هناك حيث قرية “السوالمي”.
ابتلع “غالب” عباراته المواسية وذلك عندما رمقته “سالي” بعتابٍٍ تقول:
-كنت أتوقع أن تتفهم كم معاناتي ولكنك تستخف بما أَمُر به!
رفع “غالب” كلا راحتيه أمام وجهها كعلامة استسلام، وهو يقول بمهادنة:
-أقسم بمحبتكِ في قلبي أنني أفهم ما تقاسيه ولكن لا جدوى من التذمر والسخط على قضاءٍ لا يمكن تغييره.
وعندما لم تلن نظراتها، استطرد “غالب” يقول بما سيجعله يصرف انتباهها عما تفوه به من حماقاتٍ مردفاً : – يا الله “سالي”!! أرأيتِ؟
“سالي” بتسائلٍ مختصر : – ماذا؟
“غالب” بضيقٍ مصطنع:
-لقد ألهيتني عن أمر هام.
“سالي” بجدية : – ما هو؟
“غالب” باستفاضة:
-بينما كنت أَمُر على أرضنا بالجهة البحرية وجدت خمس رؤس ماشية غريبة عن قُطْعانِنا وعندما اقتربت لأتقصَ الأمر وجدتها مميزة بعلامتكم فتركتها ترعى مع خاصتنا.
تنهدت “سالي” بارتياحٍ وهي تتنفس الصعداء قائلة بامتنانٍ:
-اراح الله قلبك يا “غالب”، لقد حزنتُ حزناً شديداً عندما عُدت من الجمعية الزراعية ولم أجدها وسط قطيعنا الذي عاد في وقت المغارب للأكل والمبيت.
صمتت قليلاً ومن ثم قالت باستدراك:
-هذا معناه أن هناك خرق في السور المحاوط للمزرعة أو انهار جزء منه في مكان ما، فقد ظننت أن أحدهم قد قام بسرقتها.
-ولكن ما دمت قد عثرت عليها وسط قطيعكم فهذا يعني أعباء إضافية؛ إذ يجب عليَّ القيام بجولةٍ حول المزرعة لأتبين ما في الأمر.
وجدها “غالب” فرصة للتقرب ممَن أرق طيفها مضجعه، فأسرع يقول:
-دعينا نلتقي غداً عند المرعى لفرز الماشية، فمن المؤكد أنكِ تعلمين أياً منها يخصكم.
انكمشت معالم وجه “سالي” بضيق؛ فهي تعلم أنه يقتنص أية فرصة ليجتمع وأياها وأصبح ألحاحه عليها أمر يشعرها بالخجل حتى أنها بدأت تفكر في الاستسلام لفكرة الزواج به.
وإحقاقاً للحق ف “غالب” لا غبارٌ عليه، شابٌ ووسيمٌ ومتعلمٌ والجميع بلا استثناء يحبه ويقدره، والأهم من ذلك أنه يعشقها حتى النخاع، فقط لو يدق قلبها إليه ما كان هناك من عائق لإتمام هذه الزيجة.
“سالي” بمماطلة:
-أعلم أنني أثقل عليك، ولكن ما دمت قد ميزتها عن مواشيكم وعرفت أنها تخصنا فلا حاجة لذهابي إلى هناك.
-يمكنك إقصائها عن خاصتكم وإرسالها إلى مزرعتنا مع أحد المزارعين التابعين لكم.
“غالب” مسرعاً بإلحاح:
-لا….. أعني أنني لاحظت أكثر من العدد الذي ذكرته فلابد من مجيئكِ.
“سالي” بامتثالٍ:
-حسناً “غالب”، سآتي وعلى كل حال فأنا أشكرك كثيراً، وأتمنى من الله أن تستتب الأمور حتى يجيء المدير الجديد.
حاول “غالب” التحكم بحاله لا إلا تظهر عليه معالم الابتهاج الشديد الذي يضرب حنايا فؤاده بقوة فها هو على موعد قريب مع الحبيب، فاستطرد يسألها قائلاً:
-ألا تعلمين مَن ذا الذي قامت إدارة البنك بتعينه مديراً للمزرعة؟
-أعني هل هو من البلدة أم من خارجها؟
هزت “سالي” كتفيها تقول بعدم اكتراث:
-لا أعلم، ولكن أنا أعتقد على الأغلب أنه غريب عن هنا.
-لو كان من الجوار لعلم السيد “عمران” ابن عمك وكبير البلد من هو وما اضْطُرِرتَ لسؤالي، صحيح؟
“غالب” بإقرار:
-معكِ حق، لقد استمعت إلى “عمران” وهو يحاور مدير البنك، وعلى ما أعتقد أنه سيوكل أحداً من طرفه ولكنني كنت على عجلة من أمري ولم أتأكد من شخص هذا الذي استقرا عليه.
-فقد اتصل بي التاجر الذي اشترى محصول الأرض لهذا الموسم يستعجل بضاعته فخرجت بالمقطورة التي حَمَّلها الرجال على الفور.
- وفور عودتي سأتحرى التفاصيل واعلمكِ بالمستجدات.
“سالي” بضيق:
-لا أعتقد أن الأمر مهم، فأي شخص مهما كان، بالنسبة لي سيكون دخيل ومفروض علي الامتثال لأوامره.
-سحقاً لهكذا قوانين.
زفرت بحنق ومن ثم استكملت تقول:
-يجدر بي الرحيل الآن لأصل إلى البيت قبل قدوم “أكرم”.
داعب “غالب” شعيرات ذقنه النامية وهو يقول:
-لقد رأيت شخص يشبهه من على بعد وأنا أقم بتشغيل محرك السيارة بعد أن رص الرجال أقفاص الخضار بها، كان ذلك منذ ما يقارب النصف ساعة.
“سالي” وهي تتجاوزه استعداداً للذهاب:
-على الأغلب هو، إلى اللقاء يا “غالب”.
قالتها وهي تلوح له متفادية توديعه بسلام اليد، فاستوقفها متسائلاً:
-هل ستذهبين إلى فرح ابنة الحج “جابر” يوم الخميس القادم؟
التفتت “سالي” تجيبه بهزة رأس نافية معقبة:
-لا أعتقد هذا، فقد وعدت أبي أنني سأذهب لزيارته مع أكرم يوم الخميس.
-لكن العمال والعاملات في المزرعة سيسهرون غدًا احتفالاً بانتهاء موسم الحصاد، يمكنك المجيء إذا رغبت؟
أنهت عبارتها ومن ثم استكملت طريقها نحو المزرعة عقب إشارة تأكيد من إبهام “غالب” تدل على قبوله لعرضها.
أخذت “سالي” تتأمل ما حولها وهي في طريقها إلى بيت المزرعة، ونظراتها تجوب الأرجاء شاملة الربى التي تحاوط المكان، تمر بالبراري التي يكسوها العشب، كما يوجد بالجوار أصوات الماشية التي تراعى بالغيطان ولفت نظرها الألوان المتباينة لجلودها، ومرتفعات تلوح في الأفق يعلوها طواحين هواء شاهقة.
تابعت “سالي” مسيرتها نحو بوابة المزرعة تفتحها على مصرعيها تستنشق عبير هواء نقي لفحها وبمجرد دخولها، وجدت “سيمبا” يركض نحوها بشعره الأشعث الكثيف ذو اللون الأسود يحرك ذيله سعيداً بقدوم صاحبته، إذ أن “سيمبا” يعد واحد من أعضاء هذه الأسرة منذ أن تبنته “سالي” وهو جرو صغير.
ألقى “سيمبا” بحمله على “سالي” التي يتودد إليها دوماً فهي أحب أفراد الأسرة إليه؛ ولطالما أغدقت عليه من العطف والدلال مما جعله يُكِن لها الولاء بالمقام الأول.
ضربت بعينيها على مرمى البصر، وجدت “أكرم” يجلس على سور شرفة الدور الأرضي للمنزل، بينما مالت “سالي بجذعها تداعب “سيمبا” الذي زادته رؤيته لها حماسة وغبطة وهي تحثه على الهدوء.
وما إن استشعرت” سالي” قرب أحدهم رفعت رأسها إليه، ترسم على ثغرها ابتسامة عذبة وهي تنظر بودٍ إلى ذلك الصبي الذي يرتدي منطالاً يصل إلى كاحليه، يبرز طوله الذي اكتسبه فجأة خلال بضعة الأشهر السابقة.
وذلك القميص القطني منزوع الأكمام المغطي لجزئه العلوي يظهر عضلات ذراعيه التي برزت عما قريب، كان “أكرم” يشبه والدهما الحج “حسين” كثيراً من حيث لون البشرة الحنطي وعينيه البنيتين كعيني “سالي” ولكنها ذات بشرة بيضاء كوالدتها “فاطمة” كما أنها ورثت عنها هاتين الغمازتين وكذلك “أكرم”.
وبالرغم من تقارب الطول بين “سالي” و”أكرم” إلا أن “أكرم” لازال في مرحلة البلوغ فهو يصغرها بثلاثة أعوام، فإلى أي مدى سيصل طوله بعد اكتمال نموه!!
زجرها “أكرم” يقول بصوت اخشوشنت نبراته بشكل ملحوظ مما يدل على انتقاله من مرحلة المراهقة إلى مرحلة الشباب ولكن جاء سؤاله متبرمًا يدل على الاستياء:
-لِمَ كل هذا التأخير” سالي”؟ أين كنتِ؟!
قالها وهو يجلس على حافة حوض المياه الذي تشرب منه الماشية، وهو يستكمل قائلاً:
-إنني أتضور جوعاً، وبحثت بالمطبخ ولم أجد أي طعام ساخن وها أنتِ قد وصلتِ توًا وبالطبع تريدين وقتاً للراحة.
-وهيهات حتى تتفضلي وتتكرمي وتتوجهين إلى المطبخ، والأدهى الوقت الطويل الذي ستستغرقيه حتى يصبح الطعام جاهزاً.
تجاهلت “سالي” تعليقاته الساخرة المستفزة، وسألته بضجر:
-هل قمت بأداء واجباتك فلديك معهد غداً ولم تذهب بالأمس؟
قلب “أكرم” عينه بمللٍ، يقول بتبرمٍ:
-لقد وصلت إلى البيت توًا!
“سالي” بعصبية:
-إياك والكذب “أكرم”، لقد قابلت “غالب” وأنا في طريقي إلى هنا، و أبلغني بأنه قد رأك منذ أكثر من نصف ساعة، أي أنه كان معك متسع من الوقت لتتناول وجبة خفيفة تمنحك الطاقة اللازمة لإتمام واجباتك.
أشاح بنظره عنها بعدم اهتمام يميل بجذعه كي يعقد رباط حذائه الرياضي، يقول بامتعاض:
-الوجبة الخفيفة لن تسد ما بي من جوع، هيا بنا لنذهب إلى المركز كي نتناول الغداء في أحد المطاعم.
هزت “سالي” رأسها باستنكار فَجَلَّ ما يفكر به “أكرم” هو راحته وما يريد، ومن ثم زجرته تقول:
-أنت لا تفكر بشيء سوى الطعام، حتى أنك لم تسأل عن حال أبيك!
تأفف “أكرم” بضيق، ثم سألها دون شغف:
-كيف أصبح الآن؟
لوت “سالي” ثغره باستهجان، مردفة:
-لقد تحسن قليلاً عن الأمس.
“أكرم” باستعطاف:
-هل يمكنكِ التواصل مع السيدة “سميرة” كي تستأذني منها لي بألا أذهب إلى المعهد صباح الغد؛ حتى أتمكن من مرافقتكِ لرؤية أبي.
“سالي” برفضٍ قاطع:
-لن أفعل، ستذهب غداً إلى المعهد دون جدال، كما أن غداً هو الخميس يمكنك الذهاب لزيارة أبانا يوم الجمعة في إجازتك.
نظر إليها أكرم مضيقاً عينيه بتوسلٍ، فقابلته بالصد تقول:
-اصبر لبعد الغد فلا أعتقد أن الاطمئنان على صحته ضرورة ملحة بالنسبة إليك.
-وأنا أنصحك بإنهاء واجباتك لا إلا يقم محاضركم بإهانتك أمام زملائك وتأتي بعد إنتهاء يومك الدراسي معكر المزاج.
-ومن ثَمَّ تشرع في تفريغ شحنة غضبك بالطعام وأنت منذ قليل كنت تتذمر بشأن إطالتي في إنهاء إعداد الوجبات.
-كما أن هناك مهام كثيرة خاصة بالمزرعة وإصلاح مضخة المياه التي تركتها أنت بالأمس تنعُر حتى احترق ماتورها، وحكَّمت رأيك بالذهاب مع أصدقائك ولم تشغل بالًا بالأمر.
قالتها وهي تواليه ظهرها تخطو إلى حيث السلم الرخامي الخاص بالشرفة الواسعة للمنزل، متجاهلةً طلبه بالذهاب إلى تناول الطعام في أحد مطاعم المركز فهذا يعني تكلفة إضافية.
أخذ “أكرم” يتمتم بامتعاض وهو يتبعها إلى الداخل، فقذفته بالأمر التالي:
-لا تنسى تقييد “عنتر” بالإسطبل حتى إذا ما استفقت متأخراً في الصباح كعادتك كل يوم تجد ما يوصلك إلى أول الطريق العمومي لتستقل سيارة النقل الجماعي.
-وبهذا لن تستغرق المزيد من الوقت بحثاً عنه هنا وهناك ويؤول بك الحال إلى الوصول إلى معهدك بعد دخول المحاضر.
دب “أكرم” الأرض بقدميه في ضجر، وهو يغيير خط سيره متجه نحو المرعى لينفِذ أمر أخته “سالي”، وبالرغم من استهجانه إلا أنه يعلم أن ما طالبته به تواً في صالحه أولاً.
استكملت “سالي” طريقها إلى الداخل، فوجدت الفوضى تعم بأرجاء المطبخ، والعديد من حافظات الطعام فارغة وأكواب بها آثار اللبن والشاي كانت في الحوض منذ أمس وزاد تراكم الأواني خلال نصف ساعة من حضور “أكرم”.
جحظت عيناها بدهشة، وهي تتفوه بعبارات ساخرة من بينها:
-يشكو الجوع وقد أفنى كل ما أحضره الجيران من طعام مطهو.
فهذه هي عادات أهل القرية كنوع من أنواع المؤازرة والتضامن الإجتماعي، وذلك بعد علمهم بإصابة أبيها ونقله إلى المشفى إذ أن والديها يتمتعان بمحبة كل مَن هُم في الجوار؛ كونهما يبادران بمساندة مَن يلجأ إليهما، ولم يسبق أن ردا طلباً لصاحب حاجة.
وزاد جزل جيرانهم بالقرية في العطاء، وذلك عقب اختفاء السيدة “فاطمة” عن الأنظار بعد حادث زوجها وعندما علموا بأنها تلازم الحج “حسين” بالمشفى ظلوا يتوافدون إلى دارهم محملون بالصواني المرتصة بكل ما لذ وطاب.
استنكار وشجب هذا ما تشعر بأنها قادرة على فعله تعبيرًا عن فقدان الأمل في إصلاح أخيها، إلى جانب بعض الابتهالات الخالصة لله متمنية عودة والدتها “فاطمة” إلى المنزل في أقرب وقت.
فبالإضافة إلى حاجتها إلى حنانها ورعايتها إلا أن هناك أمر آخر ألا وهو الضيق الشديد الذي يستحوذ على “سالي” عندما يتوجب عليها القيام بالأعمال المنزلية خاصة الطهي وجلي الأواني.
مر وقتٌ طويل وهي تعمل على قدمٍ وساق لتعيد ترتيب ما بالمنزل من فوضى وبدأت بالغرف أولًا ومن ثَمَّ الردهة.
وها هي تحاول بجهدٍ مُضني السيطرة على الكارثة التي حلت بالمطبخ وبينما كانت منشغلة بتنظيف طاولة الطعام الموجودة بأحد الأركان، استمعت إلى وقع أقدامٍ تقترب.
وإذا به…………….
👇