أما عن “عمران” فقد أودعه أبيه بمنزل عمه والد “غالب” الذي قضت زوجته فترة كبيرة بعد زوجها بوالد ابنها ولم يمن عليها المولى بطفل لحكمة عنده، وبالرغم من أنها كانت سيدة فاضلة ولكنها لم تكن أماً له.
فقد كانت زوجة عم “عمران” امرأة شديدة وخشنة حتى على ابنها “غالب” الذي أنجبته بعد اشتياق، ولكن عذرها أنها لم تكن تتعمد ذلك.
كما أنها لم تقصر قط في طلباتهما، بل كانت تعتني ب”عمران” كأمانة لديها هي وزوجها، حتى بعد أن راضاها الله ب “غالب” لم تفرق بينهما في المعاملة، شديدة وجافة ولكنها لم تكن متحجرة القلب، متحفظة وربما متسلطة ولكن دون جحود.
وبعدها بأعوام عدة قرر “عتمان السوالمي” مضطراً الزواج بأخرى، حينها كان “غالب” في الثامنة من عمره، وهو السبب الرئيسي لجعل “عتمان السوالمي” يفكر بالزواج خاصةً بعد رفض “عمران” عرض الأب بوجوب زواجه كي يجدان مَن تهتم ب”غالب” الذي أصبح يتيماً إثر موت عمه وزوجته في حادثة باخرة الحجاج، وهما عائدان من زيارة بيت الله.
ولكن “عمران” لم يكن” مهتماً بشيء كهذا في سن صغير؛ إذ كان حينها لا زال في العشرين من عمره، وإذا كانت زوجة العم شديدة على من بكنفها وهو “عمران”.
فإن من ألقاها القدر في طريق “عتمان” والتي كان من المنتظر أن تكن أماً بديلة لابن أخيه اليتيم، كانت مثالاً حياً لزوجة الأب متحجرة القلب، عديمة الإنسانية.
بل وحاولت تلك الدخيلة ممارسة دنائة قسوتها على “عمران” كأن تقم بالإيقاع بينهما وزرع الفتن بينه وبين أبيه؛ لتثتأثر بحب واهتمام “عتمان” أو ربما كان لها غرض آخر.
ولكن “عتمان” لم يمنحها الفرصة، لذا يمكننا أن نَقُل أنه ما من بينهن واحدة استطاعت أن تكن أمًّا تحنو على “عمران” سواء أكانت الأم التي أنجبت، أم زوجة العم التي ربت، ولا حتى زوجة الأب التي تزوجها “عتمان” لهدف، ولا شغرت إحداهن هذه المكانة بحياة “غالب” أيضاً.
وهكذا نشأ هذان الشابان دون حب أواهتمام ولم يعرف أيًّا منهما للرعاية الأنثوية مذاق، حياتهما جامدة تسيطر عليها الرتابة والعملية؛ إذ أوْلى كلاً منهما كامل اهتمامه وجهده للعمل.
نشئا يعتمدان على نفسيهما، تعلما المثابرة وشق كلاً منهما طريقه دون الانقياد إلى أي شخص وخصوصاً النساء.
ولكن ماذا عن خيانة قلبيهما، فقد تعلق قلب “غالب” بتلك النقية العذبة “سالي”.
بينما وقع “عمران” صريع الهوى، وعلى يد مَن؟!
تلك الصغيرة التي ربت على يديه، يا لا سخرية قدريهما!!
فعلى ما يبدو أن رجال عائلة “السوالمي” لا حظ لهم مع النساء.
كانت حياة “عمران” جامدة إلى أبعد حد، وقريبته “نادين” لا تترك فرصة إلا وتعبر فيها عن إعجابها بشخصية “عمران” القوية ورجولته الطاغية التي لا تقاوم.
ولنكن منصفِين فكل شيءٍ ب”عمران” لا يقاوم، بدءاً بعينيه الرماديتين، وتلك الهالة الجذابة التي تحاوطه، وبشرته الحنطية التي صبغتها أشعة الشمس الساطعة في هذه البقعة من الأرض، وبالرغم من صرامة معالم وجهه إلا أنه ذو حسٍ فكاهي ساخر لا يخل بوقاره، كل هذا أضفى على ذاك الريفي سحراً ووهجاً.
وكل مَن تراه من بنات حواء تعلنها صريحة بل وحقيقة غير قابلة للنقاش أن “عمران” أيقونة الرجولة والجاذبية، ولكن هذا العنجهي يصم آذانه عنهن.
هي الوحيدة التي لم تمنحه ولو لمرة كلمة إطراء، كل مَن تغزلت به منهن بكفة وإقرار صغيرته بكفة أخرى، ولكنها لم تبادر قط، وما أصبح يقض ذلك القابع بين ضلوعه أنه لم يبدو عليها أية معالم تدل على تأثرها بجاذبية هذا ال “عمران”.
التعامل بينهما لا يخرج عن إطار الشدة، قوانين التجاذب لا مجال لها بينهما، خاصةً مع مشاكسات “نوران” التي دوماً ما تثير حفيظته بمواقفها المتحدية.
اللين في الحديث غير معتمد كلغة حوار بينهما، إذ كان يُسمِع كلا منهما الآخر كلاماً صارماً نهجه القسوة ولكن ما تخفه الصدور يناقض ما يظهر للعلن، على الأقل من جهة “عمران” الذي لا يمكنه أن ينكر تعلقه ب”نوران” حتى وإن أقرها بينه حاله.
لكن هذا العنيد لا يرغب في إظهار ذلك القدر من العاطفة التي تموج بأوصاله لها، أو لنقُل أنه لا يعرف كيف السبيل إلى إظهار ذلك، ولا أسباب مقنعة لديه في تخاذله هذا!!
ربما لم يتعود على هكذا أمور، ولكن أَوْجَه أسبابه هو فارق السن بينهما الذي قد يتعدى الخمسة عشر عامًا فهو يَقْرب والدتها بالعمر، إذ أن التفاوت بين “عمران” و”نادين” يشارف على الخمس سنوات، في الحقيقة “عمران” لا يعلم ولا يرغب في تذكر شيئاً كهذا أو ربما لا يريد الاعتراف به.
ولكن المحير أن “عمران” قد لاحظ أن تعنت صغيرته يزيد كلما أبرز لها بعضاً من الاهتمام، فما إن يفعل تقابله بالتجاهل والنفور، بل ويزيد تمنعها عنه معلنة راية التمرد والعصيان، حيرة ما بعدها حيرة تبتلعه كل ليلة بين دواماتها الساحقة، لذا قرر أن يحبها ولكن على طريقته.
يجذبه عنادها وهذا قلما يحدث مع شخص گ “عمران، فما من أحد كان على قدر من التعقل قد يقوده تفكيره حتى ولو كان أكثرهم جسارة إلى إعلان مثل هذا التمرد جهراً في حضرة “عمران” الأشدهم بأساً وعناداً على الإطلاق.
الكل يهابه ويحترمه، أما هي فلا يبدو عليها أي رهبة بالرغم من أنها لا تجرؤ على التقليل من احترامه.
جميعهن يتمنين قربه، وكلهن به مفتونات إلا هي وعدم اكتراثها به يزيده رغبةً فيها وتعلقاً بها.
أما عنها فمنذ أن بلغت سن المراهقة وهي تشعر بالتخبط في وجوده، ويتملكها التشوش والاضطراب وذلك كلما وجدت حالها على مقربة منه.
أما على الجانب الآخر ففي الحقيقة “نوران” نفسها لا تعلم لما تبدلت مشاعرها نحوه وولَّت تلك الأحاسيس المراهقة في قلبها له، وذلك منذ اليوم الذي أنقذها فيه من الوقوع عن ظهر هذا الفرس الجامح وإن لم تعترف بفضله عليها في موقف كهذا تكن بذلك ناكرة للجميل.
تكابر أمام والدتها ولكن بينها وبين نفسها تتذكر ضراوته وكذلك لن تنكر قسوة ما اعتراها من خوف عندما انطلق الجواد وهي تمطتيه، إذ أخذ يعدو بشراسة ولا يستجيب لإشاراتها المتتالية له تحثه على التمهل وهي تشد على لجامه حتى كادت أن تقع من أعلاه بالفعل ولكنها حاولت التماسك بقوة تحسد عليها في موقف كهذا.
استحضرتها في هذه اللحظة مشاعر اليأس التي سيطرت عليها أثناء تلك الواقعة، تتذكر عندما بدأت تتمتم شفتاها بالشهادتين حتى جاءتها النجدة الإلهية في هيئة ملاكها ومنقذها “عمران”.
وذلك عندما استمعت “نوران” إلى صوت صهيل جواده خلفها فغادرها الخوف وتسلل إلى روحها الهدوء والسكينة، حتى وإن لم تلتفت لتبصر ما إذا كان هو أم لا، ولكن صوت ما بداخلها تسائل : – ومَن غيره يأتيها في مواقف كهذه؟!
وما إن اخترق مسامعها صوته الرجولي الخشن الذي خرج مذبذباً من شدة هلعه مخافةً أن يصيبها مكروه وهو يناديها باسمها حتى تبددت بداخلها أية ذرة ذعر أحستها في الثواني القليلة التي مرقت أمامها كَحَوْلٍ بأكمله، وهي على يقين تام بأنه لن يمسها أي سوء ما دام حاميها في الجوار.
وبكل بسالة وإقدام أخذ هذا الفارس المغوار يعدو على ظهر فرسه يسابق الريح حتى يلحق بجوادها، وإن قالوا له يوماً أن “عمران عتمان السوالمي” ستزلزل الأرض أسفل قدميه عندما يستشعر أن إحداهن على مشارف الخطر ما كان ليصدقهم حتى وُضِع بدوامة رهبته من فقدانها.
ذلك اليوم وحينها فقط علم بما لا يدع مجالًا للشك أن “نوران” بالنسبة إليه أكثر من كونها مجرد فتاة تَقْرَبه.
وحدد منذ اللحظة التي آن فيها إلى فرسها ماهية مشاعره الوليدة تجاهها كطفلٍ يفتح عينيه لأول مرة مستكشفاً الحياة حوله وهذا هو أبلغ تشبيه لحالة بطلنا إذ أن فؤاد “عمران السوالمي” قاهر قلوب النساء لا زال بكرًا ولم تمسه أية عاطفة نحو إحداهن سوى “نوره” فقط.
وحتى تلك العاطفة كان يجهلها ولا يعرف تفسيرًا لانجذابه لمَن أثارتها بداخله إلا عندما طارده شبح الفقد.
ولكن كيف؟! وهو مَن تربت على يديه!
ماذا سيقول الجميع عنه؟!
طمع بفتاة صغيرة!
” عمران السوالمي” الذي تهتز له الشوارب، أحب طفلته المدللة!!
وهي.. هل ستقبل به وهو يكبرها ب ١٥ عام؟
وماذا عن الفوارق العلمية؟
أي عقل يقول أن طبيبة حتى وإن لم تكن قد تخرجت بعد ستوافق على الزواج برجل لم يكمل دراسته بل اكتفى بشهادته المتوسطة هذا كي يرعى ماله وأرضه حاملًا العبئ عن كاهلي أبيه!!
متاهة لا نهاية لها، عشق سرمدي، أرق في الليل، وهروب بالنهار، جل ما يواسيه في بعدها كونه يتحرى أخبارها من والدتها أول بأول، يخشى سماع صوتها فيزداد أنين روحه التي تهفو إليها، وأكثر مما به عذاب يفوق قدرة مضغته النابضة عن الاحتمال.
أحداث آخر لقاء بينهما محفورة بذاكرته كالنقش، وكيف له أن ينسى وكلما توسد على تخته تعاوده الذكريات؟!
إحساس موحش يهز ثوابته ريثما يتخيلها قريبة إليه كما كانت يومها عندما حاوط خصرها بذراع واحد يجذب جسدها الغض إليه حالما صار جواده بمحاذة خاصتها.
وهل يمكنه أن ينسَ ولا زال عبقها بصدره يحتفظ بعبيرها بين حجرات رئتيه؟!
تنهيدة شوق عارم خرجت تشق حنايا ضلوعه وكأنه يناجيها وستستجيب، شخص ببصره إلى سقف غرفته وهو مسطح على ظهره أعلى الفراش، ولم يشعر إلى وقد افتر ثغره ببسمة عندما تذكر مناوشاتهما معاً.
لحظة وفترت بسمته لتتلاشى ويحل محلها العبوس، لِم لا!
والفكر قاتل محترف أدار سلاحه ذو الحدين بشراسة في مقتل ليُهتِّك وتين نابضه؛ وذلك عندما استحضر عدائيتها له وجدالها المستمر لأي قرار تنبس به شفاهه.
زفر بضيق يشعر باختناق أنفاسه يصحبه وخزة بصدره أعلى اليسار جعلت هادره لا ينفك ليضرب بتتابع دون هوادة؛ وذلك إثر هواجسه التي قادته إلى أنه من المحتمل أن يكن سبب عدم اهتمامها به كالسابق هو أنه يوجد مَن يحتل تفكيرها.
هب من مرقده عندما تلاعب به شيطانه، يشد على خصلات شعره الأسود الحالك بطوله المتوسط ومن ثم أنزل قدميه الحافيتين عن التخت أرضاً، وهو يتكأ بكلا راحتيه إلى جواره على حافة التخت، وقطرات العرق تعرف طريقها لتسيل تشق طريقها من أعلى غرته فوجنتيه مستكملة مسيرتها إلى صدره العاري المعضل.
آهاتٌ متقطعة إثر نوبة هياجٍ حادة وهو على حافة الجنون وتساؤلاتٍ لا حصر لها تدور برأسه عنها، ولا إجابات لديه، من بينها:
لِم انقطعت عن التواصل معه؟!
أين ذهبت لهفة الطفلة الني بداخلها إلى وليفها؟!
هدر يحدث حاله بصوتٍ حاد، يقول كمَن فقد كل ذرة تعقل:
-حسناً “عمران”! فلننحِ كل هذا جانبًا، ونتسائل:
-أين الصلة الروحانية التي كانت بيننا؟
-ولِم نَمَت خصومات خصومات متأججة لا تنتهي؟
استفسارات في موضعها؛ فمهما كان يدور بينهما من جدالٍ وشغب كانت جميعها تخمد حدتها وتندمل حالما تُرسم بسمة على شفاه أياً منهما گإعلان هدنة إلى أن تحن جولتهما القادمة ولكن أين هما الآن مما مضى؟!
اشتاق إلى مناقشاتهما العذبة التي تختتم بخلافات لذيذة بينه وبين مراهقته الصغيرة التي دوماً ما كانت تسعى إلى مناكشته هذا إذا لاحظت انصرافه عنها بأمر من أمور العمل.
وبالرغم من تصرفاتها العفوية إلا أنها ذات عقل نيِّر ولا يُسأم من مجالستها وهذا منذ صغرها، كثيراً ما تسأل، قوة ملاحظتها والموضوعات التي تتطرق إليها تفوق سنوات عمرها بمراحل.
أما عن “عمران” شغله احتمال آخر : – ترى أكانت تحبه ومن ثم انقطع شغفها به كونه لم يستطع تفسير ما يحمله بداخله لها؟
التوى ثغره بابتسامة ساخرة، وهو يتمتم مستهجناً:
-عن أي حب تتحدث يا معتوهٌ أنت؟! هل طفلة في سنها تعرف معنى الحب الذي تقصده؟
صدح صوتٌ بداخله يجيب:
-“عمران”!! لم تعد طفلة.
-مَن كانت بين أحضانك منذ ثلاث سنوات لم تكن طفلة، فما بالك الآن؟
بصيص أمل جعله يثبر من أغوار موجة غضبه المحتدم، فها قد قرب موعد اللقاء بعد قحط سنواتٍ عجاف وذلك كما أخبرته “نادين” بقدومهما الى القرية، وبالرغم من صدق مقولة “مصائب قوم عند قوم فوائد” إلا أنه قد ضاق زرعاً من جرائر قريبته وزيجاتها التي عادةً ما تنتهي بكارثة.
ولكن عند ما فعله الدنيء “عماد” زوجها الأخير أراد الفتك ب”نادين” إذ استعرت نيران سخطه، وهذا ليس لأجلها وإنما كون زوج أم صغيرته الذي حتماً يقتلي الآن بأسافل الجحيم قد افترى وأخذته غشاوة الطمع النابع من داء المقامرة الذي لُعِن به ليسلب حق معشوقة كبير “السوالمية”.
فقط لو كان على قيد الحياة ما منعه من القصاص لها شياطين الإنس والجن، ولكن رحمة الله به سبقت براكين ثورة السوالمي.
استقام بجسده عن مهجعه وهو يلعن حاله؛ فلطالما ألح عليه “غالب” في أن يلتحق معه بالجامعة إذ أن كليهما قد اكتفيا بشهادة الدبلوم الزراعي المتوسطة، وراح يسلخ حاله لامتناعه حينها عن مجرد التفكير بالأمر.
فقط إن فعلها عندما اقترح عليه “غالب”، كان من الممكن تذليل إحدى الفوارق بينهما الآن؛ فبكالوريوس زراعة أفضل من مستواه التعليمي المتدني مقارنة بها.
بالأخير كان سيطلق عليه مهندساً زراعياً، ومن الممكن أن تألف طبيبة عرض زواج من مهندس ولكن في حالتهما لا أمل يُذكر.
أي عقل يقول أن طبيبة حسناء مثلها ستفكر لبرهة في الارتباط بمَن في مثل ظروفه؟
شعر “عمران” بشيء من الغيرة تجاه “غالب”، فقد فعلها كي يبقى إلى جوار أخت صديقه “حسام” التي وقع لها الجسور “غالب” هذا السوالمي الصغير الذي تخطى حاجزاً كان من المؤكد أنه سيعوق طريقه للوصول إلى سلواه.
ولكن لو يعلم “عمران” أنه لا يوجد على وجه الأرض مَن هو أتعس مِن “غالب”، ما تمنى أن يكون بمثل موقفه.
انتظروا المزيد من التشويق.
👇