في القاهرة عند “نوران” و”نادين”.
بعد أن خنعت “نوران”، قائلةً فيما يشبه الاعتراف:
-معكِ حق إنه لغزٌ محيرٌ ولكن بالنسبة لي ليس أكثر من هذا ولا أقل.
-وتوقفي “ناندو”، إلى هنا وكفى لن نذكره مجدداً.
أدارت “نادين” رأسها إلى الجهة الأخرى بدلالٍ، تقول بعتابٍ:
-كالعادة أنتِ من تبدأين، ومن ثم تتحاملين عليَّ!
“نوران” بمهادنة:
-أعتذر أمي، ولكن…..
قاطعتها “نادين” تلقي إليها طعماً وگأنها تريد التأكد من شيءٍ ما، إذ قالت:
-أتعلمين؟ لقد لاحظت شيئاً غريباً بالنسبة ل “عمران” فيما يخصكِ!
اتسع بؤبؤي عينا “نوران” دليلًا على انتباهها الشديد، وهي تتسائل مسرعةً : – ما هو؟
“نادين” باستفاضة:
-بالرغم من أن “عمران” خفيف الظل، وذو شخصية مرحة، إلا أن ما أجهله لِمَ يتحمل منكِ تجاوزاتٍ لا يُمرقها لأحدٍ سواكِ، وهذا عكس طبيعته؟!
-ولكن حاذري فلكل شيء حدود لذا لا تخاطري في التمادي.
-وحاولي أن تجعلي علاقتك به طيبة كما كانت في السابق منذ طفولتكِ، وأنا على يقين بأنكِ ستكسبين ثقته وصداقته.
-واعلمي أنه دوماً سيكون عوناً لكِ، فهو لا يتخلى عمَن له.
-كما أنه ليس من الصعب عليكِ فعل ذلك، فإنني لم أنسى كم كنتما تتعاملان بودٍ، ولكن طريقتكِ الآن مناقضة لما كنتِ عليه.
-في الماضي كان “عمران” يلقبكِ بملاكه الصغير ولا عجب في ذلك، فقد كنتِ طفلة جميلة وخصلات شعركِ الحالكة الحريرية وناعسيتيكِ المخمليتين تزيد من جاذبيتكِ.
“نوران” معقبةً بخيبةٍ:
-هذا كان في السابق، أما الآن فقد توقف عن تلقيبي بالملاك، وعلى ما يبدو أنني أصبحت شيطاناً من وجهة نظره.
“نادين” بتسليةٍ:
-فظاظتكِ معه هي السبب بالطبع، وما دمتِ مهتمة إلى هذا الحد لم تشاكسينه بعنادٍ وبشكلٍ مستمر؟!
-عليكِ أن تتعلمي الكياسة مني ولو لمدةٍ قصيرة.
ابتسمت “نوران” تقول بمرارة:
-ومن يمكنه مجاراتكِ في هذا تحديداً وأنتِ بمثل هذه الجاذبية “ناندو”؟!
-على أية حال الأمر ليس بكل هذه الأهمية بالنسبة لي.
هزت “نادين” رأسها بيأسٍ من يباسة رأس هذه الصغيرة، وذلك بعد أن لمحت الإحباط المطل من زرقاويتيها العنيدتين كصاحبتيهما.
وما كانت تود الأم التأكد منه صار محيراً أكثر من ذي قبل؛ فللآن لا يمكنها تصنيف مشاعر “نوران” تجاه ابن “السوالمي”، ولكنها أردفت تجادلها:
-لو لم يكن مهماً بالنسبة إليكِ، ما رغبتِ بمعرفة ما الغريب في تصرفاته تجاهكِ.
-وعلى ما أذكر أنكِ أنتِ مَن أراد التوقف عن ذكره، وهذا بالرغم من أنكِ مَن فتح المجال للحديث عنه منذ البداية.
-وها أنتِ قد انقدتِ إلى نفس الموضوع ما إن سحبتكِ إليه مجدداً.
“نوران” نافيةً بإنكارٍ ومماطلة : – لا… لم يحدث.
“نادين” زافرةً بمللٍ، فقط لو تصارحها ابنتها بما يجول بخاطرها ل “عمران” لأراحت قلبها، فبالرغم من أن “نادين” تميل إلى “عمران” شأنها كشأن كل النساء المحيطات به، ولكن لا مانع لديها في أن يكون زوج ابنتها.
سواء أكانت هي أم “نوران” فالأمر سيان بالنسبة إليها، جلَّ ما يهم ألا يضيعاه من بين يديهما؛ فشخصٍ مثل “عمران” لن يعوَّض.
لذا ناشدتها “نادين” إلى أن يُحسم هذا الصراع، قائلة:
-حسناً.. ولكن احرصي على ألا تجعلي هذه الزيارة كإعلان حربٍ جديدةٍ بينكما.
-وعليكِ أن تستغلي ما منحكِ الله من جمالٍ في أن تكتسبي محبة الناس لا عداوتهم.
-أعلم أنكِ محبوبة وطيبة القلب أيضاً، ولكن هذا ما إذا رغبتِ في ذلك وعليكِ أن تعرفي أن أكثرهن تنفيرًا أشدهن عنادًا.
-وعلى الأقل لا تنسي كرمه الزائد عن الحد معكِ، فقد نسيتُ أن أخبركِ بأنه طلب مني أن أبلغكِ بأنه مسموح لكِ دعوة كل مَن ترغبين بصحبته إلى المزرعة من المثقفات أمثالكِ لقضاء الوقت الذي تحددينه وفي بيته أيضاً.
-وهذا ما إن تم الاتفاق على بيع مزرعتنا، حتى لا يُضيِّع عليكِ الاجتماع بهن ككل مرة تذهبين فيها إلى هناك كما كان في السابق.
“نوران بامتعاضٍ:
-لو لبيتُ دعوته فأنا على يقينٍ تامٍ من أنه لن يعيدها ثانيةً.
قهقت ” نادين” بشدة، وهي تقول بصوتٍ متهدجٍ:
-صدقتِ.. يكفي صديقتكِ الحمقاء “ميار” التي كانت عندما تذهب معكِ إلى هناك أو ما إذا تحججت بزيارتها إلى “سالي” التي لا تستلطفها الأخيرة على الإطلاق لا تنفك تتعقبه كظله ولا تفارقه أبداً.
كبحت “نوران” مشاعر فوران وليدة اللحظة، وبالرغم من تفاجئها بتردد “ميار” على المزرعة ودون علمها، ولكنها عقبت تقول بدفاعٍ عن صديقتها حتى تتواصل معها وتستفهم منها عما يدور وهي آخر مَن يعلم:
-“ميار” ليست حمقاء بل على العكس تماماً، فهي ذكيةٌ ومثقفة.
-ولكن ما لا أعلمه ما شاغلتها بال “caw boy” هذا!!
-أنا مندهشة حقاً!!
“نادين” بغمزة عين:
-ألم يلفت هذا نظركِ إلى شيء؟
“نوران” متسائلة بعدم استدراك : – لا أفهمكِ!!
قلبت “نادين” عينيها بيأسٍ، وهي تقول بعبثٍ:
-حتى حمقائكِ النابغة “ميار” تطارده وهذا يؤكد نظريتي، إنه جذاب بطريقة لا تقاوم، بل وإن أقرينا آخر ما وصفته به على إنه “caw boy” فلتضيفي إلى وصفكِ أنه أكثر رُعَاة البقر وسامة وقوة.
ابتسمت “نوران” بتهكمٍ، تقول بسخريةٍ:
-حسناً… يمكنكِ أن تلقبيه كما شئتِ.
تمهلت “نوران” وهي ترفع بصرها إلى أعلى مدعيةً التفكير ومن ثم أضافت:
-ما رأيكِ بأن تدعيه بالهرقل؟!
-لا.. وجدتها.. وصفكِ هذا لا يليق إلى على الرجل ذو القبضة الفولاذية.
التوى ثغر “نادين” بامتعاضٍ، وهي تقول بمناكشةٍ:
-كل مَن تراه يصير هدفاً لها، وحلم تتمنى الوصول إليه إلا أنتِ.
-على الأغلب لديكِ مشكلة بالنظر والحس “نوران”.
“نوران” باستياء أشبه بالهجوم:
-لا عيبٌ بي، ولكنني أراه على حقيقته، إنه ليس سوى شخص بوهيمي فظ وأحمق.
“نادين” بإصرار:
-هذا يدل على أنكِ عمياء ولا تعرفين عنه شيئاً.
“نوران” بعنادٍ:
-هذا لأنه لا يُظهِر طبيعته الحقيقية، لو عرفته على كامل حقيقته ما تغنيتِ بأوصافه.
ومن ثم حسمت “نوران” الأمر في أنه لا داعي للجدال بشأنه ولابد من أخذ وقتًا مستقطعاً، فشدت على قبضتها المتكورة تجاهد لاستحضار أعلى درجات ضبط النفس، محاولةً تغيير مجرى الحديث بأن تسائلت:
-هل ستأتي إلى المزرعة “فيحاء” أخته غير الشقيقة؟
هزت “نادين” كتفيها تقول بعدم تأكدٍ:
-للأسف احتمال وارد أنها ستكون هناك.. فإذا كان بإمكان “عمران” إبعاد زوجة أبيه المقيتة إلا أن “فيحاء” ستظل أخته، ولكنه يبقيها في الزاوية المعتمة من قلبه نظرًا لبغضه الشديد لوالدتها.
ها قد انجذبت إلى مجاله مجدداً وهي تتسائل بعد أن راودها الفضول:
-وماذا عن “ليلى” ابنة عمته، هل ستحضر إلى هناك؟
“نادين” بإيجاز : – ربما.. فالحقيقة لا أعلم.
“نوران” متسائلة:
-ظننت في السابق إنه ربما يكون هناك شيئاً ما بينهما أو إعجاب متبادل، ولكنها رزينة لا يبدو عليها أية ظواهر.
، من يراها يحسبها متكبرة ولكن ما إن تعاملت معها علمت أنها شديدة الاعتزاز بنفسها تتمتع بالكبرياء الذي يخلو من الغطرسة الفارغة.
“نادين” باستفاضة:
-أجل فهي نبتة صارمة كالرجال، ولم لا؟! وهي ربت على يد أمها ابنة السوالمي، ولكنني أجدها عنيدة بعض الشيء ومتشبثتة برأيها، وهذا لا يمنع أنني أتعاطف معها.
-إنها فتاة قوية ولكن لم تتح لها الفرصة فنشأتها بالأرياف وتربيتها مع أخويها جعلها مهمشة، إذ أن العادات هناك تنص على أنه لا رأي يذكر للفتيات، والأحقية دوماً لرجال العائلة المعروفون بالجاذبية وعزة النفس، هكذا هم رجال عائلة “السوالمي”.
-وعلى الرغم من هذا فإن رجالهم يتعاملون معي بتحضرٍ ورُقي عكس تعاملهم مع نساء العائلة والبلدة.
“نوران” بتعقيبٍ:
-أرى أنها ازدواجية في المعايير، أو كما يقولون عقدة الخواجة، هذا فقط لأنكِ من الحضر.
ومن ثم أضافت “نوران” بعبوسٍ، وهي ترمي إلى شخصٍ بعينه ألا وهو” عمران” وللحقيقة هي لا تعلم لم تتحامل عليه وتضعه في إطار أشباه الرجال، وذلك من منظور معايشتها للتجارب الفاشلة التي مرت بها أمها في الزواج:
-هذا قد يَخِيل عليكِ أما أنا فلا، وهذا جعلني أكوِّن أفكار مُوحشة عن الرجال وأمقت كلمة زواج.
-يا الله! لقد تغير العالم كثيراً ولا زال هناك مُختلون يحصرون كل ما هو كائن بالرجال فقط وكأن الكون ملكٌ لهم.
-الرجل وحده يمثل محور الأرض من وجهة نظر ضيقين الأفق، فالقوة عنوان لكلمة ذكر، وهذا بالرغم من أن هناك نساء أكثر صلادة منهم يتحملون ما لا يتحمله الرجال.
-الذكور ولا أريد قول الرجال، لأن كلمة رجل أبعد ما يكون عن هذا، يعطون لأنفسهم الحق بالتمتع بلذات الحياة.
-بينما يتحكمون بالنساء وكأنها خلقت فقط إرضاءً لشهواتهم وعليها أن تكتفي بالقيام بأعمال المنزل والتبرج لكي تكون جميلة في عين ابن آدم حتى لا تزوغ نظراته إلى مَن هي أجمل منها.
“نادين” مردفةً:
-وما العجب في ذلك فهذا هو الحال في كل مكان سواء أكان في المدينة أو الريف؟!
-وأنا لا أجد عيباً في أن تهتم المرأة بنفسها لتبدو جميلة.
“نوران” بكبرياءٍ:
-أنا عكسكِ تماماً ولا أحب أن أكون مجرد وجهٍ جميل.. أحب أن تكون لي شخصيتي وحياتي الخاصة.
-فالمرأة ليست عروس مزينة للمتعة ليس إلا، إنها عقل وفكر ولا بد وأن يكون لها دور فعال لتقوم به.
-أتعلمين؟ على الرغم من أنني أحب الأطفال كثيراً وأحب رفقتهم، ولكنني لا أريد أن أضع نفسي في هذا القالب وأحصر حياتي للقيام بدورٍ واحد.
-أريد أن أكون شخصاً مستقلاً، وأريد أن أصنع لنفسي حياة يتقبلها الجميع.
-أرغب في أن أكون امرأة مستقلة يعاملني العالم على هذا الأساس، ويحترمون ذاتي وخصوصيتي، لكن كيف ونحن النساء نعيش في ظل حياة يسيطر عليها الرجال!
“نادين” بدماسةٍ:
-أفهم من ذلك أنكِ تريدين أن تكوني نِداً ل “عمران السوالمي”؟!