوردتها، وهي تقول بنبرة مهزوزة:
-إنها الحقيقة، وكما قلت أنت فصورة لا تستحق أن أكذب بشأنها.
وبسبب الضغط العصبي والجسدي الذي وُضِعت تحت واطئته الآن، أحست بدوار وانتابها الغثيان وودت لو أنه يرأف بحالها ويتركها كي تجلس للحظات فقط ولكنه قاسٍ لا يلين، إذ استكمل استجوابه مردفاً:
-يبدو عليكِ التهور بالفعل، ولكنني لا أعتقد إنكِ قد تجازفين بحصيلة عملكِ طوال هذه المدة وتحملينها معكِ إلى هنا؟!
تمتمت بضعف تتسائل، وهي تزدرد لعابها وقد شعرت بتيبس حلقها من شدة العطش:
-فيم المجازفة، لقد… ك.. كنت متيقظة؟!
قالتها بتلبكٍ كالثمالى، وهي ترفع يدها تتلمس رأسها الذي يَضج بألم رهيب، وما عاد لكلمة مجازفة معنى، فها قد خاطرت واقتحمت أسواره، ستدع كل شيء خلفها الحقيبة، والأفلام وكذلك آلة التصوير.
والته ظهرها وخطت خطوة فالثانية، ولكنها شعرت بالأرض تميد تحت أقدامها وكأنها تقف على شيء مطاطي، لذا مدت يدها بعبث تحاول إيجاد ما تستند إليه.
فوجدت جدار تشبثت به في محاولة واهية لتُثَبت خطاها، وهي تسير بتباطئ وأقدام تلتف حول بعضها، فاقترب يلتقطها بين ذراعيه قبل أن يهوي جسدها أرضاً، وذلك بعد أن خفضت يدها التي تتلمس جبينها ورأت راحتها ملطخة بدماءها التي تجري على أصابعها، فتسائل (أرون):
-ما الأمر؟!
نطقت بتلعثم وهي تستمع إلى صوتها وكأنه آتٍ من مصدرٍ بعيد:
-أنا.. آسفة، يبدو… أنني سوف………….
ومن ثم حل الظلام ليجذبها إلى دوامته فتعتمت الرؤية، وجاءها صوته من بين الضباب وأبصرت بتشوش شفاهه التي تتحرك بالقرب من وجهها ولم تستمع إلا لكلمة واحدة بادر بها يقول بحدة:
-Damn!!
❈-❈-❈
دنت إلى فراشه تجلس على حافته، وعيناها تلمع بإعجابها الشديد بهيئته وهو نائم، إذ بدا أكثر وسامة وجاذبية أثناء غفوته وسكونه هذا أثارها حد اللعنة.
بسطت يدها تتلمس خصلات شعره الأشعث، وهي تستمع إلى صوت قرع نابضها إثر اقترابها منه، فقط النظر إليه يبعث بداخلها مشاعر عاصفة.
آنت إليه أكثر فأكثر حتى باتت إلى جواره على الفراش، متسطحة إلى جانبه، وقد غيب عقلها هيئته الساحرة تلك، إذ كان نائماً وهو لازال مرتدياٌ ذلك السروال القصير الذي رأته به بعد أن أنقذها من السقوط.
وكما توقعت فهو مسطح على ظهره عار الصدر وعضلات ذراعيه بارزة عروقها بوضوح وهو يرفعهما متوسداً راحتيه.
ابتسمت تتعجب على حالها، إذ يبدو أنها باتت تعشق التسلل، أم أنه صار بالنسبة إليها كالمغناطيس يجذبها إليه دون إرادة منها، ولا تعلم ما الذي جعلها تقتحم غرفته وهو غافٍ ولكنها أرادت ذلك ففعلت دون التفكير بعواقب ما شرعت به.
مدت يديها تحتضن جسده إليها تعدل من وضعيته حتى أصبح رأسه قابعاً على صدرها وذراعيها تضمانه إليها بقوة وشغف، وصوت بداخلها يحثها بالعودة من حيث أتت.
ولكن هل حقاً ستفعل؟
لقد فات الأوان وتجاوزت كل الخطوط الحمراء وخطت وبإرادتها إلى عرين الأسد، وبالرغم من صوت العقل الذي يناشدها بالعدو بأقصى جهد لديها مبتعدة عمن ضاع رشدها في حضرته.
ولكن منذ متى وهي تستمع إلى نداء العقل؟!
فكل تصرفاتها رعناء هوجاء، وها هي تتصرف كفتاة مراهقة لا أنثى ناضجة بعامها الحادي والعشرين، فقد احتفلت بعيد مولدها وحيدة منذ ثلاث ليال في غرفة الفندق الذي تقطنه.
وبالرغم من جمالها الفاتن وحسنها الملفت وخفة ظلها إلا أن ثقتها بحالها شبه منعدمة وكذلك ثقتها بالآخرين، لذا تتجنب تكوين العلاقات أي كان نوعها فلا حبيب يؤنس وحدتها، ولا رفيقة تشكوها همها.
وكما حال صياد الوحوش خاصتها فإذا ابتعد عن زيف الجميع بمكوثه في هذا البرج النائي، فوضعها لا يختلف عنه كثيراً، إذ صنعت لنفسها حصار مشابه حتى و إن كانت تخالط هؤلاء المنافقين إلا أنها لا تتخذ أخدان ولا تحب الرفقة.
ضربات قلبها في تصاعد هادر، وحرارتها توازيها ارتفاعها، ودفء جسده بين يديها، يشعل بخاصتها رغبة مدمرة، إنه مرهق حد اللعنة.
وجهها مقابل لوجهه، تستشعر أنفاسه المنتظمة وهي تداعب جانب صدغها وعنقها، وما إن أحس في غفوته بهذا الاحتواء لف ذراعه حول خصرها، وهو يدفن وجهه بعنقها يتمسح بها بافتتان وكأنه واع لوجودها معه.
بفعلته تلك زاد ما بها من نشوى ولوعة، فأطبقت عليه بين أحضانها.
وعندما استمع الغافي لذلك الإيقاع بالقرب من أذنه، والآهات الحارقة الصادرة عنها، وتلك الحرارة التي تحاوطه، وجسدها الغض اللين المكبل بين يديه، بدأت حواسه في العمل.
بينما الأحاسيس المدمرة التي تشعرها تجاهه الآن، جعلتها تشك بالأمر أو ليست في غيبوبة؟! وتساءلت هل هي إلى جواره حقاً؟!!!
لقد تمنت أن تلج إلى محرابه ولكنها منذ دقائق قد أفرجت عن جفنيها، ووجدت نفسها في غرفة مجهولة، وظنت أنها بمشفى أو ما شابه!!
هل هي على فراشه، تحتضنه إليها بكل هذا الشغف كما لو كان ما تفعله عادياً ووارد الحدوث؟!
عبث!! ما يدور بخلدها الآن عبث إنه حلم ليس إلا!!
تمتمت بشخوص تقول:
-هل أصبحت حالتي ميؤوس منها، لدرجة أنني استشعر قربه، وگأنه حقيقة ملموسة؟!
ألهذه الدرجة هيمن على حواسي، أنني أشم عبقه الرجولي وهو يداعب رئتاي!!
نعم هذا الأريج الفواح وكأنه يُفرز بفعل مسامات جلده كعطر فرنسي لأشهر الماركات العالمية، تلك الرائحة التي حفظتها عن ظهر قلب ويمكنها تميزها ولو كانت على بعد منه، ولكن تلك الحمقاء لن يرنو إلى عقلها أن هذه الرائحة يفرزها قرينه (شيزار) ليجذبها إليه.
شردت بما حدث سابقاً وهي مغمضة العينين فمنذ أن ضمها اليه عند الربوة وهي تحبس أنفاسها حتى لا يخرج هواء زفيرها المحمل برائحة جسده.
استسلمت لفكرة كون ما يحدث الآن لهو أضغاث أحلام فأغمضت عينيها، لا تريد أنا تطلق صراح مقلتيها، فهذا الحلم الجميل لا تود أن تستفق منه، فيتبخر هذا الشعور اللذيذ الذي يتملكها الآن.
غفت إلى جواره باستكانة وقلبها يتنهد بشوق عارم تتمنى أن ينقضِ ما تبقى لها من عمر وهي على تلك الحالة، ولكن ما أثار دهشتها أنها تهابه في صحوته والآن تشعر بالأمان إلى جواره، ما هذا التناقض الغريب؟!
لا لن تدع هذا الحلم يغادرها ستتمسك به حتى يستحيل عالم الأحلام إلى واقع، ستستسلم إلى تلك الغفوة، وقلبها يبتهل إلى الله في دوامه أبد الآبدين.
ارتفعت يده المحاوطة لخصرها، يحط بكفه الغليظ على وجنتها يتلمسها برقة، وهو لا زال ما بين الغفوة واليقظة.
رجفة هزت أوصالها عندما استكانت راحته على بشرتها وبدأت أنامله تتحرك على وجهها بنعومة ورقة، حتى خلل أصابعه بين خصلات شعرها يعزف لحناً منمقاً أطاح بما تبقى لديها من تعقل وثبات هذا إن وجد من الأساس!!
وأي ثبات هنا وهي بين أحضانه يضمها إليه!!
عندما كانت بقربه في المرة السابقة منعت نفسها من الوقوع بفخ رجولته الطاغية، قاطعة جسور تواصلهما، أما الآن فلا منع ولا إحالة فما الجرم إذا ما كانت تحلم؟!
وبالمثل رفعت يدها تتحسس معالم وجهه.
وهو أيحلم هو الآخر!!
تباً فقد بدأ يشعر بأناملها التي ارتفعت، تتلمس وجهه باستكشاف، ثم عنقه ولكنها توقفت فجأة تستند بكفها الرقيق إلى عظمة طرقوته دون استكمال لجولتها.
لا، لا تتوقفي، فقلبي أسير لمساتك، أنفاسك، رائحتك.
ضم جسدها إليه، فبات يستشعر ملمس خدها الناعم الوردي على بشرته، أغمض عينيه يستلذ بتلك المشاعر القوية التي اجتاحته تعصف بقلبه المشتاق لها وگأنه كان ينتظرها كل هذا الوقت وها هي بين يديه تضم جسدها إليه جاعلة كل خلية به في حالة تحفز.
تثاقلت أنفاسه وبدأ يزفرها ببطأ، وذراعيه المحاوطان لجسدها، شددا من حصاره لها، جاذباً إياها إلى أحضانه الدافئة، مد كف يده الأخرى يثقل كفها يحط بيدهما المتشابكتين على صدره العاري.
زمجر برفض وهي تحاول الإبتعاد عنه، خاصة بعد تماديه وتجرؤ لمساته فما يحدث بينهما الآن يجب أن يتوقف عند هذا الحد، حتى ولو كان حلم ولكنها خجلت من أفكارها الوقحة عنه.
ردد (أرون) بنبرة ناعسة وأعين مغمضة:
-لا تبتعدي (كيتي)، أريدك وأنتِ كذلك.
ماذا سيفعل الآن؟!
لم يتسائل ما الذي أتى بها إلى فراشه، جل ما يهمه الآن أنها فعلت، وكم أسعده ذلك، راوده شيطانه بإمتلاكها، يرغبها، يريدها حد الجنون، حتى عندما أحب (إميلي) لم يشعر تجاهها بهذا الشوق العارم وتلك اللهفة المخيفة، وجسده الذي يطالب بها بات يئن لوعة، وعاوده هذا الصوت يقول بامتعاض:
-ماذا تنتظر (أرون)؟! أوشمها والآن.. إنها سبب جمعنا… لم أكن موجود لولاها.. رفيقتنا يا أحمق… إنها مصدر قوتنا.
أما عنها فما بها لا يمت للتعقل بذرة، آنسها صوته، رجاءه لها بالبقاء دك كل الثوابت ودمر كل حواجز الأصول.
هي بالأساس لا ترغب في تركه، هي بالأساس لا تعلم كيف يسيطر عليها هكذا ولا تقوى على الإبتعاد.
وهو فقد أعلن قلبه التمرد، ورفع جسده راية العصيان، فاستلقى إلى جوارها على جانبه بعد أن كان متسطح على ظهره، تتوسد صدره، ولازالت ذراعيه تحاوطها.
ومن ثم عاد إلى وضعيته الأولى ولكن ليس وحده وإنما رفع جسدها إليه، فأصبحت هي من تعتليه.
يحكم حصار خصرها يضمها إليه بتملك، وهي دفنت وجهها بعنقه تئن براحة، تشعر بالإنتماء.
يالله، حبيبتي رفقاً بقلبي، أنينك يخرج مع أنفاسك العطرة يجذبني لدوامة اللارجوع، ولا أعلم كيف سأجعلك ملكي، عن أي رفيقة يتحدث (شيزر)؟! ما أنا به درب من دروب الجنون!!
إذا استمر وضعهما هكذا سيخرج الأمر عن السيطرة، ناداها بصوت تحشرجت نبراته، برجاء :
-(كيتي)!!
-أمممم.
رفع كفه يزيح خصلات شعرها، الذي حجبه رؤياها، وهو يعاود النداء بنبرة أقوى نسبياً :
-(كيتي)!!
وكان الرد أنها عدلت من وضعية رأسها مسندة إياها إلى كتفه، فأصبحت شفاهها تلامس خده، أبعد رأسه قليلاً فما هو به يكفيه ويفيض.
التفت بوجهه إليها، وليته لم يفعل.
كم هي بريئة ورقيقة، عذبة وناعمة، بدأت أهدابها ترمش بتثاقل، رافعة كفها تفرك عينيها الناعستين، وهو يتأملها بوله، حتى وقع نظرها على وجهه القريب، فتجمد كفها بموضعه، وتصلب جسدها بين يديه، وبعد ثوان أو دقائق لا تعلم ولكن ما تعلمه أن هذا لا يمت للواقع بصلة.
(كيتي) بنعاس، فقد غفت فعلياً إلى جواره ورقة لمسات أنامله التي داعبت فروة رأسها ساعدتها على الاسترخاء:
-أحيه!!
(أرون) بنبرة متحشرجة، متسائلاً بعدم فهم:
-ماذا تعني هذه الكلمة، وما الذي أتى بك إلى هنا؟
(كيتي) وأناملها امتدت ترسم ملامح وجهه، وقد فصلها قربه عما سواه، وهي موقنة أنها لا زالت غافية :
-معناها إني بقيت مجنونة بيك، لدرجة إني حاسة بجد إني في حضنك، حساك حقيقة مش حلم.
ارتفع كفه يقبض على راحتها الملامسة لوجهه وهو يلثم باطنه، قائلا بهمس خشن:
-بالرغم من أنني لا أفهم كلمة مما قلته ولكن لا أعلم لم يخفق قلبي لوقع كلماتك؟!
عضت أسنانها على شفاهها السفلية في حرج، قائلة بارتباك، وهي ترفرف بأهدابها في براءة:
-أنا لم أقل شيئاً؟! لم أتفوه بحرف حتى.
حركتها تلك زادت حالته سوءاً، فرفع كفه يخلل أصابعه بين خصلات شعرها، يقرب وجهها إليه، قائلاً بلوعة :
-أتنكرين لأنني لا أفهم لغتك تلك؟ حتى إذا.. لكن هذا لا يمنع أنني من الممكن أن استنتج مغذى ما قلته.
(كيتي) بإبتسامة مشاكسة، وهي تغمز له بعينها:
-حسناً، اخبرني ما استنتجته؟
عضت الشفاه كانت من نصيبه تلك المرة، وهو يقول بصوت أجش من فرط إحساسه الشغوف بها:
-قلت إنكِ تشعرين بي وترغبين في قربي وبجنون كما حالي أنا أيضاً، صحيح؟
أومأت (كيتي) في إيجاب دون تفكير بردة فعله حيال تصريحها هذا.
وما كان منه إلا إنه قد دفع جسدها بخفة، فاستكانت على الفراش إلى جواره وأشرف هو بجسده عليها، وقد غامت عينيه برغبة موحشة، وهو يكبل يديها أعلى رأسها، ثم….
البارت_7
(كيتي) بإبتسامة مشاكسة، وهي تغمز له بعينها:
-حسناً، اخبرني ما استنتجته؟
عضت الشفاه كانت من نصيبه تلك المرة، وهو يقول بصوت أجش من فرط إحساسه الشغوف بها:
-قلت إنكِ تشعرين بي وترغبين في قربي وبجنون كما حالي أنا أيضاً، صحيح؟
أومأت (كيتي) في إيجاب دون تفكير بردة فعله حيال تصريحها هذا.
وما كان منه إلا إنه قد دفع جسدها بخفة، فاستكانت على الفراش إلى جواره وأشرف هو بجسده عليها، وغامت عينيه برغبة موحشة، وهو يكبل يديها أعلى رأسها.
ومن ثم انتفض (أرون) ورعبه لما يدور جعله يهب من مرقده على التخت، وهو يمسد جبينه بأطراف أصابعه، فقد كان حلمه بها أشبه بالنعيم، وما كاد أن يقترب كي ينهل شهدها إلا أن ما اختتم به منامه جعله يفيق مفزوعاً.
فخلال انسجامهما معاً وتجاوبها الحالمي، اندفع باب الغرفة التي أسكنها إياها وتدفق من فتحته جموع من إناس ضخام الجثة يحملون بإيديهم أسلحة حديثة لا يعلم نوعيتها ولا كيفية عملها، يخرج من ثقابٍ بمقدمة تلك الأسلحة ضوء أحمر صُوِّبت أشعتها على كليهما في مقتلٍ.
وعندما تفاجئت (أرون دانييل) بدخول هؤلاء الأغراب، قام عنها لتنهض هي الأخرى تقف إلى جواره بذعر تحتضن ذراعه بكلا راحتيها.
وأكثر ما آلامه هو انتفاضة جسدها القريب إليه، وإحساسه بحتمية فقدانها في موقف كهذا جعل رجفة أوصالها تنتقل إليه، وكأن هناك سائل كاوي يتسرب عبر وريده يُصعق كل عضو يتدفق إليه حتى تجمع بنابضه يتآكله كماء نار سُكِب على قطعة لحم، وذلك عندما تأهب حاملي السلاح للإطلاق ودوى صوت شد أجزاء ما بإيديهم ليهز صداه جدران الغرفة.
فتنبه (أرون) على الفور يتقدمها، دافعاً جسدها الضئيل ليخبئها خلفه، ولكن حدث ما كان يخشاه إذ انصرفت عنه الأنظار، وخُفِضت فوهات الأسلحة لتتوجه جميعها نحو جسدٍ آخر دخل من تلك الفتحة اللعينة التي لم يشغلوا بالهم بغلقها.
إذ حضر إليه (أصلان) ككل ليلة؛ ليقص عليه ما تجسد أمام عينيه من وقائع بشأن شخصيات قد لا يعرفها، وربما تلك الشخصيات رآها الصبي على شاشة ذاك الجهاز الذي يسمى بالتلفاز فقد أحضره إليه (أرون) منذ ثلاثة أسابيع كوسيلة ترفيه لفتى صغير في مثل عمره.
وذلك عندما تسلل (أرون) في غسق الليل إلى أقرب مكان يعج بالحياة، يُبادل أحد أصحاب المحال الصغيرة مقترحاً عليه أن يعطه هذا الجهاز مقابل سبيكة ذهبية، فرحب الرجل على الفور ولم يسأله عن مصدرها بل لم يجادله من الأساس، فقيمة السبيكة تعادل ثمن عشر أجهزة مما وقع اختيار (أرون) عليه.
أما بالغرفة المجاورة، استيقظت تلك الغافية بعد لقاء تناغمي بينها وبين هذا ال (أرون) والذي وللأسف انتهى حلمها به على أصوات جلبة في الجوار لا تعلم مصدرها.
تململت في الفراش، وألم هاجم كل خلية بها، فرأسها وكأنه دُفش أسفل عجلات مقطورة عملاقة، وريقها مُر كالعلقم، وجسدها يتصدع من شدة الوجع.
الظلام يخيم على الغرفة إلا من بصيص نور تسلل من خلال مفارق تلك النوافذ المغلقة مصاريعها، أرادت أن تعرف كم مر من الوقت وهي في هذا المكان الغريب كلياً عليها، لذا رفعت يدها تنظر إلى الساعة المطوقة لمعصمها، ولكنها استمعت إلى صوت آهات ألمٍ مر وقت حتى تدرك أن الصوت مصدره شفاهها.
رفعت حاجبها باندهاش عندما لم تجد الساعة، وحركة حاجبها تلك زادت من ألم رأسها، رمقت أصابعها المتورمة التي بدت وكأنها طحنت بمطرقة تتحسر على ما أصابهما.
مرت بذاكرتها بعض مشاهد مما حدث قبل أن تسقط بأحضانه فاقدة للوعي، وأخذت عيناها تجوب جميع أنحاء الغرفة باستكشاف، ومن ثَم اتسعت حدقتيها بذعرٍ، وهي توقن أنها في مخبأ هذا الليث، بل والأكثر إرباكاً إنها ليست بعرينه فحسب بل وعلى فراشه أيضاً.
مدت (كيتي) يدها بعجز ترفع عنها ذلك الغطاء الملقى على جسدها بإهمال، تُقِيم جذعها زاحفة إلى الوراء بصعوبة كي تستند إلى ظهر التخت، وليتها لم تفعل!!
إذ اعتلت الحمرة وجنتيها، وعينها قد التقطت شيئاً لم تدركه إلا عندما انحصر الغطاء عن جسدها.
إنها ترتدي ملابس نوم رجالية، رفعت الغطاء إلى أسفل عنقها بفزع ومن حدة حركتها تأوهت نيابة عن جسدها المحتج لما فعلت.
أخذت (كيتي) تعتصر ذاكرتها في محاولة منها لاسترجاع بضعة من المشاهد ذات الصورة المشوشة، وأصبحت فكرة معرفة مَن قام بتبديل ثيابها عنها هي جل ما يهمها الآن.
أغمضت عينيها المتثاقلة جفونها، تبعد عن رأسها فكرة أنه الفاعل، فمجرد مرور تلك الخاطرة بذهنها أصابتها بالغثيان، أخذ منها الأمر عدة دقائق كي تصد عنها فكرة أن (أرون) هو من بدل لها ثيابها وهي فاقدة للوعي.
بعد وقت رمشت (كيتي) بأهدابها تمعن النظر بمحتويات هذه الغرفة الواسعة التي يتوسطها التخت الذي يحتله جسدها، وتلك الحوائط المطلاة جميعها باللون الرمادي الفاتح.
وهناك بعض من البراويز المعلقة على جدرانها تحمل صور جميعها تعود لنفس الفتاة التي تجهل ماهيتها، أما عن الأرضية الخشبية السوداء فلا شيء مميز سوى بساط صغير فُرِشَ ليغطي مساحة صغيرة من أرضية تلك الغرفة الشاسعة التي ابتلعت أساسها بسبب كِبر حجمها، إنها غرفة بمساحة منزل بأكمله من غرفٍ ومطبخٍ ومرحاض.
وإلى جوار التخت يوجد مصباحيّ إنارة من الخزف، وبالجهة المقابلة للفراش أُسند إلى جانب الحائط خزانة باللون الأسود ذات أدراج لها مقابض كريستالية براقة، وكذلك خزانة ملابس عملاقة لها نفس اللون، ومن بساطة تكوين الغرفة علمت أنها لرجل، فقد افتقرت محتوياتها إلى أي لمسة أناقة أنثوية.
تحاملت على نفسها تعتدل وقد أنزلت قدميها أرضا، تقف بتعثرٍ، تسير بخطى حثيثة مترنحة قاصدة الجهة الأخرى من الغرفة، فهي بحاجة ماسة إلى استخدام المرحاض، وفي منتصف الطريق تجمدت بأرضها تستند إلى الحائط الحجري، وسؤال لولبي تبادر إلى ذهنها أصابها بصاعقة، ألا وهو :
- كيف علمت أن هذا الباب هو باب المرحاض؟ لِم لا يكون باب الغرفة مثلاً أو باب ملحق لغرف مجاورة؟
ومن هنا اشتعل جسدها بحرارة كالجمر وكست وجنتيها حمرة قانية، وهي تسترجع بعض الذكريات القريبة التي علمت من خلالها أنه قام بإحضارها إلى هنا، وخيالات ضبابية لها وهي محمولة بين ذراعيه يصعد بها درج حجري، ومن ثم حط بها أرضاً، وبعدها مباشرة شهقت بتفاجئ وكأنها عادت إلى الحياة عندما سُكب أعلى رأسها ماء بارد فانتابها فواق لحظي.
التفتت تلصق ظهرها إلى الحائط خلفها تبتلع رمقها بتوتر وهي تستعيد تلك اللحظات عندما استندت إليه بعفوية بل بضعف شديد، تضع رأسها الثقيل على كتفه ليبدو التباين الملحوظ بين بشرته البرونزية التي اكتسبت لونها بفعل حرارة الطقس في هذه البقعة النائية، وبين بشرتها ناصعة البياض.
تنهر حالها وتلومها على عدم احتجاجها عندما طوق خصرها بذراع يتقدم بها ناحية حوض الاغتسال المعلق بجدار الحمام.
ومن ثم أفرج عن حصار خصرها وهو يتمتم إلى جانب أذنها يقول بخشونة وهو يمسك إحدى يديها بلين يضعها على عمود معدني مثبت بشكل أفقي إلى جانب الحوض ذلك الذي يستخدم لتعليق المناشف، يطالبها بالآتي:
-تمسكي بهذا جيداً (كيتي)، فلابد من أن أطهر جروح يديك.
فعلت ما قاله ولكن بشكل تلقائي وليس استجابة لطلبه، فمن كان يصقل جسدها قد تنحى، ووقتها لم تعِ ما أو مَن هو، ولكن مَن كان يسندها بحماية غادرها ليعود من جديد.
ولكن هذه المرة أحست بدفء جسده، خلف خاصتها الذي يرتجف من شدة الوجع، ومن ثم التقط يدها الحرة وذراعيه حولها على كلا الجانبين.
والأَمَرُ من هذا أنها ما إن أحست بداعمها خلفها ألقت بحالها عليه فالتصق جسديهما معاً، وما تشعره من خزي الآن قد تضاعف عندما تذكرت ما ألقاه على مسامعها بعد فعلتها غير المقصودة تلك، إذ قال:
-لا (كيتي)، استقيمي حباً في الله، فكيف سأفعلها وأنت تُحَمِلينني ثقل جسدك أيضاً ؟!
-عاودي التمسك بالحامل.
ما بها في هذا الوقت أوقف كل قدرة لديها على الاستيعاب، فلم تمتثل لما يقول، لذا شدد من حصار خصرها يتراجع بها إلى الوراء يجبرها على الانحناء، ولكن عن أي إجبار تتحدث؟! فهي كانت بين يديه كالدمية يحركها كيفما يشاء وكأنها فقدت الروح.
جلس على أرضية الحمام وهوى جسدها يحتل المساحة ما بين ساقيه، ورأسها ارتطم بقوة أعلى كتفه فتأوهت بتصدع بعد أن رمقته بنظرة مشوشة والغريب أنها تتذكر ذلك التعبير الذي ارتسم على وجهه الممتعض فقد كان مجبر على مساعدتها أو ربما مستاء لما يفعل، وبدى هذا جلياً وبوضوح بسبب بروز خطوط فمه القاسي المستقيم وعينيه اللتان أطل منهما الغضب ليتجلَ ودون شك مشاعره النافرة لها.
وسؤال جال بخاطرها ذُيِّل بإجابة لا تحتمل الشك (ليس هناك سيدة بالقلعة خاصته)، لا زوجة!
وتأكد حدسها بسبب نقص اللمسات الأنثوية، فما من زوجة ستكن متسامحة كل هذا القدر وتدع زوجها يقم بمعاونة أخرى في وجودها، و حتماً شخص متعجرف كهذا، المرأة التي تشاركه نزواته لن تكن عنصراً أساسياً بحياته، فهو حقاً لا يحتمل.
تلك الحقيقة التي أقرتها تناقض تماماً حلمها به في غفوتها وأحست بتحولٍ غريب في مشاعرها تجاهه.
ولكن ما حدث لا يمكنها إصلاحه، ستتغاضى عن أي شيء دار وهي في حالة الضعف التي كانت عليها، فبعد أن ترحل من هنا حتماً ستنسى.
استكملت طريقها تلج إلى المرحاض، توصد الباب خلفها بحدة محكمة غلق مزلاجه حتى لا يقتحم هذا البغيض خلوتها وهي تقضي حاجتها، يكفيها ما بها من حرج ولا تعلم كيف ستأتيها الجرأة لتواجهه بعد ما حدث!!
انقضت حاجتها للمرحاض فتأهبت للخروج، وقد بلغت روحها الحلقوم من مجاهدتها لمجرد قضاء حاجة، تأفأفت بضيق فكيف لها أن تصل إلى حيث التخت، وتمتمت بغيظ:
-قاعد لي في فدان!! الواحد حاسس أنه على ما يوصل هيكون طلعت روحه!
ولِحظِّها العسر فتحت المزلاج، وهي تستند على غير هدى إلى الجدار المجاور للباب، فأطاحت يدها دون عمد بتلك الخزانة الصغيرة المعلقة على الحائط لتقع أرضاً،. وتتناثر محتوياتها وعلب الأدوية التي بداخلها تبعثرت كل واحدة في اتجاه، فعقبت بامتعاض:
-يا سنة سوخة يا ولاد! هو أنا ناقصة؟!
-طب هلم أمهم إزاي دول، وأننا مش قادرة أقف مش أوطي أجيب واحدة م الشرق وواحدة م الغرب؟!
التفتت تتراجع عن الباب ولأول مرة تخدمها الصدفة؛ فما إن استدارت توالي ظهرها للباب، حتى وجدت من استفاق من غفوته التي كانت هي ضيفة شرفها يقتحم عليها المرحاض كما توقعت فلو لم تتنحَ لكان جسدها يفترش الأرض، وما إن رأها ……..
❈-❈-❈
قضى الدون (چاكوب) ليلته يخطط لمراحله القادمة، وذلك بعد أن جهز (ماركوس) للاجتماع المصيري الذي ضم عدداً كبيراً من الموزعين الذين سنحت لهم الفرصة للقدوم بشخصهم إلى مقر شركة (ألبرتو).
أما من منعتهم ظروفهم من الحضور، كانوا متواجدين عبر غرفة دردشة جماعية على إحدى المنصات الإلكترونية، أرسل رابطها إليهم مديرة أعمال الدون (چاكوب)، وها قد حصر عدداً لا بأس به ممن يعملون معه في كلا المجالين.
وأصبحت الخطوة الأكثر أهمية والتي سيستهدفها في مجلسهم هذا هي كيفية إقناعهم بفكرة تخليهم عن المكاسب الخرافية التي يجنوها من وراء تجارتهم الممنوعة تلك، وهذا سيكون لفترة وجيزة، بل والدخول كشركاء مساهمين في مشروع ضخم كالذي يُنسق له الدون منذ فترة.
تحمحم الدون (چاكوب) يجلي صوته يستهل الجلسة المنعقدة موجهاً حديثه لمَن يلتفون حول مائدة المؤتمرات الممتدة أمامه على مقاعدهم، وأولئك الذين يتابعون المجريات على شاشات الحواسيب الخاصة بهم.
وكل عضو من أعضاء الاجتماع يجلس في كامل انتباهه، يتناوب توزيع النظرات ما بين مضيفهم وضيوف الشرف الظاهرة صورهم على الشاشة العريضة المعلقة على الحائط، يضعون سماعات الأذن اللاسلكية، متأهبون بل ومتلهفون لمعرفة هذا الأمر الجلل الذي على إثره أمر الدون (چاكوب) بجمعهم وعلى الفور.
الدون (چاكوب) بوقارٍ وثبات:
-تشرفت بلقاءكم اليوم، وأتمنى أن يكون اجتماعنا مثمر.
ويلقى اقتراحي القبول من جميع الحضور.
همهم الجمع يردون التحية كلاً منهم بلغته فهناك أفراد من شتى بقاع الأرض ووظيفة سماعات الرأس هي التواصل والترجمة للغة التي اختارها كل شخص منهم من قائمة منسدلة على شاشة حاسوبه.
تمركزت الأعين باتجاه منظم المجلس الذي يجاوره أخيه وذراعه الأيمن (ماركوس)، وقد زادت مقدمة الدون التشويقية من رغبتهم في الإفصاح عن المزيد من قِبَله.
ليبدأ الكابو (ماتيو) أحد زعماء المافيا الإيطالية وواحد ممَن يتعهدون بتوريد الحصة الربع سنوية من السلاح التي يوزعها الدون (چاكوب) كل ثلاثة أشهر بمعرفته على أتباعه في دول النزاع الذين يقومون بدورهم بتصريفها لمَن يدفع أكثر سواء أكانوا قادة الجماعات الإرهابية أو تلك الطوائف الدينية المتطرفة.
الكابو (ماتيو) له معزة خاصة بقلب مضيفهم، فهو الأب الروحي للدون (چاكوب)، وكذلك هو من سانده بعد فاجعة موت أبيه وإصابته هو شخصياً في ذاك اليوم، وساعده في إبادة عائلة المافيا محل النزاع إنتقاماً من قاتلي رفيق عمره، ولهذا ف(چاكوب) يكن له التقدير والمحبة:
-تحدث، بني ما الأمر؟!
(چاكول) باحترام:
-أوامرك يا زعيم.
-بالطبع حضرتك على علم بتلك القرية السياحية التي أنتهيت من تأسيسها بضواحي بوسطن؟
الكابو (ماتيو) بتأكيد:
-أجل، ما بها؟
الدون (چاكوب) باستفاضة:
-قررت تغيير نشاطها، سأجعلها مدينة صناعية.
الكابو (ماتيو) بتعجب:
-لِم؟! ما دُمت أسستها كواجهة لعملنا، فاجعلها منشأة سياحية وبهذا سيكون الأمر أكثر واقعية، السياحة تدر دخل وفير وستصرف النظر عن مصادر أموالك، ونسبة الخسائر في هذا النشاط تكاد تكون معدومة على عكس الأنشطة الص….
أضاءت صورة أخرى لأحد المتضامنين في هذا الاجتماع إلى جانب صورة الكابو (ماتيو) على شاشة العرض، وإذا كان الكابو لم يتمكن من الحضور لبعد المسافة وكثرة شاغلاته إلا أن الذي قاطعه فاتحاً مكبر الصوت لديه دون إذن أو سبق إنذار، لم يأتِ مخافة من أن يغدر به الدون، فصدح صوته يقول مقاطعاً لكبير الحضور، مردفاً بسأم:
-عذراً، ولكن ما دخلنا نحن فيما إذا كنت ستجعلها مدينة سكنية أم صناعية؟!
-هذه مضيعة لوقتنا، هل جمعتنا لنشيد بإنجازاتك؟!
تحامل الدون (چاكوب) على حاله لا إلا يتفوه بما قد يضعه بمأزق مع من أكبر منه سناً وعلاقات، وكذلك نفوذ متشعبة كالكابو (ماتيو) ليس مهابة، فهو وإن فعلها سيكون أهلاً لتحمل كافة العواقب.
ولكن الاحترام شريعة متفق عليها ما دام كبيرهم حاضر فيجب صدور الإذن، ولكنه توعد بداخله لمَن ارتكب هذا الخطأ فهو عندما أعد لائحة بأسماء مَن يود إخطارهم لحضور هذه الجلسة لم يُدرج بها اسم المدعو (سيمانز).
الكابو (ماتيو) مجيباً على الفور:
-(سيماااااانز)، ما بك؟! كيف تجرؤ على مقاطعتي؟!
اهتزت حدقتي هذا القميء الذي اتضحت صورته عبر الشاشة وقد أطرق رأسه بخزي، بينما أعتدل الدون (چاكوب) بجلسته، يسند جذعه إلى ظهر المقعد خلفه، نافخاً صدره بنصر وشماتة.
يستكمل حديثه الموجه إلى الكابو (ماتيو) يقول كمَن يصطاد بالماء العكر بل هو كذلك، وقد جاءته ذلت لسان هذا السفيه على المرام:
-لا تعكر مزاجك يا زعيم، يمكننا الاستغناء عن فرد في جلستنا هذه، وبصفتي مضيفكم لا أسمح بأي تجاوز في حق كبيرنا.
-فأنا أحتاج لمشورتك والاستفادة من خبرتك وعبقريتك الفاذة، ولن يحدث هذا وقد أثار أحد الطائشين غضب عقلنا المدبر.
أومأ الكابو (ماتيو) إلى (چاكوب) باستحسان لكياسته ولباقته في الحديث عكس فاقد الاستيعاب ناتشو، يقول:
-وأنا أؤيدك الرأي، يمكنك إزالته من غرفة الاجتماع.
(سيمانز) باعتراض:
-لكن يا زعيم…….
قاطعه (چاكوب) ينظر إليه بابتسامة ساخرة، يقول بتهكمٍ، تزامناً مع عبث يده بأزرار حاسوبه المتواجد على الطاولة أمامه:
-سلام يا حبي، لا نريد أن نهدر وقتك الثمين.
قالها داعساً على أحد أزرار لوحة مفاتيح الحاسوب بحدة وهو يحل بيده الحرة وثاق سترته، يجلس باسترخاء وعظمة.
الكابو (ماتيو) بتساؤل:
-ها دون (چاكوب)!! اطلعنا على ما يدور برأسك؟
(چاكوب) بثقة، مُرتباً حديثاً منمقاً وفصيح، يقول باستفاضة:
- لقد تحدثت مع أحد رجال الدولة بشأن إيقاف نشاطي في تجارة السلاح والمخدرات على أن أعمل بالتنسيق مع منظمة الأمن الدولي كمورد أسلحة وذخيرة.
-ولكنني طلبت استضافتكم اليوم لنتناقش في أمر قد يكون فيه خير للجميع.
أحد المتواجدين بذاته، رافعاً كفه كإشارة منه برغته في المداخلة الكلامية بين كبيرهم الكابو (ماتيو)، والدون (چاكوب) الذي يكن له جميع الحاضرين كل ودٍ، حتى الشاعرين تجاهه بالغيرة التنافسية لن يجرؤا على إظهارها:
-قطعاً دون (چاكوب) ما دامت جمعتنا بطلب منك سيكون بها خيراً، ولكن ماذا بشأن حصتنا في آخر شحنة.
- لقد تعاقدنا مع تجار التجزئة ومعظمنا جمع المبلغ الذي وردناه لك من المال الذي جمعناه من التجار.
هذا ما كان يخشاه، ماذا سيفعلون إذا علموا إنه ينتوي تسليم الشحنة إلى الشرطة؟!
حتماً ستعم الفوضى، وتذهب كل مجهوداته سدى.
واتته الفكرة على الفور، لذا قال ما جعل (ماركوس) يناظره بدهشة:
-ما علاقة هذا بذاك، كل مَن له حصة في الشحنة سيستلمها بعد انتهاء الاجتماع وعلى الفور؟
تمهل ومن ثم استكمل، يخاطب الكابو (ماتيو):
-استئذنك يا زعيم لحظة، ساستخدم المرحاض الخاص.
ترى سيسلمهم (چاكوب) الشحنة أم لديه خطط أخرى؟!
البارت_8
*في قلعة صياد الوحوش.
التفتت (كيتي) تتراجع عن الباب ولأول مرة تخدمها الصدفة؛ فما إن استدارت توالي ظهرها للباب بعد أن سقطت حاوية الإسعافات أرضاً وتناثرت محتوياتها، حتى وجدت من استفاق من غفوته التي كانت هي ضيفة شرفها يقتحم عليها المرحاض كما توقعت فلو لم تتنحَ لكان جسدها يفترش الأرض.
أخذت (كيتي) تدور حول نفسها بشتات، وما بداخل الخزانة ملقى أرضاً، حتى تمتم هذا النازق، يقول بتهكمٍ:
-هل فتشت واطلعت على ما يكفي أم تحتاجين إلى جولة مع مَن يدلك عن أماكن بحث مجدية؟
انتفخت أوداجها بكيد، فما يقوله هذا القميء غير منطقي على الإطلاق؛ فحتى لو كانت تنقب عن شيء، ستبحث عنه في خزانة المرحاض؟!
إلى هنا وقد اكتفت من إساءته لها وسخريته منها، فالتفتت إليه بتشنج، ولكنها ندمت على ما فعلت؛ فقد أحست وكأن الأرض تتمايل بها وتغشلقت الرؤية.
استندت إلى الجدار المصنوع من الطوب الحراري العتيق الذي يزين الحوائط، تتحرك بتعثرٍ بشكل جانبي إلى أن وقع نظرها على انعكاس صورتها في المرآة المعلقة أعلى حوض الاغتسال.
جحظت عيناها باستدارة وهي ترى الزرقة المائلة إلى اللون الوردي التي تحتل جبهتها، وتلك الهيئة أعادت إلى ذهنها ذكرى الهلع الذي أحسته عندما سحبها من أعلى الجرف بحدة وعنف لتستقر بين أحضانه على قمة التلة إلى بر أمانها.
ومن ثم واجهته، تقول بلا مبالاة:
-علام سأفتش هنا؟! لقد وقعت الخزانة بخطأ غير متعمد.
لوى (أرون) ثغره يقول بعدم تصديق، بنبرة صوت ساخرة:
-أصدقكِ بالطبع.
اقترب يمسك بذراعها ليقودها إلى الخارج، فنفضته من بين يده، تقول باعتراض:
-دعني أنا لست قع…….
بترت عبارتها وهي تشهق بفزع إثر اختلال توازنها، فها هي تكابر ولكن حالتها الصحية السيئة لا تحتمل مجازفات ولا مهاترات هي بالفعل تحتاج للمساعدة.
كان يتوجب عليها أن تحتفظ بأقل قدر من الطاقة لديها كي تصل إلى أقرب مكان يصلح للجلوس بدلاً من أن يؤل بها الحال محمولة بين ذراعيه للمرة الثانية، إذ التقطها بلمح البصر قبل أن يرتطم رأسها بحافة المغطس ينقذ إياها تارة أخرى وبنفس اليوم.
خطى (أرون) يحملها إلى خارج المرحاض ولم يعطها أي حقٍ في الاعتراض، وبرغم ما يراودها من انتفاضة غاشمة لأحاسيس مخزية تحركت نحوه إلا أنه بدا عكسها تماماً، يسير بثبات، وظهر مشدود وأعين لم تلتفت إليها ولو بالخطأ.
بينما هي تحاول التحكم في قرع نابضها وما إن فشلت أخذت تنظم وتيرة تنفسها ولكن كلما استرقت النظر إليه تتبعثر بداخلها أي إرادة، فحبست أنفاسها حتى لا يفتضح أمرها.
مال (أرون) بجذعه يُجْلِسُها على طرف الفراش، يسألها بانزعاجٍ ومقلتيه تنضح بتشفٍ:
-ماذا لو كنت قد تركتكِ كما طلبتِ بالداخل.. دعني!!
قال الأخيرة وهو يقلدها بابتذال من وجهة نظرها، فأجابته باستياء تقول:
-احضر لي ثيابي؛ لأبدل تلك الملابس، ولن أكون مصدر إزعاج بالنسبة إليك.
انكمشت معالم وجهه وهو يقول باستهجان:
-ألم يعلمك أحد بضعة كلمات عن الشكر والعرفان؟!
-كل ما تتفوه به شفاهكِ أشبه برشق الحصى!
تمتمت مطرقة رأسها، تقول بامتعاض مغيظ؛ ثأراً لكبرياء أنوثتها المجروحة، فها هو ودون أدنى مجهود يبذل من قِبَله يجذبها إليه مرات فتتمنى قربه، ومن سماجة ما يقول يجعلها تضرب بكل إحساس يتولد له بداخلها عرض الحائط:
-أنت عاوز دبشتين في دماغك.
تسائل بانتقاد:
-ماذا تقولين؟! لقد نبهتكِ أكثر من مرة ألا تتحدثي بأحجياتكِ تلك، ولكن على ما يبدو أن ليس لديكِ الشجاعة لتقولي ما تريدين بلغة أفهمها.
- جبانة.
شهقت (كيتي) تقول بحدة:
-وحياة أمك!!
عقد ذراعيه أمام صدره يناظرها بتحد، فأضافت بلغته:
-اعطني ثيابي، أود الرحيل وعلى الفور.
رمقها (أرون) ببرود يقترح بأن تلحق طلبها بالآتي:
-إذا سمحت؟
أجابته (كيتي) باندفاعٍ:
-وهل يجب أن أتوسلك كي أحصل على ملابسي؟!
لم يُجِب بل قَلَب عينيه يشيح بوجهه عنها رافعاً ذقنه بشموخ وثقة في أنها ستفعل.
تلاحقت أنفاسها تكظم غيظها قبل أن ترد عليه بلفظٍ قد تندم عليه، فتمهلت للحظات كي تلملم شتات حالها، وهي تدرك أن إثارة متعجرف مثله لن يُفِدها ولن تصل بتحديها له إلى شيء، لذا قالت بهدوء وبالغت في تهذيب عبارتها:
-استمحيك عذراً أن تأتني بثيابي إذا سمحت، فهناك طائرة لابد وأن ألحق بها.
أجابها يقول بتسلية:
-أخشى أنكِ لن تتمكني من اللحاق بها.
❈-❈-❈
*في مقر شركة ألفريدو.
هذا ما كان يخشاه، ماذا سيفعلون إذا علموا إنه ينتوي تسليم الشحنة إلى الشرطة؟!
حتماً ستعم الفوضى، وتذهب كل مجهوداته سدى.
واتته الفكرة على الفور، لذا قال (چاكوب) ما جعل (ماركوس) يناظره بدهشة:
-ما علاقة هذا بذاك، كل مَن له حصة في الشحنة سيستلمها بعد انتهاء الاجتماع وعلى الفور؟
تمهل ومن ثم استكمل، يخاطب الكابو (ماتيو):
-استئذنك يا زعيم لحظة، ساستخدم المرحاض الخاص.
قالها مؤشراً باتجاه بابٍ متواجد على بعد خطوات داخل قاعة الاجتماعات، ويده الأخرى تربت على جيب سترته يتأكد من وجود هاتفه بداخله، في حين أن آته إذن بالسماح على هيئة إيماءة إيجاب من رأس الكابو (ماتيو).
استقام الدون عقِبها ذاهباً صوب الجهة المقصودة بثباتٍ، وما إن ولج إلى المرحاض وأوصد بابه عليه، بدأ الإيقاع السريع وهو يخرج هاتفه بتعجلٍ يُفعِّل أيقونة الاتصال بقاعدة البيانات متجنباً استخدام شبكة (الواي فاي) التي يُبَث عن طريقها الاجتماع الآن لا إلا يكن قد اخترقها أحد من أطراف المنضمين تأميناً لموكله، ففي عملهم الكل لا يأمن للبعض وحتماً هناك من ينقب لمعرفة ما إذا كانت الجلسة مسجلة أو هناك تتبع من قِبَل مباحث القرصنة الإلكترونية.
وعلى الفور أرسل (چاكوب) إحداثيات الموقع الخاصة بمخازن شحنة المخدرات إلى وزيره ذاك ومعها رسالة موجزة تنص على :
-إذا لم تفعلها الآن سأضطر إلى تسليمها إلى الموزعين، تصرف، ولكن مهما حدث لا تتصل بي قبل أن أهاتفك.
وما إن تأكد الدون من وصول المحتوى المرسل، قام بحذف هذه الرسالة الموجهة إلى الرقم السري الغير مسجل للوزير على هاتفه لا لديه ولا أحداً يعرفه إلا قلة قليلة ممَن يثق بهم الوزير حتى أفراد أسرته لا علم لهم بهذا الرقم، وزيادة في الحيطة لم يقم (چاكوب) هو الآخر بإضافته إلى جهات اتصاله وإنما خلده بذاكرته، تحسباً لأي طارئ.
لم يستغرق الأمر وقتاً طويلاً فقط دقيقة أو اثنتين على الأكثر وبعدها خرج إليهم، وهو يجفف يديه التي بللها بالماء قبل مغادرته للمرحاض بإحدى المناشف الورقية التي كورها براحتيه، يقذفها بتصويب ومهارة لاعب سلة محترف داخل صندوق القمامة، يستكمل طريقه نحو مقعده بخطى وقورة، يعاود الجلوس عليه مرة أخرى بكل إباءٍ وعظمة.
❈-❈-❈
*داخل قاعة المؤتمرات بصرح آل (ألفريدو)
مال (چاكوب) بجذعه إلى الطاولة التي أسند عليها ساعديه أمامه يعقد أصابعه معاً، يقول:
-عذراً على المقاطعة يمكننا الاستكمال من حيث توقفنا.
الكابو (ماتيو) بِحثٍ:
-٠هيا (چاكوب) لقد مللنا يا رجل.
(چاكوب) بحماسٍ وأريحية:
-على رسلك يا زعيم.
-لقد فكرت في إنشاء تلك المدينة الصناعية كي تكن أكبر صرح صناعي لتصنيع كافة أنواع الأسلحة بما في ذلك المدرعات، بل والطائرات والسفن الحربية.
همهم الحضور، منهم المستهجن بغيرة، ومنهم من أعجبته الفكرة، وانتقل حماس الدون إليهم يحثونه على موافاتهم بالتفاصيل، بينما صفق الكابو (ماتيو) يقول بفخر:
-هذا هو صغيري المبتكر، حقاً دوماً ما تكون أفكارك خارج الصندوق، ولكن أستسمح لك حكومتك بإقامة مشروع ضخم كهذا؟!
ابتسم (چاكوب) بثقة، وهو يقول بامتنان:
-أشكرك على تشجيعك هذا يا زعيم، فبالأخير لقد اكتسبت ما تشيد به من مهارة على يديك، وبما أنني تلميذك النجيب، فبالتأكيد لم أكن لأعقد جلسة كهذه دون أن يكون لدي موافقة على الأمر لا رجعة فيها.
-كن مطمئناً يا زعيم، الدون (چاكوب) لا ينسج أحلاماً في العراء، حتى أنني أفكر في البحث عن خبراء ذرة لإقامة معمل لتخصيب اليورانيوم.
قال الأخيرة بدعابة، ضحك على إثرها الكابو (ماتيو) وتبعه أغلبية الحضور.
أردف الكابو (ماتيو) من بين ضحكاته، يقول بثناء:
-أعلم دون (چاكوب)، إنك يابس الرأس، وما إن تضع هدفاً صوب عينيك حتماً ستصل إليه.
-ولكنك بهذا ستقيم حرباً عالمية ثالثة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوڤيتي، ولن تتمكن قوى الأمن الدولي من فض هذا النزاع وسنسميها الحرب (الچاكوبية) .
تضاعف الضجيج وتعال صخب المرح عقب تلك المزحة المبتذلة، ولكن الكل يهادن ويجامل كبيرهم، فأجاب الدون (ماسيمو) بثقة:
-سأفعلها بفضل توجيهاتك يا زعيم، ولكن مشروع مهول كهذا لن يتمكن فرد واحد بإنجازه.
- إنه يحتاج إلى أكثر من جهة لتمويله، لذا اخترت رفقائي في الكفاح.
قالها بابتسامة مرحة، ومن ثم استكمل قائلاً:
-فكروا معي جميعاً ما إن تمكنا من فعلها، إنه خير لا ينقطع، منها ستنعدم نسبة المخاطرة وسنعمل على الملأ بدلاً من نشاطتنا بالخفاء، ومنها سنكون صحبة إلى نهاية الطريق.
-كان يمكنني الإقتراض أو إدخال شريك أو اثنين على الأكثر وبالطبع سيشرفني شراكتك التي لا أشك للحظة إنك ستنعم علي بها يا زعيم.
-ولكننا جميعاً بمركب واحد، كنا معاً بالسراء والضراء نعمل كعائلة متضامنة ولا يجوز أن ينجُ أحدنا دون الآخر وذلك ما إن يجد لنفسه طاقة خير.
-لذا أريد أن نكن جميعنا يداً واحدة، والخير سيعم على الجميع.
- إذا ائتلفنا معاً سننجز هذا المشروع بوقتٍ قياسي، ونبدأ في جني أرباحه.
(ماركوس) بإشادة وهو يميل إلى (چاكوب):
-رأي سديد يا صاحب الجمجمة الماسية، وأنا بغبائي كنت استنكر أفعالك، لقد كنت بِعْرة لا أكثر.
الدون (چاكوب) بتهكمٍ:
-أجل، ونمى لك ذيل.
(ماركوس) بلوية ثغر:
-مقبولة منك دون (چاكوب).
(چاكوب) بقطعٍ:
-صه، حتى لا يعتقدون أننا ندبر شيئاً من وراء ظهورهم، كفاك همس ولمز.
اعتدل (ماركوس) بجلسته، فعلى أي حال (چاكوب) محق، إذ أن انعقاد كهذا لا يحتمل أية مهاترات.
مدعو آخر بعد أن استأذن بالحديث:
-ولكن دون (چاكوب) على ما أعتقد أن ما قلته يُعد عرضاً وارد قبوله أو رفضه، أليس كذلك؟!
(ماسيمو) بإقرار:
-بالطبع سير (بنيامين)، لك كامل الحق، ولكنك ما إن قبلت الانضمام إلى كيان كهذا لابد وأن تتخلص من عبث الماضي، لتشهد معنا ميلاد جديد.
السير (بنيامين) بِتنحٍ ضمني:
-لقد اندملت النازعات ببلادي ولا حاجة هناك لِكَم من الأسلحة والذخائر الذي قد يعوض أرباحي بعد توقفي عن تجارة رائجة كالمخدرات، وأي كمية سأبيعها من السلاح لن تقارن بالأرباح التي أُحَصِلُها سنوياً من وراء ترويجي للكوك.
الدون (چاكوب) في محاولة لإقناعه، مردفاً:
-لقد فهمت ما أعنيه على نحو خاطئ نحن لن نروج لتلك الصناعة، نحن سننتج والحكومة ستبيع، وستأتينا عروض مناقصات من حكومات دول أخرى بموافقة من مجلس الأمن الدولي.
-جل ما سنفعله هو تمويل المشروع وإيجاد عمالة واستيراد المعدات، وما أن تبدأ مصانعنا بإنتاج أول قطعة سلاح سنكون بهذا قد وضعنا قدمنا ببداية الطريق لمغارة الكنز المسحور الذي مهما غرفنا منه لن يقل بل سيزيد ويتكاثر.
السير (بنيامين) بعدم اهتمام:
-أنا لا أفهم بهذا المجال سأبقي على تجارتي في الكوك، هذا ما أبدع……..
أشار الدون (چاكوب) إليه بالتمهل، وقد التمعت عينيه بمكر وتحفز، وهذا ما إن علا صوت رنين هاتفه برقم أحد أتباعه ممَن يُرابِطون أمام مخازن الشحنة.
فأطاح (ماسيمو) عن عمد بزجاجة المياه الغازية التي وضعها طاقم الخدمات المشرف على تجهيز القاعة أمامه قبل استقبال الوافدين كما هو الحال مع جميع الحاضرين.
فكل منهم مسند إلى جوار حاسوبه، وواجب ضيافته، ويتوسط الطاولة الممتدة أطباق تقديم فاخرة تحتوي على أشهى أنواع الفاكهة التي تنمو بأراضي تلك الرقعة من الأرض، وأصناف أخرى تم جلبها بطائرة خاصة.
وكذلك يوجد دلو معدني يتدلى على حافته محرمة من الحرير الأحمر، يحوي بداخله قنينات عدة من أفخر أنواع الخمور والنبيذ المعتق، وعبوات من الشيكولاته المحشوة بماء الكحول عالي التركيز المنكهة بالطعوم المختلفة، كل شيء متاح.
فبعد أن يُغلق باب القاعة غير مسموح لأي شخص بالدلوف إليها مهما كانت ماهيته حتى لو كان القاصد قوة من الشرطة فعليهم الانتظار إلى أن يُسمح لهم بالولوج، أو أن ينتهِ الدون من شاغلته بالداخل ويخرج إليهم، وحدثت مراراً بالسابق ولم تجرؤ الشرطة على فعلها.
أجل يا سادة، فنحن نتحدث عن الدون (چاكوب ألبرتو) سابقة عصره، وأصغر زعيم مافيا بالوقت الحالي.
سقطت زجاجة المياه الغازية ذات العبوة المعدنية سهلة الفتح والتي قد أزال عنها الدون (چاكوب) مكبس غلقها استعداداً لهذه المكالمة في مشهد من تأليفه وتمثيله وأخرجه فأبدع وتفاعل معه الحضور.
وذلك بعد أن خرجت من بين شفاه الدون سبة نابية بضجر مصطنع إثر سقوط محتويات العبوة على سترة بذته الفاخرة وكذلك منطاله فناوله مَن يجلس على يساره بعض المحارم من العبوة الموجودة أمامه على سطح الطاولة .
بينما رمق الدون مَن على يمينه يقول بِحثٍ بعد أن عاود المتصل المحاولة مرةً أخرى ليردف (چاكوب) بصوتٍ مسموع:
-اجب (ماركوس) وارفع صوت المكبر؛ حتى أتمكن من سماعه، إنه (رامون).
فعل (ماركوس) ما طُلب منه على الفور، ليندفع المتصل ملقياً ما يريد قوله دفعة واحدة وبسرعة الطلقة، حتى وإن شاب صوته الهلع ولكن عاقبة التأخير في إبلاغ زعيمه أشد وطئاً مما حدث، إذ أردف يقول:
-سيدي لقد هاجمتنا جموع من الرجال، يستقلون سيارات مقاومة للرصاص، يحملون قنابل يدوية.
-ما إن ألقوها باتجاه بوابات المخازن حتى عمَّت الأجواء أبخرة أصابت طاقم الحراسة بشلل حركي مؤقت.
-وقام المهاجمون بإضرام النيران داخل المخازن على مرأى من الجميع.
-وقائد هؤلاء الأوغاد أوصى واحد من رجالنا بإبلاغك السلام على لسان الزعيم (سيمانز).
استعرت عينا (ماسيمو) بالغضب ليس لكونه شك بأن (سيمانز) هو الفاعل الحقيقي، فهو أجبن من أن يفعلها وحتى إن قاده شيطانه لهذا لن يُصرِح بها على الملأ ويترك رسالة شفهية موقعة باسمه.
بل وإن أثيرت الشكوك حوله سينكر فعلته، حتى ولو استشاط غيظاً بعد أن قطع (چاكوب) اتصاله بغرفة الدردشة وأقصاه عن هذا الاجتماع، فهذا رد فعل طبيعي لحماقة (سيمانز) أمام كبيرهم وأي شخص بمكان الدون كان سيفعلها، ولكن (سيمانز) ليس بهذا القدر من الغباء وعمى البصيرة ليردها بوقتها وبهذه الطريقة التي نُفِذت بها خطة الحريق، لا !! ويقر بأنه الفاعل!!
ما أجج ثورة (چاكوب) شيء آخر، ألا وهو وقاحة (رامون)؛ فلا زعيم هنا غيره، وهذا اللقب وإن قَبِل الدون أن يُلحق باسم شخص آخر فسيكون الكابو (ماتيو)، وإن تدنت قيمة اللقب وسبقت من دونهما، فقطعاً لن يكون (سيمانز).
وفي حالة أن هادن رجال (سيمانز) ومدحوا كبيرهم برياء، وأقرنوا لقب الزعيم باسم گالنكرة (سيمانز) فهم أحرار في نفاقهم له.
أما أن يَصْدُر هذا اللقب له على لسان رجل من رجال الدون (چاكوب) فها قد أتت الدنيا بآخر ما لديها من طرائف!
وطرائف سخيفة وغير مقبولة أيضاً!
وسيحاسب مَن ألقى على مسامعه هذه المزحة عقاباً على سماجته.
هدر (چاكوب) في (رامون) بحدة، وهو يقول:
-سأُعلِمك لاحقاً مَن هو الزعيم، اغلق الخط أيها الأحمق.
اعتراضات مكتومة أبت الألسن نطقها، بينما لا مانع قد يعوق الكابو (ماتيو) من التعقيب على ما حدث، حتى وإن خشى الجميع التفوه في حضرته والإشارة بأصابع الاتهام إلى هذا المتبجح (سيمانز) ، إذ قال الكابو يضغط على حروف كلماته بشراسة:
-لا (سيمانز)!! لقد تعديت كل الحدود يا رجل، يؤسفني أن يخسر شاب كهذا حياته بسبب حماقة ارتكبها مع الشخص الخطأ.
-ولكن لن نكن أغبياء مثله ونرد على بلادته لحظياً، فأخذ الثأر لابد له من ترتيبات كي يكن عِبرة لمَن يقوده غباءه إلى فعلة مماثلة.
أحد الحضور ممَن تضرروا من حرق حصته ضمن الشحنة، يقول بتوجسٍ بعد طلب الإذن:
-وما التصرف الآن يا زعيم؟! كل واحد منا قد وضع مبلغاً محرزاً من المال لينل حصة مما احترقت داخل المخازن بسبب غُشم هذا الأحمق.
-والعداوة بين الدون (چاكوب) وبينه لا دخل لنا بها.
الكابو (ماتيو) بإقرارٍ غير قابل للنقاش:
-سيُطبق العرف في مجالنا ستتحملون نصف الخسارة والدون (چاكوب) النصف الآخر، وأنا مَن سيسد عنه، وهذا مؤقتاً فما أرتبه لهذا الأبله المتبجح سيعيد لكم ما خسرتموه وبالضعف كتعويض لتنكيس كلمتكم مع موزعيكم.
انبلجت وجوه الحاضرين وشق الارتياح طريقه إلى معالمهم بعد أن كان الهم يعتلي ملامح أوجههم، فطالما قطع الكابو (ماتيو) عهداً على حاله، فقطعاً سينفذ، وما دام وعدهم بالضعف فهذا تعويض أكثر من عادل، لينطق من جادل مسبقاً بالآتي:
-Fair، ما دام هذا ما حكمت به يا زعيم فنحن طوع يدك.
أما (ماركوس) الذي بدأت تتضح الصورة أمام أعينه، همس إلى (چاكوب) وهو يرمقه بإعجاب:
-فعلتها يا ذئب؟! ودُون أن تخسر سنتاً واحداً! وأنا مَن كنت أعول هم المبالغ الطائلة التي كنا سنتكبدها لو نُفِذ ما أقررته أنت بالطريقة التي ذكرتها.
(چاكوب) بهمسٍ مماثل، يبتسم بخيلاء وهو يقول:
-أنا قلت سأسلمها ولم أكسر كلمتي، ولكن ماذا أفعل عزيزي (سيمانز) ؟! لقد چُنَّ على الأخير وهو مَن جعلني أمقته وها قد جنى على حاله، وسلاطة لسانه جعلت رأسه يرتطم بحائل صلد فسلمت الشحنة ولبسها هو، أتعلم؟!
رمقه (ماركوس) بنظرة متحيرة، متسائلاً:
-لا أعلم، اطرب مسامعي يا حريف!!
(چاكوب) بتضامنٍ زائف:
-لقد تألمت لأجله يا رجل، وقلبي الكبير يتعاطف معه.
قالها (چاكوب) مطرقاً رأسه، يهزه بحزن مصطنع، بينما عقب (ماركوس) بسخرية:
-حقاً؟! لقد صدقتك!!
رفع (چاكوب) بصره إليه غامزاً إليه بيمينه، قائلاً بإدعاء:
-هل تريد أن أقسم على ذلك؟! ومحبته في قلبي لقد حزنت لأجله.
تحكم (ماركوس) بحاله بصعوبة مستدعياً أقصى درجات الثبات الانفعالي لا إلا ينفجر ضاحكاً فيثير شكوك الجميع، فابتسم بسخرية يقول بتهكم:
-صدقت من دون قسم يا ذا القلب الحنون، أدام الله عدم القبول بينكما…. أعني المحبة بينكم.
(چاكوب) لاوياً ثغره، يعقب بنفور مصطنع:
-من هذه الجهة اطمئن، حبنا الكبير مبارك فيه، ولسنا بحاجة إلى دعواتك.
انتظرونا في حلقات أكثر تشويق ومتعة.
البارت_9
*في برج المراقبة خاصة صياد الوحوش.
(كيتي) بتململ:
-هناك طائرة لابد وأن ألحق بها.
أجابها (أرون)، يقول بتسلية:
-أخشى أنكِ لن تتمكني من اللحاق بها.
(كيتي) بعدم فهم:
-ماذا تعني؟!
فرك (أرون) كلا راحتيه معاً كمن يستعد على خوض معركة، ولا يعلم لِمَ ذئبه (شيزار) ينبأه بأن خصمه لن يخضع بسهولة، هامساً بها بعقل صاحبه:
-اللعنة رفيقتنا يابسة الرأس، ولكن منحنياتها مثيرة.
زفر (أرون) بغيظٍ متمتماً : – سحقاً!! من أين يأتني البلاء دفعة واحدة؟!
-اصمت أيها الوقح.
وإذا لم تكن (كيتي) قد استمعت إلى صفاقة ما قاله (شيزار) إلا أن بذاءة لسان (أرون) التقطتها بوضوح تأخذ المعنى على حالها لتجيبه بسوقية:
-مين دي اللي بلوة يا ابن تلاتين صرمة!! أنا وقحة يا واطي؟!
“لا بقى أنا كأسماء لازم أعقب 🙈، اهدى يا شبح عشان الطالعة دي ماانتش كدها ورور هايعمل منك شندوتشات شاورما سوري لشيزار🤝😂”.
انتبه (أرون) لما قال، وثورتها تنم عن سخط ملتمساً لها العذر، يقول بلين:
-لا أعنيك بما قلته، لقد تذكرت موقفاً ما، أم بشأن الطائرة فقد كان من المفترض أن لديكِ موعد طائرة، ولكنني أجبت على هاتفكِ عندما اتصلت موظفة الاستعلامات لتستكمل بعض البيانات الشخصية، وأبلغتها أنكِ قد عدلتِ عن فكرة السفر بالوقت الحالي.
شهقت (كيتي) بتفاجئ واستياء، ولكن خرجت كلماتها باللهجة التي تجيدها، وبصوتٍ عالٍ ولكنها حتماً ستندم على فعل ذلك إذ تناست ما بها من وجع، وتجاهلت ألم رأسها الذي يُذكِّرها بأن ما يتعدى عن الهمس سيكون طرقة بجمجمتها، وكَمدٍ عاقبته لا تحتمل:
-نعم يا عين مامتك؟!
وقبل أن يستفسر (أرون) عما أردفت به، هدر (شيزار) باعتراضٍ، ضج به رأس (أرون)، يقول:
-ما بها عين أمك (أرون)؟ ماذا تعني هذه الوتكة؟!
“وتكة🙃، شوشو أنت من حدانا ولا من حداهم🤔، على فكرة مش لغة ذئاب دي لاء😂”.
قطب (أرون) جبينه، يحاول استدراك ما يلعي به زوج المعاتيه اللذيْن قد وقع بينهما كالحَب تحت حجري الرُّحى، ولكن مهلاً!! لِم جاءت تلك المتبجحة على ذكر والدته؟!
(أرون) بحدة، فلابد وأنها أخطأت في حقه حتى ولو لم يستطع تفسير ما قالته، ولكن هيئتها تدل على ذلك، كما أن امتعاض (شيزر) يؤكد حدسه:
-لا! هذا كثير! لقد تحملتكِ بشكلٍ زائدٍ عن الحد، وهذا عكس طبيعتي.
تعجبت (كيتي) من رده وبدأت تشك من أنه يفهم عليها، على أية حال لقد خرج تعقيبها الوقح هذا عن غير عمد، سألته بتلبك وبنبرة صوت أقل حدة عن زي قبل:
-ماذا تقصد؟
(أرون) بتحذير:
-لا ترفعي صوتك مجدداً في حضرتي، ولا تتحدثي بهذه اللهجة أمامي أيضاً.
- أنا لا أفهم منها شيئاً، فلا تستغلي هذا لتُنفسي عن غضبكِ.
-إذا كان لديكِ الشجاعة كما ذكرتُ مسبقاً، فجربي أنا تخطأي بما أفهمه، وسترين.
تمتمت (كيتي) بصوت غير مسموع:
-ده أنا هنفس في وشك من كتر رخامة أم حضرتك.
(شيزار) صاحب الحواس القوية قد استمع بوضوح لما همست به (كيتي)، يقول باستفسار : – (أرون)؟ سمعة أمك على المحك يا رجل! أستصم آذانك عما قالت؟!
(أرون) بهمس : – ما الذي قالته تحديداً؟!
(شيزار) بتسلية : – تدعي أن والدتك لزجة وتهدد بتفجير ولكن لا أظن أنها قادرة على فعلها.. تراها شرسة هكذا في أمور أخرى؟! أتوق لاستكشاف هذا (أرون)..
اتسعت حدقتي (أرون) وهو ينصت إلى (شيزار) عبر الرابط الذي بينهما، وإذا كان قد استاء مما قذفت به والدته، فتلك الأفكار المنحرفة التي يبثها (شيزار) بعقله فاقت كل حدود الصبر، وقبل أن يلجم ذئبه الثائر، أجابته (كيتي) تقول بصوت مسموع:
-أنا لم أخطئ حتى في حديثي باللهجة التي لا تفهمها.
-كل ما في الأمر إنني أردت أن أعرف لِمَ فعلت هذا؟
-كما أنه من غير اللائق أن تعبث بمحتويات حقيبتي، وتفتش بأغراضي الشخصية.
-هذا لا يصح، ولا يحق لك فعل ذلك.
(أرون) برفعة حاجب تنم عن دهشته:
-لقد ظننت بأنه طالما حالتك الصحية لن تمكنكِ من الانتفاع بالحجز وكذلك التذكرة التي حجزتها مسبقاً مفتوحة، فسيكون إلغاء الحجز ذا مردود عليكِ.
-بل أعتقدت أنكِ ستكونين ممتنة لي بتصرفي هذا فقد أتحت لكِ فرصة أخرى لمعاودة الحجز بدلاً من ضياعها.
(شيزار) متمتماً : – عن أي امتنان تتحدث (أرون)!! أنا أريد قبلة.
جز (أرون) على أنيابه بضيق مما أردف به (شيزار) يستمكل حديثه الموجه إلى (كيتي) قائلاً:
-لكن على ما يبدو أنه كان من المفترض ألا أتدخل، وكفي عن ثرثرتكِ ولا تخطئي في حديثكِ معي، ما يشفع لكِ تلك الحالة المزرية التي أنت عليها الآن.
(كيتي) وهي تهم بالنهوض عن السرير، متجاهلة الإقرار بحكمة ما فعل بشأن الحجز:
-أنا على خير ما يرام.
-أتعلم؟ يمكنك الإبقاء على ثيابي أيضاً، فأنا سأغادر هكذا.
استقامت تقف على قدميها المرتجفتين ألماً، وهي تلملم عليها تلك الثياب الفضفاضة التي تبدو بها كالقلم الرصاص المتقلقل بداخلها بسبب فارق الهيئة الجثمانية بينها وبين صاحب الثياب الذي يقف بثباتٍ يشاهد ما تفعله وباستمتاع، ولكن ما إن بدأت تخطو أولى خطواتها باتجاه باب الغرفة وجدته يقف أمامها ليعترض طريقها، لذا أضافت بحدة:
-قلت أني سأغادر والآن.
مال رأسه إلى جانب واحد وهو يرمقها بدهشة لاويًا ثغره بابتسامة جانبية ساخرة، ومن ثم تنحى يفسح لها الطريق، بل وتقدمها يدير مقبض الباب يفتحه لها، يشير بيده في اتجاه الخارج كعلامة سماح، وهو يقول متجاهلاً اعتراض (شيزار) الذي استاء كثيراً من رد فعل (أرون) :
-على الرحب والسعة لكِ ما أردتِ.
-آه نسيت أن أخبركِ أن حارس المرأب الذي أودعتِ لديه السيارة، قد أتى إلى هنا يسأل عن صاحبتها، وعلى ما يبدو أنه يعرف بأنكِ هنا، فمن الواضح إنكِ أخبرته عن وجهتكِ، لذا أتى.
-على العموم لقد أخبرته إنكِ هنا بالفعل، وذهبت معه لإحضارها وها هي بداخل حديقة البرج إذا كنتِ مهتمة بشأنها.
أرادت تجاهل أي من ملاحظاته الجافية كي تتمكن من الخروج بإيباءٍ ورأسٍ شامخ، ولكنها ما إن استكملت خطاها، حتى كادت أن تتعرقل بسبب هذا المنطال الطويل خاصته الذي حال دون ثباتها.
ولكن ما تدركه تماماً بالرغم من أنها لم تلتفت باتجاهه أن هناك ابتسامة تهكمية ساخرة تزين وجه هذا الذي يقف يتابعها بتسلية ، وهي تجاهد للوصول إلى الباب ولم يحرك ساكناً ليمنعها ولو بكلمة.
ولكن لِم المنع؟ فهو بالتأكيد يعلم أن ما تحاول تنفيذه لهو درب من دروب المستحيل، أولاً لأن إصابتها لن تسمح لها بمجهودٍ كهذا.
ثانياً خروجها بهذه الثياب وتلك الهيئة سيجعل منها أضحوكة أمام المارة والمسافرين هذا ما إن سمح لها أمن المطار بالدخول ولم يطلبوا لها سيارة مستشفى الأمراض العقلية، ثالثاً…..
تمتمت (كيتي) وهي مطرقة رأسها بخزي:
-لكنني أخشى أن…..
قاطعها (أرون) يقول بسخرية نضحت بها نبرة صوته:
-لكنكِ وللأسف لا تملكين الآن مفاتيح السيارة التي كانت بحقيبتكِ هي الأخرى، وصارت الآن بحوزتي، وبما أنكِ قررتِ المغادرة تاركة خلفكِ الثياب و الحقيبة أيضاً، فلن تحصلي على المفاتيح.
-ولكن واحدة مثلكِ قطعاً ستُصَرِّف حالها، فربما لديكِ مهارة عالية في سرقة السيارات كمهارتكِ في التجسس، فحِرفة كتلك ستفيدكِ بعملكِ هذا.
أجابته (كيتي) وهي مضطرة لتجاوز كل تعبيراته اللفظية الساخرة:
-لن أتمكن من فعل ذلك بالطبع.
هز (أرون) رأسه بأسفٍ مصطنع، وهو يقول:
-لا!! أحزنتني حقاً، ربما يتوجب عليكِ أن تتعلمي.
-تجاهلي موضوع السيارة، فيمكنكِ السير على قدميكِ مسافة كيلو متر ونصف؛ لإيجاد سيارة أجرة؛ فكما رأيتِ وأنتِ في طريقكِ إلى هنا أن هذه المنطقة شبه مقطوعة.
-والآن.. هناك مشكلة أخرى.
ناظرته (كيتي) بتوجسٍ، وهي تتسأل بريبة، فلابد وأن ما يهم بقوله كارثة وليست مشكلة عادية يسهل حلها:
-ما هي؟
تابع (أرون) وهو يعقد ذراعيه أمام صدره، يقول بإقرارٍ:
-هي أنني كما أبقيت على الثياب التي كنتِ تردينها.
- أحتفظت أيضاً بالحقيبة الكبيرة المليئة بالملابس والأغراض الشخصية التي كانت بحقيبة السيارة الخلفية وعلى ما أظن أن ما بالحقيبة عائد إليكِ، أم أنكِ قمتِ بسرقتها من إحداهن؟
عقب (شيزار) بتسلية : – واو، رفيقتنا لصة؟! يبدو أننا سنستمتع كثيراً (أرون)، استمر يا رجل أنت تبلي بلاءً حسناً، لكن أياك وتركها لتغادر.
(كيتي) بذهول، فماذا يظن حاله ليتهمها بالسرقة، فأردفت بامتعاض:
-ماذا تقول أنت؟!
(أرون) معقباً ببرود:
-إذاً فإنها لكِ؟! أو بالأحرى صارت لي فهي بحيازتي، وقطعاً لن يكن من اللائق الذهاب إلى المطار وأنتِ ترتدين ملابس النوم الرجالية خاصتي.
-هذا ما إذا سمحت لكِ باستخدامها خارج قلعتي.
-ولكن إذا كنتِ مصرة على الرحيل بالطبع لن أتمكن من منعكِ، ولكن يتوجب عليكِ خلعها قبل المغادرة فأنا لا أفرط بأغراضي.
صافرة تشجيع رنت بعقل (أرون)، و(شيزار) يقول بابتهاجٍ:
-كم سأحب ذلك (أرون)!! هيا (كيتي) لا تكوني خجولة، فهذا لا يناسبكِ!!
قالها (شيزار) ولكن المعنية بالالتماس لم تسمعه بالطبع، ولكن ما ألقاه (أرون) كان كفيلاً بأن يجعل جسدها يرتجف خوفاً، وبدأ جبينها في التعرق، وأحمرت وجنتيها من شدة الخجل، وأخذت تحكم قبضتها على الثياب بهلعٍ، ولكن أناملها المتورمة لا تلبي الأمر بشكلٍ جيد.
لم يهتم (أرون) للروع الذي ظهر جلياً على معالم وجهها، ولم يرأف لحالتها بل استكمل يقول:
-وحتى وإن تخليتِ عن حياءكِ وفعلتها، فيؤسفني أن أخبركِ بأن الأوان قد فات.
-والطائرة التي كان من المفترض أن تغادري على متنها، قد أقلعت منذ عدة ساعات.
قالها وهو يبسط راحة يده بشكل أفقي لأعلى يشير إليها كعلامة انطلاق.
كم من الصدمات عليها أن تواجهها على يديه؟!
التف رأسها تلقائياً باتجاه النافذة المغلقة، وقد تأكد حدسها فالضوء الذي اخترق مفارق باب النافذة يؤكد ما يقوله، ولكنها تسائلت على أمل أن ينفِ توقعتها:
-لا!! هل مَر على وجودي هنا كل هذا الوقت؟!
لم يأتها الرد، فقط إيماءة إيجاب من رأسه أسرعت على إثرها تدير مقبض النافدة فاتحة كلا بابيها على مصرعيهما، تلقي نظرة بالخارج، وإذا بقرص الشمس يتوسط السماء، لتتسائل بخيبة:
-لا!! هذا يعني أنني قضيت الليلة هنا؟!
لم يكن تساؤل قدر أنه كان إقرار ينم عن استيائها، ولكنه دَرَجه تحت بند التساؤلات ليعطها إجابته الساخرة المستفزة تلك، ألا وهي:
-أجل وبكل تأكيد، كنت هنا طوال الليل، ولكن عليكِ أن تكوني ممتنة لذلك.
-فمن الممكن أن تتصدر جرائدكِ الصفراء قائمة الأكثر رواجاً، هذا ما إذا أنشئتِ مقالاً، وأرفقتِ به صوري تحت عنوان ليلتي مع (أرون دانييل) صياد الوحوش ما رأيكِ؟
❈-❈-❈
صب الدون انتباهه، يستكمل مناقشاته مع الحضور فها قد حُلت معضلة الخلاص من الشحنة، يقول:
-ها قد بدأت الخسائر تتوالى وكأنها إشارة بضرورة المبادرة في اتحاد سيكون لنا فيه الغلبة وسنحقق به أموالاً طائلة.
-نشاطنا القديم أصبح مصدر استنزاف لثروتنا، ولكن المشروع الذي نتحدث بشأنه سيغنينا عن مشاكل كثيرة مع الشرطة، فمن جهة بضاعتنا التي نضحي بها بين الحين والآخر لنجنب العين عنا ونتمكن من تمريق أخرى.
-ومن جهة المكائد التي يدبرها البعض للبعض كما حدث الآن بسبب غيرة (سيمانز) .
-إذا عملنا في مجالٍ مشروعٍ ومربح كهذا، سنُأَمِّن على كافة ممتلكاتنا حتى إذا ما وقع أمر كهذا ستتحمل شركة التأمين النسبة الأكبر من الخسائر.
-والآن ما دام الكابو (ماتيو) يوافقني الرأي يمكننا أن نفعلها لحالنا، الكابو وأنا وأخي (ماركوس)، هل مِن منضمين أم نفض اجتماعنا هذا، ويمضي كل واحد فينا لمباشرة أعماله؟
توالت الأصوات المؤيدة فهذا عبر الشاشة:
-أنا معكم.
وآخر: – بالطبع سأنضم.
وهناك عند رأس الطاولة : – أوافقك الرأي دون (چاكوب) ، هذا مشروع الأحلام.
وغيرهم : – لن أفوت عرضاً كهذا.
حتى مَن عارضه بالبداية أقر بصواب رأيه وعرض عليه الشراكة.
ها قد اجتمع عدد لا بأس به من المؤيدين، وعليه قد علق الكابو (ماتيو):
-حسناً، فلنكتفي بهذا العدد دون (چاكوب) يمكن للبقية الانصراف.
همَّ قلة قليلة من الحاضرين بمغادرة مواقعهم استجابة لطلب الكابو، ولكن هناك نداء أخير كان مصدره الدون (چاكوب) الذي قال:
-من بعد إذنك يا زعيم، مَن سيبقى فليعلم أنه لا مجال للعودة إلى النشاط السابق، ومَن اختار التنحي فليجد له مورد آخر؛ فمَن بقى منا لن يكن لديه ما يسعى المغادرين إليه، لا كوك بعد اليوم.
الكابو (ماتيو) بتأكيد:
-بالطبع دون (چاكوب)، فمَن سيُقبِل على خطوة كهذه لن يحتاج لفتات العمليات السابقة.
بعد خروج المعارضين سواء من القاعة أو غرفة الدردشة الإلكترونية، استقام الدون يخطو بانتشاء نحو منتصف الطاولة، فمَن قَبِل منهم بالعرض سيفي بالغرض ويفيض.
الدون (چاكوب) يقول بنبرة صوت مبتهجة، وهو يلتقط إحدى زجاجات (الشامبين) ينزع عنها فتيلها:
-إذاً فلنشرب نخب اتفقنا.
ومن ثم توجه بنظره إلى شاشة العرض، يقول مخاطباً الكابو (ماتيو) بأسفٍ حقيقي:
-كنت أتمنى أن أنل شرف انضمامك إلينا يا زعيم.
الكابو (ماتيو) بودٍ:
-انتظر لحظة، سأُحضر شرابي، لنحتسِ جميعاً نخب شراكتنا.
قالها ومن ثم اختفى عن الشاشة للحظات، وبعدها عاد يحمل بيده زجاجة من ال (براندي) الفاخر فهذا هو مشروبه المفضل وكذلك كأس كريستالي مُطعَّم بماء الذهب، وشرع يسكب بعض من محتوى الزجاجة بقدحه.
في هذا الحين قد ناب (ماركوس) عن الدون (چاكوب) في مهمة ضيافة المتواجدين الذين ساعدوه بدورهم في إتمام عمله كمضيف، فلا زال هناك الكثير ليتحدثوا بشأنه.
رفع الجميع كؤوسهم، يهللون:
-في نخب شراكتنا.
الدون (چاكوب) باعتراض:
-لا، سنشرب اليوم في صحة زعيمنا، الكابو (ماتيو).
أحدهم بِحثٍ:
-وما أجمله من نذر، فليكن ما قاله الدون (چاكوب)، في صحة الكابو (ماتيو).
همَّ (ماركوس) برفع الكأس إلى فمه، فضيق الدون عينيه رامقاً إياه بتحذيرٍ، يقول بأمر:
-اخفض كأسك (ماركوس).
(ماركوس) بامتعاض:
-لِم أنا مِن دون الجميع؟!
الدون (چاكوب) من بين شفاهٍ مزمومة:
-لا تناقش، ونفذ ما قلت.
-واتصل على الفور بتلك السكرتيرة الخرقاء، لكي تتواصل مع إحدى دور الأزياء التي نتعامل معها لترسل في طلب بذلة أخرى عوضاً عن تلك التي ارتديها، فقد تلخط كلياً بالمياه الغازية .
-ودعها تخصم من راتبها أسبوعين وتبلغ المسئول المالي بذلك.
(ماركوس) بتساؤل:
-لِم لا نذهب إلى القصر لتغيير ملابسنا؟! ولماذا ستخصم من راتب هذه المسكينة دون؟!
(چاكوب) بغيظ:
-لن نذهب لأننا سنتوجه إلى حفل عزيزنا (سيمانز)، وتلك الخرقاء كونها لم تلتزم بما قلت وعكرت مزاجي بانضمام غالينا (سيمانز).
(ماركوس) بتضامن:
-ولكن ما فعلَته عاد بالفائدة علينا!!
(چاكوب) باقتناع:
-إذا فلنصرف لها مكافأة شهر.
(ماركوس) برياءٍ محبب:
-يا لا كرمك دون (چاكوب)، سأنفذ وعلى الفور.
غادر (ماركوس) متوجهاً إلى مكتب الدون بنهاية قاعة الاجتماعات لينفذ ما طُلِب منه، بينما خفض الجميع كؤوسهم بما فيهم الكابو و(چاكوب)، ليبادر الكابو (ماتيو) بسؤاله، قائلاً:
-هل انتهى مهندس تصاميمك من الإنشاءات في المنتجع السياحي ذاك؟
الدون (چاكوب) بإيماءة إبجاب:
-أجل يا زعيم ولكن سيلزمه أسبوعاً إضافياً، لتغيير بعض المرافق بحسب ما سيتطلبه مشروعنا.
الكابو (ماتيو) بثناء:
-عظيم بني، وإلى هذا الحين يجب توفير العمالة.
الدون (چاكوب) بتأييد:
-بالطبع يا زعيم، سوف أتحرى وأجد مَن هم كفء لذلك وذوي خبرة في هذا المجال، ولكن هذا سيكلفنا رواتب فلكية، لذا لدي اقتراح.
أحد الحضور بتشجيع:
-إذاً فلتطلعنا عليه دون (چاكوب) من بعد إذن الكبير، نحن نثق في آرائك.
فرك (چاكوب) راحتيه بانتشاءٍ، يقول بعملية:
-أرى أن نَقوم في البداية بتوظيف مجموعة ممن ذاع سيطهم سواء أكان بالطرق المشروعة أو كانوا يعملون في الخفاء لحساب موردي السلاح التابعين للسوق السوداء أو ممن يعملون بتصاريح لدى المصانع الحربية.
-وإلى جانب هذا نستخدم آخرين حديثي العهد من خريجي كليات الهندسة والمعاهد الفنية، بل سنوظف منهم أعداداً كبيرة وبكثرة، خاصةً لهذا العنصر من العمالة تحديداً فأجورهم لا تقارن بمَن هم أكثر خبرة.
-فنكن بذلك جمعنا بين الكفاءة والعلم و الكوادر الشابة ممن لديهم الطاقة والحماس لندربهم، وسواء الخريجين أو الفنيين لن يكلفونا أجور باهظة.
-وسنكتفي بقلة من الخبراء الذين سنشترط في تعاقدنا معهم تنظيم دورات تدريبية عملية للآخرين الذين سنمضي معهم بدورنا عقود احتكار.
-فليس من المنطقي أن نكسبهم الخبرة ليعود نفعهم إلى غيرنا، ومَن يبلي منهم بلاءً حسناً ويصبح إضافة لنا سنجزل عليه من العطاء وهذا ما إن يتوسع نشاطنا لنضمن ولائهم، ما رأيكم؟
تصفيق حار وهمهمات استحسان صدرت عن الجميع بلا استثناء وعلى رأسهم الكابو (ماتيو)، الذي عقب:
-فكرة عبقرية دون (چاكوب) ابدأ في التنفيذ وعلى الفور.
واحد من الجمع بدعابة:
-أرى أنك بدأت تكتسب صفة دخيلة دون (چاكوب).
-ألا تلاحظ أنه يبدو بخيلاً بعض الشيء يا زعيم؟!
قال الأخيرة موجهاً تساؤله الطريف هذا إلى الكابو (ماتيو)، بينما قهقه (چاكوب) يقول بأنفاسٍ متلاحقة جراء نوبة الضحك هذه:
-إطلاقاً عزيزي، وأنت بقرارة نفسك توقن بأن ما اقترحته حل مميز، فالمنطق يقول أن ندربهم على طريقتنا.
سلم الجميع بفكرة هذا العقل المدبر، فقد بدا واثقاً مما يسعى إلى تحقيقه ولن يتخلَ عما يطمح اليه.
في هذه الأثناء اقترب (ماركوس) يقول:
-تم ما أمرت به دون (چاكوب).
الدون (چاكوب) بصوتٍ مسموع:
-ابدأ في تكثيف مجهوداتك في البحث عن أصحاب الخبرة و الكفاءة، ولا تضع سقفاً للرواتب دع الأمر لي، جل ما يهمني هو الاحتراف.
-أريد عشرة فقط ممَن يمتلكون الموهبة في هذا المجال.
(ماركوس) بعملية:
-حسناً، لا تشغل بالك بالأمر، سأجد لك مطلبك.
-غداً سيأتونك مصطفين أمام باب مكتبك، لتنتقِ منهم مَن تريد.
الكابو (ماتيو) بجدية:
-الأمر متروكاً لك دون (چاكوب)، فقط اطلعني على المستجدات.
-يمكنك فض الاجتماع.
لم يكن (چاكوب) بحاجة إلى التعقيب، إذ شرع الجلوس يغادرون مقاعدهم إلى حيث باب القاعة ومنه إلى خارجها، وذلك بعد أن ألقَ كبيرهم إشارة بانتهاء الجلسة قبل أن تعتم الشاشة بصورته التي تلاشت بخروجه من غرفة الدردشة الإلكترونية.
بقى الدون (چاكوب)، و(ماركوس) الذي مد يده يخفض شاشة الحاسب المحمول رافعًا إياه عن الطاولة بعد أن نزع عنه قابس الشاحن وكابل توصيله بالشاشة، يقول بسخرية:
-أراهنك بأن (ناتاشا) ستحضر الحفل بأبهى صورة لها، فهي تحب المظاهر والبذخ المُبالغ به، سترى.
- حتماً ستحاول التلاعب بك فهي امرأة لا تكتفي برجل واحد.
قاطعه الدون (چاكوب)، هادراً فيه بحدة:
-لا أريد مهاترات، اذهب، ولا تنسَ المطلوب منك، فلا قِبَل لي بتوجيهاتك السخيفة تلك.
قلب (ماركوس) عينيه بملل، وهو يقول بحزنٍ مصطنع ونبرة صوت أنثوي:
-هكذا أنتم جميعاً معشر الرجال تضعوننا على رف المتعة ما إن تنتهي حاجتكم إلينا، اللعنة!
لم يستطع الدون (چاكوب) منع حاله من الابتسام على خفة ظل أخيه، الذي غادر بعد هذا التعقيب الساخر.
مخلفاً وراءه قلب مكلوم، تحرقه ذكريات الماضي.
ترى سيجد الدون سلوى فؤاده الجريح أم سيظل عالقاً بقصة غدرها طويلاً؟!
البارت_10
خطى الدون (چاكوب) باتجاه مكتب القاعة يجلس على مقعده، ويده راحت تعبث بمخططات تصاميم المنتجع خاصته، وصور لمنشاءاته بعد أن انتهى المهندسون والعمال من وضع لمساتهم الأخيرة، ومقلتيه تنضح بالحماسة والنشاط.
ومن ثم تبدلت ملامحه من الصفو إلى العبوس، وذلك ما إن شرد بتلك الخائنة (ناتاشا)، إذ عَلِقت كلمات (ماركوس) في تفكيره بل ملاحظات جميع من حوله عنها وكان بكل غباء يتجاهل تحفظاتهم عن شخصيتها، فهي حقاً أنانية ووصولية أيضاً.
سيطر عليه الغيظ وهو يتذكر بعض من مقتطفات لحظاتهما الحميمية معاً، فهي كانت تجيد العزف على أوتار غرائزه الرجولية، فبالرغم من كونه زير نساء وهذا كان في السابق قبل أن يعلق بحبال عشقها الزائف إلا أنها استطعت أن تقود إنسان الكهف الشهواني الذي يسكن بداخله ببراعة وحرفية.
كانت تبالغ في إثارته، تفعل كل ما هو مباح وغير مباح لتسيطر عليه وتعميه عن أي عيوب بها، وبالرغم من أنها كانت متطلبة لأبعد حد، إلا أن هذا لم يكن يثير استياءه، فالمال يُجنى لإنفاقه والتمتع بمباهج الحياة!
لم يبخل عليها يوماً لا بماله ولا بمشاعره، لم يتذمر ولو لمرة واحدة عندما كانت تطالبه باصطحابها إلى أفخر دور الأزياء لتبتاع ما تريد، كما أنها كانت تسأله كل ليلة التنزه وارتياد أفخم الفنادق والمطاعم.
ناهيك عن سفراتها ومناسباتها المتعددة التي لا تنتهي وبكل مناسبة منها لا تنفك تسأله عما سيجلبه لها من هدايا ومصاغ وربما تقترح عليه ما تريد كسيارة أو طاقم من الألماس الحر وما كثرة مناسباتها!! فذاك عيد مولدها، وتلك ذكرى لقائهما الأول، وهذا تاريخ نفس اليوم الذي اسمعته به أول كلمة حب وكأنها تمن عليه بها، و.. و.. و..
كلها افتكاسات كان غرضها استنزافه مادياً، وقتها كان يستغرب ولكنه أبداً لم يعبئ.
طرق بباطن قبضته المتكورة سطح المكتب أمامه باستشاطة من حاله قبل أن يكون منها، فبالأخير هو مَن سلمها مقاليد أموره وأعطاه مفاتيح قلبه وجعلها تهيمن على حواسه، فالملام الوحيد هنا هو ولا أحد غيره.
فحتى مع تنكرها له بالفترة الأخيرة وكثرة تذمرها وابتعادها المفاجئ عنه وعن لقاءاتهما الحميمية وتحججها بأعذار واهية وسعيها إلى الخروج المستمر دون رفقته حتى أنها هجرت فراشهما، وكانت تبيبت معظم الأوقات لدى رفيقتها تلك ولكنه أبداً لم يشك بها.
أيام وليال قضاها في نزاعات وهي تشتكي تقصيره في حقها وتشعره بالذنب كونه انشغل عنها بالعمل، غفوات ظل يشعر فيها بالحرمان في فراش بارد كالثلج بعد أن عوَّدته على دفء إثارتها ولكنه أبداً لم يُرْجِع السبب إلى كونها ركضت لاهثة خلف أبله آخر، بل ظنها تتدلل ليس إلا.
وللحق، بالرغم من مقته الذي يملأ قلبه تجاه القميء (سيمانز) إلا أنه يشعر بالشفقة حياله إذ بعداوته التي يبرزها هذا المغيب الآخر في كل موقف يجمعه به تأكد الدون بأن تلك الحية (ناتاشا) قد أحكمت شركها حوله.
وإذا كان الدون قد استفاق من غشاوة عشقها الغادر لكن هذا السفيه (سيمانز) لن ينجُ من حيلها حتى تمتص آخر قطرة من دماء رجولته وماله أيضاً.
وإن كان الدون يتعاطف مع قرينه في الحماقة إلا أن (سيمانز) لم يدع أمامه خياراً آخراً فلا بد من أن يردعه عنه لا إلا يتجرأ الآخرون، بمعنى آخر لا مجال للتجاهل، بل سيسود مبدئ لا تراجع ولا استسلام.
كل هذا دار بخلد هذا المتجهم، ولكنه بالرغم مما عزم عليه وخطط له بشأن هذا الحفل إلا أنه ارتأى ألا يُقْدِم على أي خطوة قبل أن يبادر (سيمانط) بالغدر، يكفيه ما سيشرع الكابو في تنفيذه بعد هذه الغلطة الشنيعة التي اقترفها بحق كبيرهم أثناء الاجتماع، والفخ الذي أحكمه الوزير في قصة الحريق ذاك الذي نشب بمخازن الشحنة.
هو حقاً ممتن له كونه تصرف على هذا النحو فقد كان يخشى أن يرسل الوزير قوة من شرطة مكافحة المخدرات لضبط الشحنة ولكن على ما يبدو أن سيادة الوزير صادقاً في وعوده ومتحمس أيضاً لفكرة المدينة الصناعية.
ليس فقط لأنه سيكون شريكاً مساهماً من الباطن ولكن كون اتفاقهما هذا سيدحر أكبر قوى لإعاثة الفساد، وبها سيستتب الأمن داخل البلاد وهذا ما يسعى اليه وزير جديد في بداية توليه المنصب.
وذلك بموجب اتفاق مسبق تعهد فيه الدون (چاكوب) باستقطاب أكبر عدد من تجار السلاح والمخدرات لتمويل هذا المشروع والتوقف عن أنشطتهم غير المشروعة.
ولابد وأن يشكره ففي حالة ضبط الشحنة بشكل رسمي وقانوني بأرض تابعة لحيازة الدون كان سيوقعه بمأزق كبير مع الشرطة.
ولكن الوزير تصرف بحكمة، لا هو تركها بعد أن أبلغه (چاكوب) بأنه مضطر لتسليمها، ولا تسبب في مداخلات له مع الجهات المختصة بهذا النوع من القضايا التي حتماً كانت ستعرقل كل المخططات وستقضي على أي أمل في التراجع عن طريق بات الدون يمقته ولا يريد الاستمرارية به.
❈-❈-❈
بعد خروج (ماركوس) من قاعة المؤتمرات توجه على الفور بكل همة ونشاط إلى مكتبه ولكن كل هذه الحماسة ليس من أجل إيجاد هؤلاء الخبراء كمطلب استقرت عليه الآراء بنهاية المجلس.
حتى وإن كان هذا أول شيء شغله وشرع في تنفيذه مرضاة للدون (چاكوب) وذلك فور دخوله من باب مكتبه.
حرصاً على إرضاء الدون فبالتأكيد إثارة حنق أخيه آخر شيء يريده الآن بل على الإطلاق، ولكن اليوم خصيصاً لابد وأن يكون (چاكوب) في أبدع حالاته المزاجية.
أما عن السر الكامن وراء كل هذه العزيمة التي تسيطر على (ماركوس) الآن، هو إيجاد بديلة وعلى الفور.
ظل (ماركوس) يبتهل إلى الله أن يعيق تعليقه الأخير أمام الدون قبل مغادرة القاعة كل مخططات قد تكون تلك ال (ناتاشا) قد نسجتها للإيقاع بأخيه مرة أخرى، فعاهرة كتلك كانت متزوجة برجل وتقيم علاقة مع آخر وجعلت صديقين مثلهما يقعان في عداء ضاري بهذا الشكل الشرس، لا يستعص عليها شيئاً.
جل ما يخشاه (ماركوس) أن تجعلهما يفتعلان المشاكل بسببها اليوم في هذا الحفل الذي بدأ (سيمانز) في الترتيب له منذ يومين، بالشكل الذي جعل كل مواقع التواصل الاجتماعي تتحدث عن هذا الحدث الذي سيقام في سرادق أفخم الفنادق أسفل سفح سلسلة جبال (واساتش) على حدود ولايتي (إيداهو) و(يوتا).
وبالطبع لم تنس تلك المتسلطة تسريب الأخبار عن فرقة الجاز الموسيقية الشهيرة التي ستحيي الحفل على المساحة المفتوحة حول حمام السباحة التابع للفندق، وصور عن استعدادات إدارة المكان لهذا الحفل الضخم الذي ستقدم فيه أفضل الفقرات الترفيهية والاستعراضية وكذلك قوائم بأشهى المأكولات والمشروبات.
أما المدعوون فهم صفوة رجال الأعمال ونخبة من الناجحين في كافة المجالات وقطعاً تلك فكرتها التي نفذها المقاد خلفها دون ذرة تفكير واحدة.
فما دامت (ناتاشا) قد ملت العيش مع الدنجوان الأحمق (سيمانز) لن تجهض حالها وتضييع فرصة كتلك، حتماً ستستغلها وتسترق النظر إلى الحضور وتقرر مَن منهم سيكون فريستها القادمة.
وبعدها ستتخلص من الجنين كما فعلت في السابق مع (چاكوب)، ومن ثم تبدأ في واصلة النكد الزوجي كتلك التي اعتمدتها في مسيرة خلاصها من الدون مما ساهم في إثارة شكوكه حولها وساعد في كشفه حقيقتها، وبالأخير نجحت تلك اللعوب في إبعاده عنها وجعلته ينفرها، ولها فترة تحاول استقطابه مرة أخرى، ولهذا يسعى (ماركوس) إلى منع ذلك بأي شكل لاجئاً إلى كافة الوسائل والحيل.
أسند (ماركوس) جذعه إلى ظهر المقعد يفرك جبينه بأصابعه في تفكير وهو يقلب الأمر برأسه منقباً عمن تصلح لمهمة البديلة، وكل من تَطُل بلائحة الفتيات اللآتي تطفق اسمائهن إلى الذاكرة وبرغم حسنهن إلا أنهن لا يصلحن إطلاقاً، ف(چاكوب) على معرفة سابقة بهن وليس هو فحسب فكما قال الدون كلهن عاهرات.
وهذه المهمة تحديداً تحتاج إلى وجه جديد وفي الوقت ذاته تكن صاحبته فاتنة حد الهلاك، فلعل الدون ينشغل بها ويخرج من دائرة الوهم ويفهم أن الحديقة بها أزهار كثر، أزهار سيكن في غاية تفتحهن مع ودود گ (چاكوب).
و(ماركوس) هنا لا يبالغ فالدون وإن كان ظاهرياً قاسياً لا يعرف اللين لقلبه سبيل، إلا أن الحقيقة تتناقض تماماً مع ما يحاول (چاكوب) إقرانه به كهالة تحيطه أمام الجميع.
الدون وإن كان حازماً إلا أن بداخله قلب مراهق يسعى للاهتمام ويرغب بدفء امرأة تعطيه كما سيغدق عليها من محبة وعطف، الدون جل أحلامه الاستقرار وتكوين أسرة وإنجاب أطفال، وهذا هدف بسيط سيتولى (ماركوس) عناء إيصاله إليه.
وربما يجد في طريقه مَن تُقَوِّم اعوجاجه هو الآخر، ويقع في حبها رأساً على عقب ولكنه يشك، ف (ماركوس) ليس بوفاء وقناعة الدون (چاكوب).
❈-❈-❈
مرت أكثر من نصف ساعة وهو شارد، حتى طرق جبينه براحة يده، وهو يقلب في كومة الأوراق الموضوعة أمامه على سطح المكتب، وعندما لم يجد ضالته أخذ يفتح أدراج مكتبه واحداً يلو الآخر عابثاً بمحتوياتها كمن يبحث عن إبرة بكومة قش إلى أن علت الابتسامة شفاهه وعينيه تلمع بانتصار.
ومن ثم دقق النظر فيما بحوزته باحثاً عن رقم التواصل الذي وجده مدوناً على ظهر الكارت، ليلتقط سماعة الهاتف الأرضي يضغط الرقم المطلوب.
ها قد جاءه الرد على الفور وصوت ذو بحة أنثوية مشكوك في أنوثة صاحبته يجيب قائلاً:
-معك (مارتينا سواندرسون) من مكتب عروض الحفلات، كيف لي أن أساعدك؟!
(ماركوس) بلوية ثغر:
-اسمع يا أخ (مارتين)!!
(مارتينا) أو (ماتي) كما تدعوها صديقتها الوحيدة، مجيبة بمجاراة:
-معاك يا برو!!
ارتسمت ابتسامة على شفاه هذا الذي رفع حاجبه بدهشة وتسلية في آن واحد؛ إذ ظنها ستغلق المكالمة بوجهه بعد تنمره هذا ولكنها خالفت توقعاته، ليسألها:
-هل تزودون الحفلات بالفتيات؟
تبدلت ملامح (ماتي)، وهي تُوئِد رداً لاذعاً حجزته على طرف لسانها، فمَن يظن نفسه هذا الوقح!! يتواصل مع بيت دعارة، فتلك ال(ماتي) صحيح تحمل الجنسية الأمريكية ولكنها من أصل ريفي لأبوين استراليين علماها معنى العفة، و بالوقت ذاته لديها رباطة جأش إذ علمتها المواقف ألا تبادر بسوء الظن لربما قد ترائت لها صورة مغايرة لما يقصده المتصل.
فاستبدلت استنكارها بإيضاحٍ مبطن، تقول:
-هذا يتوقف على نوع الحفلة، فإذا كانت معلنة كزفاف أو خطبة، أو كانت حفلات عروض أطفال كأعياد ميلاد أو ما شابه، فقطعًا لدينا ما تبحث عنه أما إذا……
قاطعها (ماركوس) بعد أن وصله المغزى من تعقيبها، وللحقيقة قد أعجبته ردودها؛ فها قد توفر الشق الأول من طلبه ألا وهو وجه جديد، لا علاقات عبثية مع وسطهم أي فتاة لن تكن محط استنكار من الدون وإذا رافقها لن يقلل هذا من شأنه، لذا أسرع يقول:
-أما ماذا؟! لِم كل سوء الظن هذا يا عزيزي (مارتين)، أنا أبحث عن ممثلة لا عن فتاة ليل!!
(ماتي) متنهدة بارتياح، تجيبه بمرح:
-ما بك يا شقيق؟! أنا فقط أوضح لك الصورة حتى لا تختلط عليك الأمور!!
قهقه (ماركوس) على صاحبة هذه الروح المرحة، يقول بأريحية فقد شعر بأنه يرغب في إطالة الحديث معها ولا يعرف لِمَ؟! :
-اتضحت الرؤية يا رفيق، كل ما في الأمر أنني أريد فتاة، لا بل أميرة تمثل دور بحفلة لمدة ساعتين لا أكثر ستذهب ضيفة معززة وتعود إليكم سالمة.
-وفي المقابل ستتقاضى مبلغ خمسة آلاف دولار عن الساعة الواحدة.
عاد الشك يراود (ماتي) فكيف لممثلة تقوم بدور أياً كان هو وإن كانت ستقوم بلعب أكثر الأدوار إثارة بتقاضي مبلغاً كهذا في الساعة الواحدة لابد وأن هناك سر وراء مطلبه ذاك!!
لذا أردفت تسأله بريبة:
-أي دور ستلعبه بالتحديد؟!
(ماركوس) بتلقائية:
-حبيبة، رفيقة، خطيبة شيء من هذا القبيل.
جحظت عيناها بذهول وها قد بدأ شكها يتحول إلى يقين، فما عرضه السخي هذا إلا لعلة!! يغريها بالمال لتورط إحداهن، وبالحفل الله وحده يعلم ما الذي ستلقاه تلك المسكينة.
في هذه الأثناء اقتربت زميلتها بالسكن و رفيقتها بالدرب وعشرة عمرها وصديقتها الصدوقة (سارو) التي أخذت تلوح أمام وجهها ما إن رأتها حانقة نازقة بهذا الشكل.
تهمس لها عن قرب بعد أن دنت إليها تجلس على حافة المكتب أمام (ماتي) تفرك عينيها بنعاس.
ف (سارو) تعلم كم معاناة صديقتها (ماتي) مع البعض ممن تجيب عليهم هذا المسكينة على الهاتف الأرضي المخصص لاستقبال طلبات العمل، إذ خصصا كليهما هذا الركن من غرفة المعيشة الضيقة للشقة التي يستأجرنها جاعلتين من علبة السردين هذه مقر للعمل والإقامة.
تضعان بهذا الركن المكتب الذي اشترته (ماتي) من أحد المحال التي تبيع الأثاث المستعمل وكذلك خزانة رثة تستخدمها كلتاهما في الاحتفاظ بالأزياء الخاصة بالعروض التمثيلية التي تذهبان إليها ما أن تأتيهما مكالمة من أحد الزبائن غير عابئتين بالأجر مهما كان بخس.
ولكن يجب أن يكن المكان الذي ستذهبان إليه موثوق في أصحابه وهذا هو العنصر المهم اللتان تحرصان على توافره.
أما أي شيء دون هذا فستقبل به (ماتي) حتى لو كان العرض غير مغرٍ مادياً، فهما بحاجة ماسة للمال؛ لدفع إيجار الشقة وشراء بعض من الأدوات اللازمة لعملهم وكذلك صيانة ما يتلف واقتناء بعض الأزياء اللازمة لاستعراضاتهما أيضاً.
هذا بالإضافة إلى فواتير الغاز والكهرباء والمياه واحتياجاتهما الأساسية من مأكل ومشرب وكساء، فقد أرهقت الحياة هاتين الفتاتين بما يكفي، ولِم لا؟!
ما دامتا تفتقدان إلى العائلة والسند فها (ماتي) قد توفى عنها والديها في نوبة وباء اجتاحت قريتهما بالريف الاسترالي أثناء زيارتهما إلى موطنهما منذ ثمان سنوات……
كانت (ماتي) حينها في مدرسة داخلية، وقد قرر الوالدان الذهاب في عطلة قصيرة لهدف محدد وذلك قبل عودتها بإجازة نصف العام حتى يوفرا تكلفة سفرها معهما.
وهذا بعد أن اتصل عم (ماتي) بأبيها ليبلغه أنه وأخيراً قد حُلت مشكلة منزلهما الصغير هناك العائد إلى جد سارة المتوفي، وآل الآن إلى الورثة ومن ضمنهم والد (ماتي).
وها قد اتفق الورثة المنتفعين من المنزل على بيعه بعد طول خلاف بشأن السعر.
لم يكذب والديها خبر بل عرضت والدتها على أبيها أن يتصرف في قطعة المصاغ الوحيدة لديها، تلك التي كانت تجنبها الأم لظرف طارئ أو كعون لهما في حالة تعثرهما في سداد أقساط مدرسة (ماتي) التي كان الوالدبن يوالياها أهمية عما سواها من متطلباتهم كأسرة مهاجرة عن بلدها.
حريصان على أن تتم ابنتهما الوحيدة تعليمها وتبقى نزيلة مسكن الطلبة بهذه المدرسة، فكلاهما كانا منشغلين بورديات عمل متواصلة، ومع هذا فالعائد الذي يتقاضيانه جراء جهدهما المضني هذا لم يكن يغنيهما حد الكفاف.
فآثرا بقاءها بالمدرسة حتى لا تعايش تشتتهما من مكان إلى مكان بسبب ارتفاع إيجارات الوحدات السكنية، كما أنها هناك ستكون بمأمن عن قرص الجوع الكافر الذي كان ينهش أحشائهما في ليالي الضنك، فما دامت المصروفات تؤدى في ميعادها ستظل تبيت في مكان آدمي وتأكل وتشرب ما يقدموه كوجبات للطلبة المقيمين.
ولكن عند عودتها بإجازة نصف العام وجدت أغراضهما مودعة لدى صاحب البناية وزوجته اللذان أفرغا محتويات الشقة ليأجراها لآخر.
حينها أظلمت الدنيا بوجه تلك الفتاة التي كانت بربيعها الثالث عشر، وما كان منها إلا أنها دقت باب شقةٍ مجاورة كانت تسكنها زميلة والدتها بالعمل في وردية النظافة التي كانتا تشغراها بأحد المطاعم كعاملاتي جلي أواني وأطباق، هو ذاته المطعم الذي كان والدها يعمل به كمساعد طباخ، وأخبرتها صديقة والدتها أن أبويها ذهبا إلى مسقط رأسيهما للتوقيع على عقد بيع حصتهما من الميراث.
وقد انقطعت أخبارهما منذ ما يقارب أسبوعين وفي هذا الوقت تداولت الجرائد والصحف العالمية أخبار تلك الكارثة الصحية التي حلت بهذا القطر، وراح ضحاياه آلاف من سكان هذه المنطقة، وبحسبة بسيطة علمت هذه الفتاة أن من كانا سندها في الحياة ضاعا جراء هذا الوباء.
وبالطبع حالة صديقة والدتها لا تختلف عن حالة الراحلين، لذا أودعتها دار رعاية وهناك قابلت (سارو).
(سارو) تلك الفتاة التي استغنت عنها العائلة التي تبنتها وهي طفلة صغيرة، وذلك بعد أن كانت أمها بالتبني قد يأست من رحلة علاجها الطويلة؛ كي تنجب طفلاً.
ولكن لحظ (سارو) العسر، قد حملت تلك السيدة بعد ثلاث أعوام من شرائها لطفلة من أحد الربوع العشوائية النائية، بعد أن كانت تستغلها امرأة في ممارسة التسول بالشوارع والطرقات.
وبعد أن آوتها هذه العائلة علمت السيدة أن هذه المرأة التي كانت تستخدم (سارو) لم تكن أمها التي أنجبتها ولا هذا القميء زوجها هو والدها الحقيقي.
وإنما كان لديها أسرة غير الأسرة وإناس غير هؤلاء ولكن الفتاة الصغيرة لا تعلم أين هم! ولا في أي بلد يقيمون!
ترى ما قصة الرفيقتين ماتي وسارو؟
يمكنكم أيضاً قراءة رواية أخرى 👇
رواية واحتسب عناق بقلم #الأسطورة_أسماء_حميدة الفصل الأول
لينك الجزء الثالث من عقول غيبها العشق بقلم الكاتبة أسماء حميدة 👇
رواية عقول غيبها العشق بقلم أسماء حميدة الجزء 3 رواية ڤانتازيا مافيا رومانس كوميدي
استمر. يااسطورة