رواية واحتسب عناق بقلم #الأسطورة_أسماء_حميدة الفصل الثالث

لم يخفى على “سالي” النظرات المتبادلة بين أبويها “فاطمة” و”حسين” مما يدل على أن ما صرحت به مؤخراً غير كافٍ، فاستكملت قائلة:

-لا تقلق أبي، إذا شعرت بتكاتل المهام يمكنني الاستعانة بأحدهم حتى إذا كان هذا في مقابل أجر، كما أن هذا مالنا وصميم دراستي.

-يمكنني تدبر الأمر يا أبي، ثق بي.

الأب بقلة حيلة:

-لا أشكك بكِ بنيتي، وأعلم أنكِ على قدر المسئولية، ولكننا مدينون إلى البنك وكذلك الجمعية الزراعية وها قد طالت مدة الدين.

-فمن الطبيعي بعد ما حدث معنا من خسارة في الفترة الماضية جراء توسعي غير المحسوب وهذا الخراب الذي عمَّ على المحصول بسبب الآفة.

-فللبنك كامل الحق القانوني في إدارة المزرعة، ولو كان الأمر عائد للأستاذ “يوسف” لوَلَّاكِ عليها؛ فهو يثق بك مثلي تماماً.

توقف الأب عن الحديث ناظراً إلى ساقه المعلقة، يستكمل قائلاً بحزن:

-إدارة القروض البنكية قد اقترحت تعيين مهندساً زراعياً بمعرفتهم؛ ليتولى إدارة المزرعة لحين شفائي.

لم تتمكن “سالي” من كبت قهرها وإنما صاحت باعتدالٍ تقول:

-هل السبب في اقتراحهم هذا كوني فتاة؟! لو كان أخي “حسام” هو مَن يتولى شئون الأرض بالوقت الراهن، كانوا سيتعنتون بشأنه؟!

-بالطبع لا.

-لابد وأن الداعيات إلى المساواة بين الرجل والمرأة ينعون حظهن لما تتجاهله بيروقراطية القرارات في بلادنا.

-في أي عصر نحن؟!

-هل عُدْنا إلى زمن الجواري؟

-هل من وجهة نظر المسئولين لدينا أن فتاة مثلي غير قادرة على فعلها؟

الأم بمواساة:

-هوني عليكِ يا ابنتي، إنه الواقع الذي نعايشه.

ابتسمت “سالي” بتهكمٍ، وقد غامت مقلتيها بدموع القهر، لو فقط يعلمان أن السبب في الكارثة التي حلت بمضخة المياه وتسرب الماشية هو رجل كمَن ستأمنه إدارة البنك على حالهم ومالهم، ما تمكنت والدتها من قول هذا “إنه الواقع”!

أي واقع هذا الذي يمنع فتاة مثلها من الوقوف إلى جانب عائلتها في مثل هذه الأزمة، في حين أن أخاها “أكرم” كان السبب في تكبيدهم خسارة إضافية، ولِمَ؟!

لأنها تركت المزرعة في عُهدته صباح أمس لحين ذهابها إلى الجمعية الزراعية لاستلام حصتهم من البذور والسماد.
وماذا أيضاً! إنه لم يتمهل ليعرف ما إذا كانت الكارثة التي حلت عليهم من تحت رأسه ستُحل أم لا!

ولكنه تحجج بضرورة سفره إلى القاهرة؛ لأنه وعد أقرانه في الفشل ممَن قذفهم مجموعهم بالثانوية العامة إلى معهد متوسط بأنه سيسافر برفقتهم وقد دفع مصروفات الرحلة قبل حادث أبيه بيومين، ورجاها ألا تخبر والديهما؛ فالأمر لن يتعدى يوم واحد.

تلك المصروفات التي كذب بشأنها وأخذها من والدهما بقصة ملفقة كون إدارة المعهد قد بالغت في قسطها السنوي لهذا العام.
أي هراءٍ هذا؟!

بخطى ميتة توجهت “سالي” ناحية باب شرفة الغرفة والحزن يُمَزِع حشاها، فتمتم “حسين” يقول بوهنٍ:

-لو أنهم يأذنون لي باستكمال علاجي بالمنزل لما أقدمت إدارة البنك على تقديم إقتراحٍ كهذا، لقد حان موعد سداد القسط الثاني والأول ما زال معلقاً.

التف رأس “سالي” وهي تقول بصوتٍ مكلوم:

-ولكنها أرضنا يا أبي، ولم أعتاد على أن يشاركنا بها أحد حتى ولو بالقرار، يمكنني التحدث إلى السيد “يو……

قاطعها الأب قائلاً:

-أتظنين أنه من السهل عليّ الموافقة على وضع كهذا، لا تصعبيها علي يا ابنتي حباً في الله، دعينا ننظر للجانب الإيجابي.

“سالي” بجمود:

-أنا لا أرى سوى جانب واحد وهو مظلم وظالم.

الأب بقلة حيلة:

-إن السيد” يوسف” يقول أنه يعرف رجلاً جيداً ولديه خبرة ومهارة عالية، أرجو أن تتعاوني معه لربما يكون الخير مقدرٌ على يديه.

بالرغم من فشل “سالي” في إخفاء لمحة الحزن التي لاحت على وجهها، وكيف ستتمكن من ذلك أمام من ربت بكنفه، إلا أنها دنت إليه تقول بامتثالٍ:

-لله الأمر من قبل ومن بعد، يمكنك الاعتماد علي يا أبي كما تعودت دائماً حتى لو كنت لا أستصيغ الأمر برمته إلا أنه لا مجال لمخالفة أوامرك لي.

ابتسامة مكسورة رسمها الأب على شفاهه وهو يقول:

-بارك الله فيكِ يا صغيرتي، لقد أثلجتِ قلبي عندما وافقتني الرأي كنت أخشى من معاندتكِ كوني أعمل مدى حبكِ للأرض وتعلقكِ بها.

قاطع النقاش طرق على باب الغرفة وإذا بها الممرضة التي تتابع حالة العم “حسين” تقول ببشاشةٍ وهي تحمل بعضاً من الشرائط الطبية:

-كيف حالك يا عم “حسين”؟ لقد حان موعد العلاج.

“سالي” باختناق:

-سأرحل الآن يا أبي، فلا يوجد أحد بالمزرعة.

قالتها وهي تميل إليه مقبلة منبت شعره، ومن ثم أردفت تسأله:

-متى سيأتي المُكلف من إدارة البنك؟

الأب مجيباً:

-قال السيد يوسف أنه سيصل في غضون يومين.

أطرقت “سالي” رأسها وهي تهم بالرحيل فلحقت بها “فاطمة” التي نادتها تقول مربتة على كتفها بحنان:

-اعذري أباكِ يا صغيرتي، فوضعنا المالي لا يُمكننا من الجدال في أمور إدارية كهذه مع البنك.

“سالي” ملتقطة يد والدتها لاثمة ظهر راحتها باحترام تقول:

-اعذره يا أمي، كل ما في الأمر أنني لست مرتاحة لاقتراح كهذا وفي هذا الوقت تحديداً، ولكن عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم.

التمعت أعين “فاطمة” بدموع القهر والحزن، فدوماً ما كانت “سالي” تشعر بالانبهار عندما تلمس الوفاء العظيم المُحف بعلاقة والديها ببعضهما، وتأكدت من مدى قوة الرابط بينهما منذ وقوع حادثة أبيها.

ابتلعت “فاطمة” ومن ثمَّ رمقت ابنتها بنظرة اعتذارٍ، تقول:

-الأمر يبدو محزناً ولكنني متفائلة؛ فقد كنت أحمل همكِ، وحملٍ كهذا لن تقوي عليه وحدكِ، وخاصة ونحن نمر بهذه المحنة.

ابتسمت “سالي” ببهوتٍ، قائلة:

-أتمنى أن يمر الأمر بسلام يا أمي، لا تشغلي بالك واهتمي بوالدي، فأنا أشعر بالخزي كوني سأترككِ اليوم أيضاً إذ يتوجب علي العودة، دعي أمور المزرعة وهذا الدخيل لي وأنا سأتصرف.

الأم بتفهم:

-لا عليك يا بنيتي فبجميع الأحوال لم أكن أنوي ترك والدك.

-فقد ذهبت إلى المنزل أول أمس وتركته برفقتكِ لأبدل ثيابي واستحم، ولولا هذا ما غادرت.

تمهلت “فاطمة”، ثم استطردت تقول بفخرٍ:

-أتعلمين يا ابنتي، لقد كنت حزينة طوال تلك السنوات لتقمصكِ دور الصبي، لكنني أحمد الله الآن فأنا أشعر بأنني لم أنجب ذكوراً سواكِ.

-وخاصة بعد خيبة أملي في أخاكِ “أكرم”، أعلم أنه لا يعتمد عليه إطلاقاً.

-والكبير “حسام” الذي ما إن حصل على شهادته بحث عن عقد عمل بالخارج وله عامين لم يأتِ إلى مصر في زيارة حتى يطمئن علينا.

وهنا تحشرج صوت الأم حزناً على مَن لا أمل به، وحنين لمَن غاب، وتضامناً لمَن ستحمل تلالاً من المتاعب ومن المسئولية وهي لازالت بالعشرين من عمرها.

فعلى ما يبدو أن مكوث زوجها بالمشفى سيطول؛ إذ يلزمه جراحة أخرى لإزالة الشريحة الطبية المزروعة بساقه.

ابتسمت “سالي” بمرارة تشبه تلك الحشرجة التي تخللت صوت أمها “فاطمة” عندما جائت على ذكر أخويها ولم تجد ما تواسي به فأي حديث بموقف كهذا لن يف بالغرض ولن يغير من الأمر شيئًا، وبعدها…….
ترى كيف ستجري الأمور بالمزرعة؟
وهل ستتمكن “سالي” وحدها من التصدي إلى أمواج من المتاعب التي قد توجهها؟

👇

الفصل الرابع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top