رواية واحتسب عناق بقلم #الأسطورة_أسماء_حميدة الفصل السادس

عند “نادين” و”نوران”
اجتذب الأم صوت “نوران” ابنتها من بين طيات الماضي الأليم، وهي تقول ما دعى الأخرى إلى الارتباك:

-أمي! فيم شردتي؟!

استفاقت “نادين” على سؤال “نوران” تحاول إيجاد عذراً، ولكنها أجابتها بالحقيقة:

-راودتني بعض الذكريات أثناء فترة زواجي بأبيك، وكذلك مثيلة لها مع المرحوم “عماد”.

قالت الأخيرة بجمود بالرغم من مكافحتها لتبدو متأثرة لذكراه ولكن خسته معها أماتت كل ذرة مشاعر كانت تكِنها له يوماً.

“نوران” ببراءة:

-رحمة الله عليه، ربما لم أكن أرتاح إليه ولكن موته الفجائي هذا كان مؤثراً، وبالأخير أنا لم أرى منه شيئاً سيئاً.

تمتمت “نادين” بصوت غير مسموع:

-كان ماكراً، لا رحمة جائزة عليه ولا شفاعة.

بينما أضافت “نوران”:

-حتى “عمران” كان يشكر فيه ويمدح أخلاقه، وحزن لوفاته خاصةً بهذه الطريقة.

-يا لا سوء حظه!

“نادين” مغيرة مجرى الحديث، فالإتيان باسم “عماد” أمامها يشعرها بالغضب الشديد:

-على أي حال أنا لم أخطئ بشأن أياً منهم، لقد كانوا جميعهم سعداء معي، صحيح “نوران”؟

جملة “نادين” الأخيرة بالرغم من كونها تبدو وكأنما يشوبها بعض من الغرور والفخر، إلا أن داخلها ينهار بشدة تتسائل لِم لم ينصفها القدر مع أيٍّ ممن ارتبطت بهم من الرجال!!
فكل زواج لها ينتهي نهاية مزرية.

أحست “نوران” بتحشرج نبرة صوت أمها فقالت تواسيها وتبثها مزيد من الثقة:

-قطعاً هم محظوظون بوجود حسناء مثلكِ، وما كان ليشعر “عماد” أو غيره ممن تزوجتي بهم بما فيهم أبي بنعيمٍ أكبر، حتى ولو ارتبطوا بملكة جمال العالم.

ابتسمت “نادين” بسعادةٍ بالغة، فهي حقاً رقيقة وهشة، تقول امتنان:

-أنتِ أرق وألطف فتاة بالعالم صغيرتي، ولكنني أشعر بالغضب الشديد كلما تذكرت هذا الهمجي “كريم”.

تحلقت عينا “نوران” وهي تقول باستهجان:

-لا تتحدثي بشأن هذا القميء مرة أخرى.

-أنسيتِ ما فعله بكِ؟

أطرقت “نادين” رأسها تقول بضيق:

-تباً لهذا السادي!!

“نوران” معقبة بنزقٍ:

-ها قد بدأنا نعود بالذاكرة، وأنت “ناندو” لا تنسي أنني لازلتُ في العشرين من عمري فلا تتفوهي أمامي بهذه القاذورات!!

ابتلعت “نادين” ما تهم بقوله، فقد استحضر ذهنها سيل من السباب والشتائم البذيئة التي كانت سترميها قاصدة بها عديم الرجولة هذا.

إذ أن” نادين” قد تلقت على يدي زوجها الثالث “كريم” أبشع أنواع العذاب، فهو من هؤلاء الملاعين الذين لا يشعرون بالمتعة أثناء علاقتهم سوى بالأذى النفسي والجسدي للطرف الآخر من العلاقة.

يمكننا القول أن هذا نوع من النقص، بل أن هذه الفئة من البشر يعانون أمراضاً نفسية، هم ليسوا أسوياء، يستلذون بآلام مَن هم أضعف منهم، ويرون أن أفعالهم الحيوانية رجولة، أي رجولة في أن يفرض القوي سلطته على مَن لا حيلة لهن.

كان هذا البغيض” كريم” مثالاً حياً للشخص النرجسي السادي فقد أراد أن يضيِّق الخناق على “نادين”؛ ليمارس عليها تجبره، وذلك بأن رفض بقاء “نوران” بنفس المنزل بالرغم من أن وجود “نوران” بكنفهما كان شرط “نادين” الوحيد لقبول تلك الزيجة.

ولكن بعد أن أُغلِق على ثلاثتهم بابٌ واحد، بدأ هذا الملعون في التنكر لهما وظهر على حقيقته وبالرغم من شغفه بالجنس إلا أنه لم يكن يقيم علاقة مع زوجته “نادين” سوى بالجبر والمذلة.

ولسوء الحظ كانت “نوران” حينها بالحادية عشر من عمرها وتتذكر كم المعاناة التي عايشتها والدتها لمدة ستة أشهر مع حيوان كهذا.

“نادين” بامتعاضٍ:

-لقد كنا نتحدث عن أبيكِ، وتجسدت الأحداث المأساوية جميعها أمام عيني، كما أنه لا داع لأن تذكُري دوماً سنك أو سني، العمر مجرد رقم في بطاقة الهوية.

-فعمر المرء يقاس باللحظات السعيدة التي عايشها.

“نوران” باستياء:

-لن أِذكِّرك مجدداً فعلى أية حال هناك بالمنصورة لا مجال لتجاهل هذه النقطة.

-البلدة بأكملها وجميع سكانها يعرفونا حق المعرفة حتى هذا الهمجي “عمران” لا ينفك يناديكِ بأم “نوران”.

-فقد كان يهدهدني على فخذيه وأنا طفلة صغيرة.

-وفي كثير من الأحيان كنت أبلل له ثيابه.

تمهلت “نادين” ومن ثم أضافت بابتهال:

-حمداً لله فقد تغيرت كل هذه الأمور الآن.

“نادين” قائلةً باستجداء:

-بالله “نوران” لن أُذكِّركِ بأنه يجب عليكِ أن تتصرفي بشكل لائقٍ مع “عمران” هذه المرة.

ومن ثم تمتمت “نادين” بصوت خفيض:

-أنا لا أعرف ما الذي يسعى إليه أياً منهما، فتنازعهما لا ينتهي ما إن يجتمعا.

“نوران” بنفورٍ:

-لست واثقة من هذا و”عمران” ذاك بالجوار.

-أنت تطلبين مني المستحيل، كما يجب عليكِ أن تطالبيه بهذا أيضاً؛ فهو لا يضييع أية فرصة إلا ويسعى إلى استفزازي.

” نادين” بقلة حيلة:

-هذه هي الكارثة! ولا يمكنني أن أنكر هذا، فما تقولينه صحيح إلى حد ما.

-أحياناً أشعر بأن كلاكما يحتاج إلى طبيب أمراض نفسية وعصبية، أنتما مجنونان حقاً!!

-ولكن ألن يشفع له كونه أنقذكِ من الموت، هل يجب علي ذكر هذا في كل مرة نذهب فيها سوياً إلى هناك؟

أجابتها “نوران” بعصبيةٍ مفرطة:

-أنتِ وهو لا تنفكان تذكراني بذلك وكأنه لم يحقق في حياته شيئاً سوى موقفه البطولي ذاك معي.

-إنه حقاً منَّان!

“نادين” بصدقٍ يشوبه الهلع:

-ترتعد أوصالي كلما تذكرت هذا الموقف “نوران”.

عقبت “نادين” بهذا وهي تستعيد شريط ذكرياتها وتحديداً ذلك اليوم عندما كانت “نوران” تلهو مع رفيقتها “سالي” على الطريق الفاصل بين مزرعتي عائلتيهما.
وكانت “نادين” قد وصلت هي وابنتها تواً إلى المزرعة، وتقابلت تقف محدثةً السيدة “فاطمة”.

لم تنتبه “نادين” وقتها على ذلك الحصان الشارد الذي ظهر من اللا شيء وكان على بعد بضعة خطوات من ابنتها الوحيدة” نوران”.

وفي هذه الأثناء تجمد جميع مَن كان بمكان الواقعة بأرضهم، إلا أن” عمران” الذي خرج من بوابة مزرعته على حين غرة ولحسن الحظ كان على قدميه ولم يستقل سيارة ولا كان يمتطي أحد الأحصنة التي يحوزها.

وكأن الله أرسله في الوقت المناسب ليندفع باتجاه “نوران” كالسهم الذي غادر مشد القوس يقتنصها من أمام الجواد يزرعها بين ضلوعه ببسالة وشهامة.

محفور بذاكرة “نادين” كيف تشبثت “نوران” ب “عمران” عقب ما حدث وأبت مغادرته حتى أنه أخذها لتبيت معه، إذ كانت ترتجف بذعر وكلما حاولت أمها انتزعاها من بين يديه تبدأ في نوبة بكاء شديد.

هذا بجانب المرة التي قام بإنزالها عن صهوة ذاك الفرس الجامح الذي صعدت “نوران” على ظهره في غفلة من الجميع وذلك في آخر زيارة ل “نوران” إلى المزرعة منذ ما يقارب الثلاث أعوام وتلك كانت آخر مقابلة بينهما.

لم يقطع “عمران” السؤال عنهما وعن أحوالهما ولكنهما لا يلتقيا، ولا أحد يعلم لما تبدلت الأحوال بينهما وكأنهما طرفي نزاع ويبدو أن كلاهما لا يعلما السبب.

كل يوم تتفحص حسابه الشخصي على أحد مواقع التواصل الاجتماعي تجلس ممسكة بهاتفها بين يديها شاخصة بصوره التي ينشرها بين الحين والآخر ولا تعرف لحالتها مسمى.

في حين أن موقف “نوران” وتحاملها عليه هذا يجعل “نادين” تشعر بالحزن؛ فهي بمتاهة وحيرة بسبب النفور الشديد من قِبَل ابنتها ل”عمران” وبين ميلها الچيني لأحد أفراد عائلتها فعلى كل حال هو قريبها ذو الشهامة والنخوة “عمران”.

وما يزيد من استياء “نادين” أنها تعلم جيداً أن “عمران” يضعها هي وابنتها ضمن بنود مسئولياته بل ويعطيهما الأولوية، وتدرك بقرارة نفسها أنهما تشغلان مكانة كبيرة في قلبه.

وللحقيقة” نادين” تشفق  على “عمران” كثيراً؛ فبالرغم من الثراء الفاحش الذي يحظى به هو وعائلته والوسط المترف الذي نشأ به ومكانة عائلته المشرفة، إلا أن الحياة لا تمنحنا كل شيء.

فقد عانى “عمران” كثيراً في طفولته بسبب أبويه، وتحديداً والدته التي عشقها أبوه الحج “عتمان” ولم تكن من نفس قريته بل ليست من المحافظة بأكملها فلقد تعرف عليها بالقاهرة، أحبها وأصر على الزواج بها، وأغدق عليها هي وعائلتها من المال حتى قبلوا عرضه بالزواج منها، وبعد أن صارت ملكة متوجة في بيته لم يقطع عنها غيث كرمه بل وكانت تستنزفه أيضاً.

وبعد أن أدخرت ما يفيض عن حاجتها أعلنت عن رغبتها في الانفصال عن “عتمان” والد “عمران”، وهذا عقب أن أنجبت منه ابنها الكبير “عمران” وأخته “رغدة” معللة بأنها قد استفاقت على نفسها ولا ترغب بالاستمرار في هذه العزلة بعيداً عن أهلها وناسها بالحضر.

وأبدت رفضها التام في العيش وسط الأرياف والبراري وطالبت زوجها بالانتقال إلى القاهرة ولكنه لم يستجب لرغبتها فقد استفاق هو الآخر على حاله وعلِم بعد مرور سبعة أعوام من زواجهما أنها لم تحبه قط بل كان هدفها المال ليس إلا.

فقررت المغادرة دون علمه وهي عازمة على تطليق نفسها باللجوء إلى القضاء وأقدمت على فعلتها تلك بكل خسة، ستهجره وبماله وسترفع عليه دعوى طلاق لذا حملت طفليها وغادرت القرية، بل والمحافظة بأكملها ولم تلتفت وراءها تاركةً وبكل جحود قلب ينزف وكبرياء هُزِم.

ولكن “عتمان” لحق بها إلى حيث منزل والديها بالقاهرة وما جعل الدماء تندفع إلى رأسه أنهما لم يكونا على علمٍ بما فعلته ابنتهما ولم تلجأ إليهما بل واختفت تماماً بما حظت به من غنيمة.

وبمرور بضعة شهور أهلك فيها “عتمان” حاله في البحث عنها هنا وهناك، ليس ليعيدها إليه فقد انطفئ وهج حبها في قلبه ولكن كي يستعيد طفليه، وذات يوم جاءه إعلان بجلسة قضائية لدى محكمة الأسرة على يد محضر.

وعندما جاء موعد الجلسة التي تحدد انعقادها ضمن دائرة المنطقة التي عقد بها قرانهما ولسوء حظها أو لنقل لغبائها لم تحسب حساباً لجرائر ما تفعله إذ كان عقد القرآن على يد مأذون قرية عائلة “السوالمي”، وطمعها أعماها عن عاقبة ما ستؤول إليه الأمور.

إذ حاوطت عائلة “عتمان الأسيوطي” سرايا المحكمة التي تقع ضمن محافظتهم تضامناً مع ابن كبيرهم آن ذاك، ولم يقوى محاميها ولا حتى هيئة القضاء بما في ذلك قوى الأمن القابعة حول المبنى الإداري للمحكمة على فض ذلك التجمهر الذي انتهى بأن ألقى عليها “عتمان” يمين طلاقٍ بائن لا رجعة فيه.

واستعاد ابنه “عمران” بالإجبار تاركاً لها “رغدة” إذ كانت حينها طفلة رضيعة لم تتم عامها الأول كما أنها كانت مبتسرة فقد ولدت بالشهر السابع وتم إيداعها بحضانة الأطفال لمدة تجاوزت الأربعين يوماً.

ولولا أن الطبيب الذي قام بإجراء عملية الولادة القيصرية لهذه الناكرة للجميل وطيب المعشر، قد أوصى بضرورة إطعام الطفلة لبن ثدي والدتها ما ترك ابنته معها حتى لا تتشرب الغدر على يد أُمِّ كتلك.

وما به من داء الخيانة لا يتعافى ولا نعني هنا الخيانة الجسدية، فناكر الجميل خائن، وناقض العهود خائن، إذ قررت أم طفليه السعي وراء المزيد من ثروة زوجها.

فأخذت تتسوله سكناً لها ولطفلتها وتطالبه بمال لشراء ما يلزم لها ول”رغدة” ولكن بشكلٍ مبالغ به وبما أنه لا ينجى المؤمن من جحر مرتين، فقد كان “عتمان” منتبهاً هذه المرة، وبالرغم من أنه لم يبخل عليها ولا على ابنته إلا أنه غلَّ يده عن السخاء.

حتى وإن لبى طلباتها واشترى لها شقة لتقيم فيها مع طفلتهما ولكن عقدها كان باسم “رغدة عتمان السوالمي”، وكان يوفر لها احتياجاتهما وذلك بأنه أمرها بأن تُملي عليه ما يلزمها هاتفياً وكان يرسله لها بالسيارة التي يقودها أحد رجاله، مصدراً تعليمات إلى سائقها باصطحاب واحدة من محارمه لتُسلِّمها ما طلبته منه باليد إليها.

فحتى وإن كانت مُحرمةً عليه بعد يمين الطلاق البائن ولا نية لديه في إعادتها إلى عصمته بجميع الظروف ولو بمحلل فهذا مُحرم شرعاً ما دام هناك اتفاق مسبق مع الزوج على ذلك، إلا أن “عتمان” يفتقر إلى الدياثة ولا تقبل قيمه ومبادئه أن تخالط امرأة رجلاً غريب عنها أياً كانت ماهيتها فما بالكم بأم أبنائه؟

وعندما لم تجد هذه الانتهازية جدوى من التودد إليه وهذا لأن الطامع لا يقنع، فرت مرة أخرى بعد أن قامت ببيع الشقة كونها الوصية على ابنتها وهذا بموجب وثيقة مزورة إذ أوهمت المشتري بأنها أرملة وتريد التصرف بإرث ابنتها لحاجتها الماسة للمال، واستمر “عتمان” في البحث عنها لسنوات عدة وها قد أثمرت جهوده عما قريب.
هل ستظل علاقة “عمران” و”نوران” على هذا النحو أم للقدر رأي آخر؟

👇

الفصل السابع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top