رواية كواسر أخضعها للرائعة نورهان العشري 9-10

“الفصل التاسع”

جاء خُذلانك ليهدِم كُل أحلامي الوردية ويلوث كِل أشيائي الثمينة ومن بينهم قلبي، قلبي الذي كان بالود عامرًا، والآن بات البغض والقهر مسكنه، فلا تتساءل أين ذهب غلاك،
فقد تساقط من قلبي كعقدٍ من اللؤلؤ انفرطت حباته مع كل دمعة ذرفتها روحي وهي تنعي جرح رجل أحببته بقدر السماء وقتلني بقدر ما أحببت.

نورهان العشري

“وليد” هل هذا أنتَ! ما هذه المصادفة. هكذا استفهمت بينما ملامحها افرجت عن ابتسامة عفوية كانت الشرارة التي أشعلت فتيل غضب “شاهين” الذي كان يشاهد ما يحدُث بعينين جاحظتين، فاقترب منهما تزامنًا مع كلمات “وليد” الذي تحولت دهشته إلى سعادة عارمة: أجل إنها مصادفة ولكن رائعة، وأنا ممتن لها كثيرًا، كيف حالك؟!
لون الحزن معالمها فانمحت بسمتها وهي تقول بخفوت:
بخير أشكُرك. تنبه لتبدُل حالها وقال باستفهام: أعتقد أن تلك الطفلة الجميلة بالداخل هي ابنتك أليس كذلك؟!

“هدى” بلهفة:
نعم أخبرني ما هي حالتها؟! “وليد” بطمأنينة: هدئي من روعك فالأمور تحت السيطرة، سأطمئِن عليها وأرى مؤشراتها الحيوية وأخبرك.
“هدى” برقة:
_حسنًا أنتظرك.

ابتلع غصة حارقة داخل جوفه وحاول قهر ذلك الغضب الذي تشعب داخله بشراسة فلو أطلق له العنان لوقع ضحيته الجميع وأولهم هي… فقد كانت تستند بثقلها على الجدار المُلاصق لباب الغرفة وكأنها تتوسل بصمت لذلك الطبيب الأحمق بأن يخرُج ويطمئنها على حالة طفلتها، كان مظهرها يوحي بمدى ألمها؛ لذا استمع إلى صوت العقل الذي أمره بأن يُمرر الموقف إلى حين انتهاء هذا الظرف الطارئ.
بعد وقت ليس بكثير خرج “وليد” وهو يخصها بنظراته متجاهلًا أسئلة الجميع ليجيب على توسلها الصامت بلهجة مُراعية:
_اطمئني يا “هدى” فقد زال الخطر ومؤشراتها الحيوية عادت إلى طبيعتها.

تعالت صيحات الحمد من بين شفتيها بينما الجميع كان يراقب هذا المشهد النادر لشاهين الذي لم يستطع السيطرة على نظراته الشرسة لهذا الطبيب الذي لم يرتَح له ولا لنظراته لتلك الغبية كما وصفها داخله والتي كان الامتنان يتساقط من نظراتها ونبرتها حين قالت:
_أشكرك كثيرًا يا “وليد” لقد كاد قلبي أن يتوقف من فرط الخوف.

رجاءً لا تقولي هذا الكلام مرةً أخرى، فالحمد لله مر الأمر على خير، والطفلة ستكون بخير في غضون أيام. هكذا تحدث “وليد” بلهفة رجلٍ وقع بالعشق في الماضي واصطدم بصخرة القدر الذي جعل حبيبته لرجلٍ آخرٍ، ومن سوء حظه أن يكُن هذا الرجل خلفه الآن مُباشرةً ينوي الفتك به… لولا تدخُل “زين” الذي كان يُراقب ما يحدُث بصمت ولكن ما إن شعر بأن الأمور على وشك الخروج عن السيطرة حتى تدخل في الحال. شكرًا لك أيها الطبيب، هل يمكن أن تدخل “هدى” لتطمئن على الطفلة؟!

“وليد” بلهفة:
أجل بالطبع يمكنها ذلك، ولكن يجب أن ترتاح هي أيضًا حتى لا تسقط فيبدو أنها تعاني الإرهاق والتعب. كان هذا أكثر من قدرته على التحمل فحين أوشك على الحديث أوقفته نظرات والده المُحذرة وكلماته التي جعلته يتراجع عن لكمه: لا تقلق أيها الطبيب و نشكرك على اهتمامك فنحن لا نفرط بهدى فهي ابنتي وزوجة ابني.

شعر “وليد” بالحرج و قد تغضن وجهه قبل أن يلتفت ليُناظر “شاهين” شذرًا ثم نقل نظراته إلى “هدى” قائلًا:
حمدًا لله على سلامتها. كانت ترى ما يحدث واختارت برضا أن تتجاهله وتتجاهلهم وهي تتوجه إلى طفلتها داخل الغرفة مُغلقة الباب خلفها… لتخرج ضحكة ساخرة من فم “ناريمان” التي اتبعتها قائلة بسخرية: أتذكر أنني رأيتُ هذا المشهد في فيلم هندي وغالباً انتهى بأن أتى الفارس المغوار لينقذ البطلة من بين براثن الوحش.

كانت تظن أنها مجرد كلمات عابرة ولكنها كانت كالبنزين الذي سكبته على نيران غضبه المشتعل للحد الذي جعل ظلمة عيناه تزداد أكثر… فتراجعت “ناريمان” إلى الخلف ذُعرًا من مظهره وكذلك “زينات” التي حاولت تصحيح الموقف قائلة بتوتر:
_ الحمد لله على سلامتها يا شاهين، سنغادر إلى المنزل ونرسل إلى هدى بعض الثياب فهي لم تبدل فستانها بعد.

وكأنه بحاجةٍ لأن تذكره بهذا الفستان اللعين الذي يُبرز فتنتها بسخاءٍ قادرٍ على إدارة رؤوس الرجال، أطلق زفرةً قويةً وهو يتوجه إلى داخل الغرفة مُغلقًا الباب خلفه بهدوء يتنافى مع جحيم غضبه المُشتعل ليخطو عدة خطوات مُتجاهلاً وجودها وهو يقترب ليضع قبلةٍ دافئةٍ على جبين طفلته وسط أنظارها الجامدة والتي تتحاشى الاصطدام به  تتمنى لو يغادر؛ حتى تستطيع استرداد أنفاسها ولو قليلاً… ولكنه أطال الوقوف ممَ ضاعف شعورها بالغضب منه فحاولت أن تكظمه قدر الإمكان وعم الهدوء المكان حولهم إلا من صدى أنفاسهم ورائحة الكبرياء التي تسيطر على الأجواء حولهم.
طرق خافت على باب الغرفة أتبعه دخول الممرضة التي كانت تحمل كوبًا من اللبن بيدها وهي تتقدم بحرج من هدى التي انكمشت ملامحها بدهشة تعاظمت حين سمعت كلماتها:
_ تفضلي أرسله دكتور وليد إليكِ وهو يتمنى أن تتناوليه حتى تتحسن حالتكِ فأنتِ تبدين مرهقة ووو

قاطعها ذلك الوحش الغاضب وهو ينتزع كوب اللبن من يدها ويتوجه إلى إبريق المياه الموضوع بجانب السرير وقام بإفراغ كوب اللبن به ثم توجه بعينين تلونتا بلون الجحيم الذي بث الذُعر إلى قلب الفتاة وخاصةً حين زمجر بشراسة:
_أخبري هذا المُخنث أن شاهين النعماني سيقحم هذا الكوب في مؤخرته إذا أقدم على إرسال شيء آخر إلى زوجتي.

ما هذا الجنون الذي تتفوه به؟! هكذا صاحت “هدى” بانفعال حين سمعت كلماته الهوجاء إلى الفتاة التي هرولت إلى الخارج مذعورة… فتفاجأت به يلتفت وهو يُناظرها بعينين أعماهما الغضب الذي تجلى في نبرته وهو يقول بشراسة: أقسم لكِ إن تفوهتِ بحرفٍ واحدٍ سأريكِ كيف يكون الجنون وسأقوم بسفك دماء ذلك الوغد أمام عينيكِ الآن.

شهقة مذعورة خرجت من جوفها حين رأت مظهره المُرعِب وكلماته المروعة التي كانت أكثر من كافية لجعل أعصابها تنهار فقد كان يومًا عصيبًا… ولم تعد تحتمل؛ لذا همست بنبرة مختنقة بفعل محاولاتها لقمع انفجارها في البكاء أمامه:
_ارحل من هنا، لم أعد أحتمل وجودك أكثر.

نفذت كلماتها إلى منتصف قلبه الذي ارتج من فرط الألم الذي أتقن تجاهله وهو يرتدي ثوب الغضب الذي تجلى بعروقه التي نفرت بصورة مرعبة لم تؤثر فيها بل احتدت لهجتها أكثر وهي تصيح:
_لا أنا ولا ابنتي بحاجة إليك؛ لذا ليس مسموحًا لك بالتواجد هنا.

كان رجلاً باردًا لا يغضب بسهولة، ولكن اليوم استنفذ مخزون صبره لسنوات قادمة فقد بلغ غضبه الذروة… فقام بجذبها من مرفقها بعنف لم تختبره معه مسبقاً وقام بإلصاقها بالحائط خلفها وهو يزأر بشراسة:
_لا أنتظر الإذن منكِ لأتواجد هنا فهذه هي ابنتي وأنتِ زوجتي وعليكِ تقبل ذلك أو أقحمه في عقلكِ الغبي هذا؟!

قال جملته الأخيرة بصراخ انتفض له جسد الصغيرة التي أفزعها صُراخه، فأخذت تبكي بذُعر، فانتزعت هدى ذراعها من بين يديه بحنق، وهرولت تحتوي الصغيرة بين يديها وهي تهدهدها بحنو يتنافى مع نظراتها المستاءة نحوه، فتجاهله متسلحًا بالجمود في مواجهتها.


“شاهين” هيا استيقظ فأنتَ نائم منذ ثلاث ساعات. تململ “شاهين” في نومته  حتى فتح عينيه اللتين وقعتا على “هناء” ليجدها ترتدي ملابس سهرة فجعد ما بين حاجبيه وهو يقول: لمَ هذه الثياب الآن؟!

“هناء” بغنج:
_لقد وعدتني أن تعوضني عن شهر عسلي، و هذان اليومان اللذان امضيتهم مع الصغيرة في المشفي وانا هنا وحيدة وأيضًا لقد مللت من الجلوس بالمنزل لنخرج للسهر قليلًا، اه .. و لتجلب لي العقد الخاص بتلك الإسورة فأنا سأموت لأكمل الطقم.

امتعضت ملامحه وزفر حانقًا وهو يقول بجفاء:
_لا يوجد لا عقد ولا خروج، هيا بدلي هذه الثياب فغدًا لدي مُرافعة وأريد أن أنام جيدًا؛ حتى أستطيع الاستيقاظ مُبكرًا.

لم تحتمل جفاءه وذلك القيد الذي يحكمه حولها؛ لذا صاحت دون احتراز:
“شاهين” لا تفعل ذلك أرجوك… لا خروج ولا دخول ولا نقود ولا مجوهرات لقد مللت. قالت جملتها الأخيرة بصوت أشبه بالصراخ، فلم يستطع الصمت أكثر خاصةً وهو يحمل كل هذا الغضب بداخله، فهتف بجفاء: ألا تملي من طلب النقود ومشاوير السهر هذه؟!

فطنت لفداحة ما تفوهت به وخاصةً بعد أن فوجئت من لهجته وملامحه التي كانت مُمتعضة كثيرًا فحاولت التبرير بلهجة أهدأ:
وما الذي يغضبك في ذلك؟ أنا أتجمل لأجلك. هكذا تحدثت وهي تتقدم منه لتلهو بأزرار قميصه العلوية تحاول إغوائه فشعر بنفور كبير من طريقتها تلك؛ لذا تحدث بجفاء: عزيزتي “هناء” لمَ بكل مرة نتحدث بها بأمر حيوي تفعلين ذلك وينتهي الأمر بنا في السرير؟!

صاعقة قوية ضربتها فزلزلت ثباتها وخاصةً حين أكمل بقسوة:
لمعلوماتك لم أتزوجك لأن علاقاتي الخاصة بزوجتي ليست على ما يُرام  ولكني تزوجتك لأنني أردت زوجة حقيقية أتشارك معها كل شيء. صمت لثوان قبل أن يردف بفظاظة: لا تحصري تفكيرك في العلاقة فقط، نعم إنها من أساسيات الزواج ولكن هناك أمور أخرى لها نفس أهميتها أيضًا.
تحدثت بنبرة فاقدة لكل معاني الصبر:
ما الذي تريده من هذا الحديث؟! أريد المشاركة والسكينة، أريد الهدوء يكفي ذلك الصخب الذي يسيطر على حياتنا.

امتقع وجهها وشعرت برغبة قوية في الصراخ بوجهه ولكنها اكتفت قائلة:
هل مللت مني؟! لم يتوانَ عن مصارحتها قائلًا باختصار: نعم  ولهذا أردت تنبيهك.
بدأت بفقدان أعصابها تدريجيًا فتحدثت بانفعال:
هل تفكر بالزواج علي؟! لم يستطع تحمل نظرتها السطحية للأمور وأسلوبها الغبي في التفكير.. فصاح مُتأففًا: يا إلهي كيف يصل الحديث إلى عقلك؟!

تساقطت عبراتها التي بدت حقيقية فلم يتأثر إنما تحدث بجفاء قائلًا:
أخبرتك ما افتقدته بزواجي الأول… ولا أريد تكرار نفس الأخطاء بزواجي منك افهمي. استفهمت بانفعال: إذن أخبرني بصراحة ما الذي تريده؟!

شاهين بخشونة:
_أريد الراحة، أريد زوجة مُحبة تشاركني هواياتي، تنتظرني عندما أعود من العمل،  تهدهدني كطفل صغير حين أغضب، أستطيع أن أخبرها بمشادة قمت بها مع سائق تاكسي لعين قام بالكسر علي أثناء القيادة دون أن تمل من حديثي بل تستمع إلي وكأنها تملك كل الوقت لفعل ذلك.

صمت لثوان وصورتها تتبختر أمام عينيه لتزيد من ألمه ولكنه حاول طرد شبحها وتلك النظرات المُعاتبة التي أمطرته بها ودقق النظر في عيني “هناء” قائلًا بتقريع:
_أُريد دفء وسكينة، أن أشعُر أنني مُهم في حياة زوجتي لا حافظة نقود مُتنقلة.

لم يعجبها حديثه فلم يكن يشبهها ولا يشبه تطلعاتها فصاحت بانفعال:
_ألم تخبرني أنك تريد أن تعيش حياتك كما يحلو لك، تفعل كل شيء جنوني بعيد عن قيود عائلتك!  لقد كنت تريد ذلك الصخب الذي تشكو منه الآن، ألم تقل هذا نصًا أريد امرأة شغوفة تمتلك روح ثائرة لتجعل حياتي مُبهجة؟!

“شاهين” بندم:
_نعم قلت هذا ولكنني كنت مُخطئًا، فلم يكُن ذلك ما أحتاجه من امرأتي، لقد أردت امرأة حنونة تسكُب بقلبي الطُمأنينة وتروي تربته بحنانها الذي لم أتذوقه مع أقرب الناس لي.

كان يقصد والدته.. بينما هي ظنت أنه يقصد “هدى” فاهتاجت أعصابها وجن جنونها… فصاحت بانفعال:
_لا تأتي على ذكر تلك المرأة أمامي مرة أخرى، فلتذهب إلى الجحيم ونرتاح منها؛ فأنا لم أعد أحتمل.

قطعت جُملتها تلك الضربة القوية التي سقطت فوق وجهها فأدارته للجهة الأخرى تزامُنًا مع صوته القاسي حين قال:
_إياكِ أن تتحدثي عنها بهذا السوء مرة أخرى وإلا اقتلعت لسانك من مكانه.


مر من الزمن سبعة أيام خارجيًا لم يحدث بها ما يُذكر ولكن كان الجميع يحترق بصمت أما “فراس” كان يعاند كبريائه ويحاول قمع مشاعره العاتية نحوها والتي كانت تتفجر ما إن يضع إصبعًا عليها فيضرب بعرض الحائط كل شيء وينخرط معها في مشاعر رائعة وأحاسيس دافئة ما زال يُعاند ويضعها تحت بند الرغبة الحسية فقط.
بينما كانت هي الأخرى تُعاني وكأنها قدمت نفسها كوجبةٍ شهيةٍ لبراثن الذنب الذي لا ينفك يُحاصرها تجاه والدها بكل مرة تكن معه ناهيك عن قلبها الذي لا تعلم كيف ومتى أفلتته من بين يديها ليصبح أسيرًا لذلك الرجل.

فقد وضعتها الحياة أمام مطرقة الاختيار ما بين واجبها تجاه والدها ومشاعرها القوية تجاهه والذي رفضت هي الأخرى تسميتها وتركتها تحت طائلة الرغبة الحسية فقط.
جاء الصباح مُشرقًا كملامحها التي تأسره للحد الذي يجعل عيناه تنتشي برؤيتها وتتملكه رغبة قوية في إخفائها عن جميع الأعين فهي الوحيدة القادرة على إنهاء تلك الصراعات المحتدمة بقلبه وتلك الحيرة التي تلازمه وضجيج تساؤلاته هل يسحبها إلى عالمه المظلم كما فعل هاديس مع برسيفوني ويُخفيها عن الأعيُن؟! أم يترُكها ويترُك نفسه لها تسحبه بنورها إلى عالمها الوردي؟!
أم يخبرها كل شيء ويترُك لها حُرية الاختيار، طافت عيناه على تقاسيم وجهها التي لا يمل من تأمُلها أبدًا وخاصةً عيناها التي كانت كنافذةٍ تُطل على الجنة، جنته التي اشتاقها كثيرًا فتحركت أنامله بخفةٍ على قسماتها لتستيقظ وتشرق بشمسها على عالمه المظلم… فأخذت تتململ بانزعاج جعلها تبدو شهيةّ أكثر فاقترب منها ليسحب أكبر قدر من رائحتها برئتيه ثم هوى بشفاهه يعزف ألحانه العذبة على ملامحها حتى استيقظت تمامًا فتوقف عن أفعاله العابثة حين اخترق قلبه همسها الخافت باسمه:
_فراس.

أشعلت بجوفه لهيبًا لا يطفئه سوى شهدها الذي لا يرتوي منه أبدًا ولا يكتفي، فاقترب هامسًا أمام شفتيها منبع هلاكه:
همسكِ بتلك الطريقة قد يقودني إلى قتلكِ بالفعل. سابقاً كانت كلماته تلك تُربكها وتبث الذُعر إلى صدرها ولكن الآن فهي توقد ألسنة الشغف بقلبها وسائر جسدها الذي أسلم راية الهوى أمام جموح مشاعره تجاهها… فهمست ببحة مثيرة: إذن هل غيّر هاديس نشاطه الليلي وأصبح يأتي في الصباح الباكر؟!

غمرت ملامحه بسمة جميلة زينتها لهجته الشغوفة حين قال:
ما رأيكِ لو أسحبكِ إلى عالمي كما فعل هاديس مع بريسفوني؟! همست تداعبه: تتفوق على هاديس بنقطةٍ فهو فقد خدعها أما الآن أنت تُخيرني أم أنني مُخطئة؟!
ظاهريًا كانت تُمازحه ولكن هناك استفهامًا يُطل من عينيها اللتين لا يستطيعا إلا الامتثال أمام طغيانهم وقد كان ذلك هو الخضوع الأول له في الحياة؛ لذا قال بخشونة:
_لم يخدعها هاديس فقد أحبته.

قاطعته مصححة:
لم يخبرها ماذا ينتظرها في عالمه وإلى أي درجةٍ يمتد ظلامه. وإن أخبرها هل كان ليشكل فارقًا في مشاعرها نحوه؟!
هكذا استفهم بغموض وقد شعرت بجسده الذي تصلب بجانبها ولكنها وصلت إلى نقطة اللا تراجع حين قالت بنبرة تحوي التوسل في طياتها:
_على الأقل كانت ستشعُر بأنها ليست مُرغمة على شيء، فإن اختارته فسيكون ذلك بملء إرادتها.

أظلمت نظراته لثوانٍ قبل أن يقترب واضعًا قبلة سطحية فوق جبهتها قبل أن تجده يُغادر السرير ناصبًا عوده مُتجهًا إلى باب الغرفة ولكنه التفت قائلاً بفظاظة:
_سأنتظركِ في المكتب بعد نصف ساعة من أجل العمل.

أومأت بصمت وهي تشاهده يخرج مغلقًا الباب خلفه فشعرت بقلبها الذي كان يئن بداخلها من فرط الخوف ولكنها حاولت طمأنته وهي تتذكر حديثها مع عمها “زين” قبل أربعة أيام.
عودة إلى وقت سابق…

كيف حالك عمي؟! هكذا تحدثت بخفوت إلى “زين” الذي كان يجلس في الحديقة يقرأ أحد الكتب وما إن سمع صوتها حتى التفت يناظرها بحنان تجلى في نبرته حين قال: أهلا بكِ يا نور، أنا بخير، أنتِ كيف حالك؟!
نور بهدوء:
بخير، هل أزعجتك؟! “زين” بلهفة: لا أبدًا هيا تعالي لنجلس معًا فالجو جميل اليوم.

أطاعته وهي تجلس على يمينه بينما ترك هو الكتاب من يده وهو يقول باهتمام:
أخبريني كيف تسير أموركِ مع فراس؟! فوجئت من السؤال الذي بدا وكأنه يشغل تفكير الجميع، فلم يتبقَ أحد لم يسألها عن أمورها معه. لا أقصد التطفُل فقط أردت الاطمئنان أن الأمور بينكما على ما يرام بعد ما حدث.
فطنت إلى ما يرمي إليه فرسمت ابتسامة هادئة على ملامحها وقالت بلهجة شابها التردد:
_آه، أجل، لا تقلق نحن بخير.

شعر بترددها في الإجابة فاحتضن كفوفها التي تبسطها أمامها على الطاولة وهو يناظرها بحنان أبوي:
رجاءً أخبريني إن كان هناك شيء. لامست فعلته جدران قلبها وكذلك نبرته الحانية فحاولت التماسك قدر الإمكان قبل أن تقول بتأكيد: لا تقلق عمي.
شعر بتأثرها واهتزاز جفونها من فرط ما تحمله من عبراتٍ فحاول صرف انتباهها حين قال مازحًا:
إن أقدم ذلك الوحش على إغضابك فقط أخبريني وأعدك أنني سأدق عنقه. فاجأته حين قالت مستفهمة: وهل يجرؤ أحد على فعل ذلك؟!

لم يخفي اندهاشه من استفهامها الذي قابله بآخر:
هل لكِ أن توضحي أكثر؟! نظفت حلقها قبل أن تقول نبرة مُلحة لمعرفة الإجابة: هل يستطيع أحدهم الوقوف بوجه فراس النعماني أو التصدي له؟!
ضيق زين عينيه وقال باندهاش:
_ما هذا الكلام نور؟!

اعتدلت في جلستها وأخذت تفرك كفيها ببعضهما البعض وهي تتلو مخاوفها دون احتراز:
_ إنه فقط… أنا…  يعني أقصد منذ أن كنت صغيرة وأنا أجد الجميع يهابه يخشى مواجهته، بعمري لم أرَ أحد يعارضه أو يجرؤ على قول لا أمامه.
زين باستفهام:
_وهل يُزعجكِ الأمر؟!

كيف تخبره بما تشعر به من ضياع؟! كيف تصيغ مخاوفها تجاهه؟! وتخبطاتها برفقته، فهو الشخص الوحيد الذي تشعر بالأمان معه حيث لا أحد سيجرؤ على أذيتها أو المساس بها عداه، هو الشخص الوحيد الذي يمكنه أذيتها دون أن يردعه أحد.

كان وجهها مرآة لما تشعر به؛ لذا اختار زين أن يجيبها على تساؤلاتها ويحد من حيرتها تلك:
_أنتِ مخطئة عزيزتي نور، نحن لا نهاب فراس، نحن فقط نحترمه، كونه شخص جدير بالاحترام فهو يحمل على عاتقه أعباء عائلة بأكملها، وهنا لا أقصد الشركات والمصانع وما شابه ولكن هو يحمل هموم الجميع وإن تأذى أي شخص منا ففراس قد يهدم الدنيا لأجله، فهو تحمل الكثير من أجل سلامة الجميع تمامًا كوالده، فقد كنا جميعًا نحترمه ونقدره؛ لأنه كان يستحق.

بدأ شعور من الراحة يتسرب إلى داخلها شيئًا فشيئًا من حديث عمها ولكن بقى الكثير مما تتوق إلى معرفته كما أن هناك الكثير من الثغرات التي تود إغلاقها إلى الأبد لذا قالت باستفهام:
_لمَ لم تتولى أنت أو أبي إدارة شؤون العائلة بعد وفاة عمي “رفيق”؟! أقصد لمَ فراس؟! فأنت وبابا تكبرانه ومن المؤكد أنكما تتفوقان عليه من ناحية الخبرة بحسب العمر.

توقع هذا السؤال منها فابتسم قبل أن يجيب ببساطة:
سأخبركِ أمرًا قد يدهشكِ ولكن لا أنا ولا والدكِ كنا جديرين بهذا الأمر. تبلور الاندهاش بعينيها… فتابع زين وهو يسرد ماضي يحمل الكثير والكثير: نعم نحن نعمل معًا وكلاً منا يفعل ما بوسعه من أجل العائلة ولكن أن تكون القائد أمرًا صعبًا وأيضًا في شبابنا لم نكن بهذا التعقل.

انكمشت ملامحه بحزن دفين قبل أن يتابع بشجن:
_كنا طائشان قليلاً وكثيرًا ما كنا نجلب المشكلات على عكس “رفيق” كان رجلاً مُنضبطًا صالحًا وكذلك “فراس” إنه يشبه أباه في كل شيء فهو رجل شهم ونبيل والأكثر من ذلك أنه ليس أنانيًا،

على عكس ما توقعت لم يستطع حديثه سد ثغرات الماضي المُبهم بالنسبة لها؛ بل فتح أبواب لاستفهامات أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها؛ لذا حاولت أن تحثه على المتابعة حين قالت:
_بالطبع لا يوجد أحد منا كاملاً ولكن “فراس” أيضًا له أخطاء.

زفر “زين” بشجن وفاجأها حين قال بلهجة مشجبه:
_ قد تندهشين من حديثي ولكن في كثير من الأحيان يكن خطأكِ الوحيد أنكِ شخصٌ جيد.
لونت الدهشة ملامحها وتجعد ما بين حاجبيها بحيرة فقام “زين” باحتواء حيرتها بكفوفه التي عانقت كفوفها المتوترة وهو يحاول أن يطمئنها فقال لها:
_ اسمعيني جيدًا نور، أكثر شخص تستطيعين الوثوق به في هذا العالم هو “فراس”، لا تضجرِ رأسكِ بتلك الأسئلة فوالله لو طلب مني أن ألقي بنفسي في البحر لأطعته؛ لأني أعلم أنه لو لم يكن الأمر في مصلحتي لما طلب مني فعل ذلك.
تعاظمت دهشتها أكثر وتجلى ذلك بنبرتها حين قالت:
_لهذه الدرجة؟!

زين بصدق:
نعم، والأمر لا يقتصر عليّ فقط بل الجميع هنا كذلك. طرأ استفهام مُلح على عقلها ولم تستطع شفتاها قمعه حين قالت بترقب: وهل ينطبق الأمر على والدي أيضًا؟!
“زين” مشددًا على كل حرف يخرج منه:
_والدك كان أكثرنا ثقة به وإلا لمَ كان سيوصيه عليكِ قبل أن يموت؟!

عودة للوقت الحالي…

اخترقت كلمات “زين” عقلها الذي لم يتوقف عن التفكير بها منذ ذلك الحين ولكنها لن تستطيع الإنكار أنها أفسحت لها المجال للتنفس قليلاً وإضفاء بعضٍ من السكينة على قلبها برفقته وإخماد نيران الذنب بصدرها كلما كانت معه.


نعم هناء، ما الذي تريدينه صرعتي رأسي باتصالاتكِ منذ الصباح ماذا هُناك؟! هكذا صاح شاهين في الهاتف باستياء فأتاه صوت هناء المُحتقن غضبًا: هل هكذا تحادثني بعد ما فعلته بي ذلك اليوم و تركتني بعده اسبوعًا بأكمله لا أعلم عنك شيئًا؟!

تجاهل ما تشير إليه بصفعه لها وصاح باستهجان:
_تركتكِ أسبوعًا! كم عمركِ لتقولي هذا الكلام؟! وأيضًا هل أنا تركتكِ في أحد الشوارع؟! أنتِ تجلسين مُعززة مُكرمة في منزلك.

فاض الكيل بها فصرخت بانفعال:
منزلي أم تقصد ذلك السجن الذي زججتني فيه محرمٌ عليّ الخروج إلا معك، تمنع عني أبسط الأشياء كرؤية أصدقائي أو الترفيه عن نفسي ولو قليلاً. شاهين محاولاً قمع غضبه قدر الإمكان فقد ضربت بحديثه عرض الحائط: سامحيني كنت أحاول أن أجعلك امرأة مُحترمة يا سيدة هناء.

شهقت بصدمة من حديثه وقالت متألمة:
هل تراني غير مُحترمة يا شاهين؟! شاهين بقسوة: فلتوجهي هذا السؤال لنفسكِ، ماذا يطلقون على المرأة التي تُريد السهر بالخارج دون زوجها؟ وتتفاخر بمجموعة من الحمقى وتطلق عليهم لقب أصدقائها.

صاحت بانفعال:
لقد تزوجتني وأنتَ تعلم أن هذه هي حياتي. قاطعها مصححاً بقسوة: لا ليس كذلك،  تزوجتكِ بعدما كررتِ مئات المرات عن كونك مللتِ من هذه الحياة وتودين الاستقرار والهدوء والآن اتضح أن كل ذلك كان عبارة عن تمثيلية لم تحتملي دوركِ بها لأكثر من شهر.

ضاقت ذرعًا بتجبره من وجهة نظرها فهدرت بعنف:
أجل لم أعد أحتمل كما لم أعد أحتمل تسلطك بتلك الطريقة. شاهين بصوت حاد كنصل السكين: حسنًا كما تريدين، لن أُجبركِ على شيء.

قالها وأغلق الهاتف بوجهها وهو يترجل من سيارته ليتوجه إلى داخل القصر


_أخبرتني أنك تريدني من أجل العمل.
هكذا تحدثت “نور” بهدوء وهي تجلس على المكتب أمامه، فطالعها بعينين التمعا بهما الشغف والإعجاب للحظات؛ فقد كانت جميلة بقدر بساطة ما ترتديه، لم تُفرط في زينتها ولا تبرجها إنما ارتدت فستانًا صيفيًا بلون الكريمة وتركت شعرها ينساب كستارةٍ حريريةٍ أحاطت ظهرها من الخلف واكتفت بوضع ملمع شفاه أضفى بريقًا رائعًا على مظهرها.

انتهت عيناه من تقييمها قبل أن تعود عينيه إلى لونهما الطبيعي وهو يتحدث بعمليةٍ تليق برجلِ أعمال مثله:
نعم هذا صحيح، في الواقع نحن بصدد بناء فندق كبير في أحد المُدن الساحلية ونحتاج إلى فكرة تكُن مُميزة تليق بروعة المكان وتجذب الأنظار إليها من دون الحاجة إلى عمل دعايا أو إعلان. مازحته قائلة: اممم تريد أن توفر أموال الدعايا إذن، يا لك من رجل أعمال ناجح.

تراقصت الابتسامة على شفتيه من مُزاحها وقد راق له تحسن مزاجها بدرجةٍ كبيرةٍ:
هذه ميزة أخرى يمكنكِ إضافتها بجانب كوني مستفز. هكذا تحدث ساخرًا، فهبت مستنكرة: وهل الاستفزاز بالنسبة إليك ميزة؟!
فراس بخشونة:
_الأمر نسبي.

بمعنى؟! أسند ظهره إلى المقعد خلفه ليسترخي أكثر في جلسته قبل أن يقول بكسل: يتوقف الأمر على الشخص الذي أمامي، مثلاً إن كانت امرأة فاتنة بعينين تزدهر بهما أشجار الزيتون و كأنهما قطعتي زمرد فالاستفزاز يكون متعة بالنسبة إلي،

كلماته جعلت دماء الخجل تروي خديها فنبت الورد فوقهما مما جعله يقول بنبرة موقدة:
_وأكون ممتنًا له كثيرًا حين يجعل الزهور تنبت فوق وجنتيها هكذا، فيُضاعف فتنتها وعذابي.

تأجج صدرها من فرط التأثر بكلماته ونظراته التي كانت تبثها مشاعر قوية جعلت أنفاسها تتشاجر بداخلها ولم تفلح في إيجاد كلمات تعبر عن ما يجول بخاطرها فأنقذها دخول شاهين بوجهٍ مُغبرٍ ومزاج سوداوي تجلى في كلماته حين قال:
_اجعل الخادمة تجلب لي القهوة وسأكون ممتنًا لو وضعت بعض قطرات السُم بها.

كان يود لو يلكمه بكل قوته حتى تندثر معالمه ذلك اللعين الذي أتى في أكثر الأوقات خطأً على عكسها فقد كانت ممتنة كثيرًا لدخوله في تلك اللحظة فقد احترق الهواء من حولهما ليجعل الأمر يزداد خطورة لولا دخول شاهين الذي أخذ يناظرهما بخُبث جعل حنقها يتضاعف فهمست بامتعاض:
_ليتها تفعل وتُريحنا منك.

ضيق شاهين عينيه وهو يقول باندفاع:
ما بها هذه هل فعلت لها شيئًا؟! فراس بفظاظة: وهل تجرؤ على ذلك؟!

تعاظم الحنق بداخله فزفر مغلولاً:

 _لا طاقة لدي للشجار الآن وأجواء العشاق هذه تجعل معدتي تشمئز؛ لذا سأغادر قبل أن أتقيأ من فرط التأثر.

أمره فراس بغلظة:

 _كُف عن التذمر وأخبرني ماذا فعلت؟ هل أمنت الشاحنات التي ستنقل السلاح من الميناء إلى المخازن؟!

برقت عينا شاهين من حديث فراس وكذلك نور التي احتبست الأنفاس بصدرها من حديثه المباشر عن عالمه المظلم أمامها دون احتراز وتعاظم ذهولها حين وجدت شاهين يجيبه بسلاسة:

_نعم والرجال الآن يُفرغون المخازن استعدادًا لاستقبال الشحنة، ولكن أخبرني هل ستشرف حقًا على استلامها بنفسك؟!

_نعم  سأفعل.

هكذا أجابه فراس.. فقام شاهين بمد أحد المجلدات إليه وهو يقول:

_كما تُريد، هذه أوراق الشحنة وسيكون رجالنا هُناك ليُمهدون لك الإجراءات.

أخذ فراس المُجلد منه وهو يلتفت ليضعه في الخزنة الضخمة التي على يمينه وعند هذا الحد لم تحتمل نور فقد كشف جميع أوراقه أمامها ولا تعلم لمَ شعرت أنه يقصد ذلك؛ لذا التفتت إليه قائلة بلهجة بدت مهتزة:

 _حين تتفرغ أرسل لي المعلومات الكاملة للمشروع وصور للمكان الذي سيقام عليه.

قام فراس بجذب أحد المجلدات من الدرج وناولها إياه وهو يقول بفظاظة:

_ كم تحتاجين من الوقت لإنجازه؟!

شعرت به يتحداها فقابلت تحديه بآخر وهي تقول دون احتراز:

_ ثلاثة أيام.

حاول قمع ابتسامته قدر المستطاع قبل أن يقول بلهجة خشنة:

 _أمامكِ أسبوع من الآن لتُنجزيه.

اغتاظت من تخطيه لحديثها وخاصةً حين وصل إلى مسامعها ضحكة شاهين الخافتة فهبت مُعترضة:

 _لا أحتاج إلى كل هذا الوقت، باستطاعتي إنجازه في أقل من ثلاثة أيام.

عض على شفتيه السفلية قبل أن يقول بتسلية:

 _أوافقكِ الرأي ولكن هذا إن كنتِ مُتفرغة.

 _ أنا بالفعل كذلك، حتى أنني أضجر من الجلوس دون فعل شيء طوال اليوم.

هكذا حادثته بعفوية ليتدخل شاهين في الحديث بحُزن مفتعل:

 _آه يا فراس، عيب عليك يا رجل أن تُعاني زوجتك الجميلة من الضجر وأنتَ موجود، هذا سيئ بحق سُمعتك.

احتقن وجهها بالدماء وخاصةً حين سمعت ضحكته الخافتة فالتفتت لتجده أحكم قمعها وهو يقول بعينين يتراقص بهما العبث:

_سُمعتي ستسوء بسببك.

هتفت بحنق:

 _حقًا؟!

فراس بتسلية:

 _أجل، ولكن اطمأني سأحرص على ملء هذا الفراغ بطريقتي الخاصة، فلا يمكنني التهاون في شيء يخص سُمعتي.

طفح الكيل ولم تعُد تحتمل تسلية هذان اللعينان ولكن لن تكون نور النعماني إن لم ترُد الصاع صاعين؛ لذا استبدلت الغضب بالسخرية حين قالت موجهة الحديث لفراس المستمع بمراقبة انفعالاتها:

 _عزيزي فراس يؤسفني القول بأن سُمعتك كهاديس لن تتحسن ولو بذرةٍ واحدةٍ حتى لو ملأت فراغ جميع سكان العالم.

لأول مرة لم يفلح في قمع ضحكته أمامها خاصةً حين التفتت إلى شاهين قائلة بسخرية:

 _وأنتَ أيها الظريف لن أضيع وقتي معك؛ لأني على موعد مع زوجتك المصون للاطمئنان عليها خاصةً وأن اليوم هو أول يوم عمل لها.

ما أن سمع شاهين جملتها الأخيرة حتى وثب قائمًا وقد اسودت معالمه وخشنت نبرته حين قال:

 _ما هذا الهراء! من التي بدأت بالعمل اليوم؟!

بطريقة مسرحية ضربت نور جبهتها بيدها وهي تقول بحزن مفتعل:

_ أوبس، هل يعقل أنك لا تعلم بأن هدى بدأت بالعمل في السفارة اليوم! أخ يا لهذه المهزلة.

لون التشفي ملامحها وتساقط من بين حروفها حين قالت:

_الآن أنا من يُشفق عليك فقد أصبحت سُمعتك بالوحل.

قهقه فراس بصخب فقد أصبحت قطته مشاكسة كثيرًا للحد الذي يجعله يود الآن التهامها… ولكن شاهين لم يدع له الفرصة فقد اندفع إلى الخارج كالثور الهائج… الذي تتراقص أمامه عباءة حمراء فتزيد من جنونه أكثر ومن يراه الآن يظن بأنه بصدد ارتكاب جريمة قتل… فقد كان يتشاجر مع خطواته وهو يسُب ويلعن ويتوعد لها بالهلاك فلم يلتفت لنداءات “جليلة” التي صدمها رؤيته بهذا الحال خاصةً حين دلف إلى غرفته المشتركة مع “هدى” وهو يغلق الباب خلفه بعنف… جعل جسد تلك الأخيرة ينتفض هلعًا خاصةً حين التفتت لتراه بتلك الهيئة المرعبة… والشرر يتطاير من عينيه ولهجته حين هسهس قائلاً:

 _هل حقًا خرجتِ إلى العمل من دون أن تُعلميني؟!

ابتلعت ريقها بصعوبة بعد أن فرت شجاعتها أمامه ولكنها علمت بأن وقت المواجهة قد حان؛ لذا حاولت استعادة جأشها وهي تقول بجمود:

_نعم فعلت.

اشتدت شراسة معالمه وهو يتقدم منها قائلًا بجهامة:

 _كيف تجرؤين على فعل ذلك؟!

بالكاد استطاعت السيطرة على قدميها التي تتوسل إليها الهرب من أمامه الآن… فهي لأول مرة بحياتها تراه غاضبًا إلى هذا الحد… ولكنها لا تملك مفر من الثبات أمامه فهي معها كل الحق بتجاوزه:

_ أجرؤ على فعل كل شيء ما دام أنه ليس خطأ وأيضًا هذه هي حياتي لي الحق بأن أُسيرها كيفما أشاء.

تجاهل غصة أصقلت جوفه وقال بسخرية تتنافى مع شراسة معالمه:

_هل برأيكِ أن تذهب الزوجة إلى العمل دون أن تُعلِم زوجها ليس خطأ؟!

هدرت بغضب يمتزج مع ألمها القاتل الذي تبلور بعينيها وهي تقول:

 _لقد أخرجتك من حياتي مُنذ ذلك اليوم؛ لذا لا تنتظر مني أن أُعلمك أي شيء يخُصني.

توقعت منه الصراخ وتحطيم كل شيء حولها وحتى صفعها ولكنها أبدًا لم تتوقع هدوئه المباغت ونبرته الجامدة حين قال:

_وهل فكرتِ بتبعيات فعلتك يا تُرى؟!

جاء جوابها مُقتضبًا حين قالت:

 _لا يستحق الأمر أن أضيع وقتي بالتفكير فيه.

 شيء واحد يمنعه من دق عنقها الآن وهي تلك اللمعة التي تتبلور في عينيها اللتين تهتز جفونهما من فرط ما تحمله من عبرات… فقد كان يعلم أنها تفعل ذلك فقط لتغضبه ولتثأر لكرامتها وقد توقع ذلك بعد رؤيته لها في الحفل بذلك التغيير الهائل في مظهرها:

_إذن وأنا أيضًا لن أُضيع وقتي في الحديث به .. لذا كوني عاقلة ولا تُكرري فعلتكِ هذه مرة أخرى وانسي أمر هذا العمل إلى الأبد.

بدلاً من أن تُثير جنونه فعل هو بلهجته الآمرة وطريقته التي توحي بأنها عبدة عنده خاصةً حين وجدته يلتفت ينوي المغادرة… فلم تتمالك نفسها وأخذت تُدبدب بقدميها على الأرض كالأطفال وهي تصرخ بانفعال:

 _كُف عن التدخُل بحياتي وإلقاء الأوامر فسأفعل ما يحلو لي ولتذهب أنت وأوامرك إلى الجحيم.

طرقات حذائها العالي الكعبين على الأرض كان له وقعًا قويًا على أُذنيه فالتفت ينظر إليها وسُرعان ما احتدمت نظراته وهو يرى تلك التنورة القصيرة التي تصل لفوق ركبتها… وذلك القميص الذي يلتصق بجسدها بتلك الفتحة التي تبرز مقدمة صدرها بطريقة أججت نيران رغبته وهو زوجها فكيف إن رآها رجل آخر، لم يحتمل هذا الشعور فزمجر بوحشية:

 _من سمح لكِ بارتداء هذه الملابس؟! أن يظهر نصف جسدكِ أمام الرجال ليس خطأ أيضًا!

تجاهلت جملته الأخيرة وقالت بجفاء:

_ومن قال لك أني أنتظر من أحدهم السماح لي بارتداء ما أُريد؟!

يعلم أنها الآن تحاول استفزازه بتلك الطريقة فهي منذ أن علمت بحادثة زواجه لم تتحدث معه وقد كان يتوقع انفجار منها ما أن يحدُث بينهما أي حديث؛ لذا قطع الفرصة عليها وهو يقول بتحذير:

_ انظري إليّ لا تُثيري غضبي الآن ولا تقومي بارتداء هذه الأشياء مرة أخرى.

قاطعته بعنف:

 _لست في وضع يُمكنك إلقاء الأوامر عليّ.

تشدق ساخرًا:

_حقًا؟!

_نعم.

تأججت نيرانه أكثر والتي كان يحاول قمعها قدر الإمكان ولكن تحديها وفتنتها بهذه الملابس كان لهما وقعًا قويًا على ثباته؛ لذا اقترب منها قائلاً باستفزاز:

 _ مُخطئة فأنا لا يمكنني إلقاء الأوامر فقط… بل وإجباركِ أيضًا على تنفيذها.

كان على الطريق الصحيح فقد هبت عاصفتها الهوجاء حين صاحت مغلولة:

 _لا تملِك حق  إجباري على شيء.

طافت عيناه بوقاحة عليها وهو يقول بخشونة:

_اسمعيني جيدًا، ما دُمت زوجتي وتعيشين تحت سقفي فأنتِ تحت إمرتي هل هذا واضح؟!

صاحت بقهر منبعه جرح ما زال ينزف بقلبها:

_مُجبرة، أنا هنا مُجبرة، ولهذا لا أستطيع تحمل أي إجبار آخر.

لامس حزنها قلبه فقال بلهجة هادئة:

_هدى صدقًا لا أود أذيتكِ أكثر.

قاطعته ساخرة:

 _رجاءً لا تُعطي لنفسك هذا القدر، من أنت لتؤذيني؟! بالنسبة إلي أنت والهواء واحد، فأنا حقًا لا أراك.

يُجيد التلاعب بالكلمات فهذه وظيفته في قضاياه وإلا لما لمع في مهنة المحاماة فقد كان ماهرًا في قلب كل شيء ليصل في كفته؛ لذلك تحدث بلهجة فاحت منها رائحة الكبر:

_ولكنكِ لا تستطيعين العيش من دوني.

صاحت مغلولة:

_مغرور أحمق.

عاندها باستمتاع:

 _بل هي حقيقة يُعميكِ الغضب عنها.

لم تلحظ اقترابه إلى هذا الحد حتى بات على بعد خطوةً واحدةً فقد كانت مُنشغلة برد هجماته بأقوى منها؛ لذا تحدثت بجفاء يشوبه السخرية:

_لا هي أحلامك البائسة، إن كنت تظن أن لك مكان بحياتي بعد ما فعلت أو أنك تؤثر فيّ ولو بهذا القدر فأنت مخطئ.

أظلمت عيناه أكثر من حديثها وتغلبت مشاعره القوية إضافة إلى فتنتها التي لم يستطع مقاومتها أكثر فهمس بلهجة موقدة:

_يروق لي هذا التحدي كثيرًا.

لم تكد تستوعب ما يقصد حتى وجدت نفسها أسيرة لذراعيه التي جذبتها لتصطدم بصدره القاسي، بينما اقتنصت شفاهه خاصتها بشغفٍ قاتل تملكه نحوها وعزز ذلك شوقه الضاري لها والذي كان يحاول التبرأ منه… ولكن هيهات أن يستطع الصمود أكثر من ذلك فقد قادته بأفعالها وتحديها إلى الجنون الذي كان يسكُبه بولع على ضفتي شفاهها دون أن يُتيح لها أي فرصة لمقاومته… فقد كان يُكبل جسدها وروحها بأصفاد ساخنة قذفت حممها إلى قلبها وسائر جسدها، الذي تحولت كراته إلى نيران هوجاء فلم تُمانع وهو يتراجع بها ليسندها على الحائط خلفها حتى يُحكِم سيطرته عليها أكثر، فنهمه إليها قاتل للحد الذي جعله يغترف من حسنها بقسوة كانت الشيء الوحيد للارتواء من قربها… ولكنه أشفق على رئتيها اللتين كادتا أن تنفجران طلبًا لبعض الهواء وعلى مضض تركها، بينما ذراعيه لم تفعل المثل مع خصرها وكأنه لم يكتفِ فقام بجذب خصلها للخلف ليتسنى له التنعم بمطالعة حُسنها عن قرب والتمتع برؤية تأثيره بها، بينما همست شفاهه أمام خلصتها بلهجة محرورة:

_ لو تعلمين كم كنت أتوق لفعل هذا مُنذ أن رأيتكِ في الحفل بذلك الثوب اللعين.

همست بخزي من استسلامها المُهين له:

 _ابتعد عني.

ارتفعت يده تمسكها بقوة من فكها قائلًا بهمس مُستعر:

_وأيضًا لتعلمي بأن سيطرتي عليكِ مُطلقة وأن انتمائكِ لي لا جدال فيه.

كلماته أشعلت نيران هوجاء بداخلها فباغتته بدفعه قويه جعلته يتراجع للخلف خطوة وهي تقول بقسوة:

 إذن أنصحك بألا تفعل هذا مرًة أخرى لألا يُصاب غرورك المريض بصفعة رفض قاسية لن أتردد في توجيها لك .. 

يعرف جيداً كيف يلعب بإعداداتها فقد تجاهل تهديدها قائلاً بنبرة شغوفة:

مضى وقتاً طويلاً حتى رأيت عيناكِ تبرقان هكذا .. تقريباً مُنذ آخر لقاء جمعنا.. تري هل تتوقين إلي بتلك الطريقة ؟ و هل هذه دعوة لتكرار هذا اللقاء ؟

أن تركت له المجال ولو قليلًا فسيُصيبها بسكتة قلبية لذا استخدمت نفس حيلته حين حاولت تهدئة انفعالاتها لتقول ساخرة:

بأحلامك.. أي لقاء قد يجمعنا لن يتجاوز حدود الأحلام .. 

رفع يده يحك بها فكه وعيناه تُبحران علي جسدها بوقاحة :

 أنا بارع بتحقيق أحلامي لذا فأنا مُطمئن أن لقائنا قريب للغاية ..

أوشكت على صفعه ولكن رنين هاتفها أوقفها عن ذلك و ما أن توجهت إلى الطاولة خلفه لتري من المتصل تفاجأت بيديه التي التقطته قبلها و قد تحولت نظراته إلى الجنون وهو يزمجر بشراسة

 لماذا يتصل بكِ هذا الرجل؟ 

تجاهلت توترها و صخب قلبها مما يحدُث وقالت بجفاء:

_ هل يُمكن لأنه الطبيب الذي يُتابع حالة ابنتك 

لم تُعجبه إجابتها ولكنه اكتفى بالصمت مع نظرات متوعدة أربكتها ولكنها تصنمت بمكانها حين وجدته يلتفت و يُلقي هاتفها في الحائط بقوة ليتهشم أمام عينيها التي كانت تبرق من شدة الصدمة ..

“الفصل العاشر”

إلي اين يذهب الإنسان حين تخونه كل الأماكن المُفضلة و تلفظه كل الشوارع و الطرقات المُحببة ، حين يتلفت في جميع الاتجاهات ليجد نفسه وحيدًا بعد أن خسر معركته في هذه الحياة دون أن يعرف بأي ذنب هُزِم !

نورهان العشري

“نور” أريدك حالًا في غرفتي. فوجئت “نور” من والدتها التي أرسلت لها رسالة نصية على هاتفها مما جعل الدهشة تُخيم على ملامحها ولكنها بالنهاية لم تجد مفرًا من الذهاب إليها وتجاهل ذلك الثُقل الذي يرثو فوق قلبها مما قد تخبرها به، فهي تشعر بمدى حنقها كلما رأت “فراس” بالقرب منها وقد كانت تحاول أن تتجاهلها قدر الإمكان ولكن الآن لم يعد أمامها شيء سوى المواجهة؛ لذا تركت ما بيدها من أدوات فقد كانت تضع اللمسات الأخيرة على التصميم الذي يخص هذا الفندق فقد أخذ الأمر منها أسبوعًا كما أخبرها وقد اجتهدت كثيرًا وبذلت ما بوسعها حتى تكون النهاية مُرضية وخاصةً حين شعرت أن هذا العمل بمثابة اختبار لها إن كانت جديرة بالعمل معه أم لا، أخذت نفسًا طويلًا قبل أن تقوم بالطرق على باب غرفة والدتها التي سمحت لها بالدخول فأطلت برأسها من الباب لتجدها تقف أمام الشرفة تنتظر قدومها… فدلفت إلى الداخل مغلقة الباب خلفها… ثم اقتربت من “فريال” بهدوء فباغتتها الأخيرة بالحديث بجفاء: جاء وقت تنفيذ ما اتفقنا عليه “نور”، هل أنتِ مستعدة؟!

جلبة قوية اجتاحت صدرها لتشق عليها أمر التنفس مما جعل حلقها يجف وهي لا تعلم بماذا تجيب والدتها التي تابعت باستفهام ساخر:
هل أكلت القط لسانك يا تُرى؟! نظفت حلقها قبل أن تقول بتوتر: لا ولكني أنتظر أن تُكملي حديثك.
“فريال” بجفاء:
_حسنًا، “فراس” يُخطط لإدخال شحنة كبيرة من السلاح إلى البلاد، أريدك أن تعلمي ميعاد استلام تلك الشحنة ومكان تخزينها.

هوى قلبها رعبًا حين اخترقت مسامعها كلمات والدتها التي كانت تتابع كل انفعالاتها بترقب ومن المؤكد أنها حتمًا لاحظت امتقاع وجهها فما يحدث ليس عادلًا فما تُريد والدتها معرفته موجود بخزانته في الأسفل، وقفت متكتفة أمام هذا المأزق الذي وضعتها به الحياة ولا تملك أي سبيل للهرب منه، سحبت نفسًا قويًا عبأ صدرها قبل أن تقول بجمود وهي تتوارى خلف خداع واهي كان هو مُنقذها من هذا المنعطف الحاد:
_حسنًا.

“فريال” بتهكم:
من الجيد أنكِ أخيرًا استطعتِ إخراج صوتك. حاولت الحديث بملامح حيادية لا تعكس شعورها: فقط كنت أفكر في كيفيه فعل ذلك.
“فريال” بسخرية:
_ لا تقلقي أنا مُتأكدة من أنكِ ستنجحين بذلك مهما كانت الطريقة.

تفشت علة الفضول بقلبها فاستفهمت قائلة:
على ماذا تستندين بحديثك هذا؟! لون المكر ملامحها وهي تقول بفخر زائف: على ما أراه يحدُث بينكما عزيزتي، فأنتِ لستِ ساذجة كما ظننتك.
خيم الذهول على ملامحها وفي نبرتها حين قالت:
_ما الذي تقصدينه؟! أنا لا أفهمك.

_ أخضعتِ الوحش، هنيئًا لكِ.
هكذا أجابتها بسخرية فتجاهلت “نور” مُنحنى الرد فقد نالت من تلك المرأة ما يكفي من الخُذلان الذي جعلها تكتفي فلم يعُد هناك مكان لجرح جديد منها؛ لذا قالت بجفاء:
هل تُريدين مني شيئًا آخر؟! “فريال” بحنان زائف: لا حبيبتي، يكفي أن تفعلي ما طلبته منكِ.

أومأت “نور” بصمت وهمت بالالتفات تنوي المغادرة فأوقفتها كلمات “فريال” المشبعة بالزيف والخداع:
_تذكري يا “نور” أن ما تفعليه سيجعل والدك يرتاح بقبره  ويفخر بامتلاكه ابنة مثلك، لم تنسه وسط فوضى الشعور وفضلت الأخذ بثأره على مصالحها الشخصية،

ودت بأن تلتفت لتصرخ بوجه تلك المرأة المُسماة بوالدتها وتُخبرها أي نوع من الجحيم هذا الذي تُلقيها به ولكنها تعلم أن ذلك لن يلقى صداه داخلها؛ لذا ابتلعت ألمها الحارق وتوجهت إلى باب الغرفة لتغادر هذا الجحيم.


استمعي إلي يا “هناء”، لن تُفلتي هذا الرجل من يدك أبدًا هل تفهمين؟! هكذا تحدثت “صابرين” والدة “هناء” بغضب فهبت الأخيرة غاضبة: ماذا عليّ أن أفعل هل أتوسل له كي يأتي؟!

إن لزم الأمر فستفعلين، فكري جيدًا من أين ستحصلين على رجل مثله مرة أخرى؟! إنه غني ومحامي لامع وعائلته من أغنى أغنياء البلاد، كما أنه شاب وسيم جميع الفتيات تتمنى ولو نظرة واحدة منه. صاحت مغلولة: لا أحتاج منك أن تُذكريني بميزاته فأنا أكثر من يعلمها ولهذا أنا أحترق أمامك الآن.

“صابرين” بحنق:
ستحترقين أكثر لو أطلقتِ العنان لغبائك ليقودك هكذا. ماذا فعلت أنا؟!
“صابرين” بتقريع:
_ فعلتِ المستحيل لتحصلي عليه حتى أنكِ لازمتي المنزل لأكثر من ثلاثة أشهر؛ حتى تظهرين أمامه بمظهر الفتاة الهادئة المحترمة، والآن بكل غباء تظهرين وجهك الحقيقي وتتشاجرين معه لأجل السهر والتسكع مع أولئك الحثالة!  وتسألين حقًا ماذا فعلتِ؟!

هدرت بانفعال:
_لقد مللت يا أمي لا أُجيد الجلوس في المنزل هكذا وأيضًا أنا غاضبة منه كثيرًا فمنذ أن عدنا من ما يُسمى بشهر العسل لم أره، ويريد مني الالتزام في البيت كامرأة عانس، لا خروج ولا سهر ولا أي متعة، هذه ليست الحياة التي كنت أظن أنني سأحياها برفقته.

منذ أن كان عمرك ثمانية عشر عامًا وأنتِ تخرجين وتسهرين كل يوم، ألم تملي من فعل تلك الأشياء اللعينة لمدة عشر سنوات؟! “هناء” بانفعال: هذه هي حياتي ولأجل ذلك تزوجته؛ لكي يوفر لي الإمكانيات لعيشها بطريقة أفضل.

زفرت “صابرين” بتعب قبل أن تصيح:
_إذن سيضيع “شاهين” من يدك وحينها ستخسرين، ولا تظني أنه بإمكانك أن تستندي حقوقك التي لا تساوي قرشين أمام أمواله الطائلة.

داهمتها حوافر القلق فأخذت تشرد أمامها وهي تفكر في حديث والدتها التي قالت بجفاء:
_فكري مليًا واعلمي أن هذا الرجل ذكي جدًا فهو يمهلك الفرصة كي تكوني مثلما يريد وإن تماديتِ أو فكرتِ بخداعه سيُلقي بك عند أول مفترق طرق ولن يتلفت إلى الوراء أبدًا.


كانت تجلس في شُرفة غرفتها تنظُر بشرود حولها وعقلها يعمل كالآلة تُريد الخلاص ولا تُدرك أين تاه دربه، تقف عند مُفترق طُرق أن خطت قدماها بأيًا مِنهُما لن تستطيع التراجع أبدًا… ناهيك أن خطوتها القادمة ستُحدد مسار حياتها القادمة، إن كانت جنة برفقته أو جحيمًا من دونه وللحظة تمنت أن تراه الآن؛ لتستند بثقلها فوق صدره الذي كان يحتوي جزعها ويمتص طاقتها السوداء حين تحتويها ذراعيه وكأنها تُخبرانها بأن كل شيء يكون على ما يرام ما دامت برفقته.
أخرجها من شرودها رنين هاتفها الذي التقطه لرؤية المتصل فشعرت بقلبها ينتفض كطفل صغير حين وجدت اسمه يضيء شاشة هاتفها وكأنه شعر بها فقد كانت تحتاجه بشدة.
نظفت حلقها قبل أن تجيب بلهجة هادئة:
“فراس”. باغتها حين قال بلهجة خشنة: كنتِ تُفكرين بي أليس كذلك؟!

عاندت شوقها واحتياجها إليه وهي تحتال عليه قائلة:
لا من أخبرك ذلك؟! كان يتوقع إجابتها؛ لذا قال بتخابث: إذن لما خداك مُحمران بتلك الطريقة المغوية؟
هبت من مكانها وهي تقول باندفاع:
_هل تراني؟! أين أنتَ؟! هل أتيت؟!

وصلها صوت قهقهاته الرجولية التي أثارت زوبعة من المشاعر داخل قلبها وخاصةً حين قال يُعري شوقها الضاري له:
هذا يعني أنكِ كنتِ تفكرين بي، لما الكذب إذن؟! تعاظم الحنق بداخلها كونه فطن إلى كذبها فهدرت بغضب: لأنك مغرور لعين.
ابتسم على غضبها وقال محذرًا:
_ لسانك يا فتاة، أعدك بأن ثاني شيء سأفعله ما إن أراكِ هو معاقبة ذلك اللسان السليط.

تراقصت دقات قلبها على أنغام كلماته وهمست بخجل:
وما هو أول شيء ستفعله إذن؟! أجابها “فراس” بنبرة موقدة تحمل الشغف واللوعة: سأعانقك حتى تئِن عظامك بين ذراعي.
أشعلت كلماته بركانها الثائر بداخلها ولكنها حاولت تجاهل تأثيره عليها وهي تقول بغنج:
_مُفترس.

أجابها صوته الرجولي الخافت:
لا بل مُشتاق. تراقصت أضلُعها بداخلها من فرط السعادة فقد كانت تُشبه أرضًا قاحلة تتعطش لقطرات المطر حتى تلتئم صدوعها وشروخ قلبها؛ لذا حاولت أن تغترف من عشقه المزيد… فتظاهرت بأنها لم تسمع حين قالت: لم أسمع جيدًا ماذا قلت؟!

شعر بحاجتها إليه التي كنقطة في بحر احتياجه لها فقال بهمس محترق:
أقول اشتقت إليكِ للحد الذي سيجعلني أُعانقك حتى تئِن عظامك طالبة للرحمة. لمعت نجوم الحب في سماء عينيها وتأجج لهيب الشغف بداخلها فهمست بنبرة محرورة: ألم أقل أنك مفترس؟!

باغتها حين قال بلهجة خشنة مُستعِرة بلهيب الصبوة:
وذلك المفترس يريد رؤيتك الآن. لم تكد تجيبه حتى فوجئت بسيارته التي دخلت من بوابة القصر فقالت بلهفة: هل أتيتَ؟!
لا بل سيارتي هي من أتت لتجلبك إليّ، فاليوم سأتأخر وهناك بعض الأوراق الهامة التي أريدك أن تجلبيها إليّ. ما إن أنهى جملته الأخيرة حتى تولد شعورًا بالقلق داخلها أدى إلى ارتجاف صوتها حين قالت: أي أوراق؟!

“فراس” بعُجالة:
هل تذكرين الملف الذي أعطاني إياه “شاهين” ذلك اليوم الخاص بشحنة الأسلحة؟! هوى قلبها بين ضلوعها وتلاحقت الأنفاس بصدرها وهي تجيبه: نعم أذكره.
_أحتاج إلى هذا الملف الآن ولا أثق بشخص آخر غيرك حتى يجلبه لي، هل تستطيعين ذلك؟!

لم تعد أقدامها قادرة على حملها فهوت على الأريكة خلفها، فها هو القدر يضعها وجهًا لوجه أمام مطرقة الاختيار، بل ويُجبرها على المواجهة التي كانت تحاول بكل الطرق الهروب منها.
” نور” هل تسمعينني؟! هكذا صاح “فراس” بنبرة مرتفعة، فأجابته بارتباك: نعم أنا اسمعك، أجل أستطيع.

“فراس” بعجالة:
“حسنًا في غرفة الملابس تحديدًا في الرف الثالث ستجدين مِفتاح الخزانة اجلبيه وقومي بفتحها وجلب الملف ثم اغلقيها جيدًا وأعيدي المفتاح إلى مكانه وسيأتي بكِ السائق إلي.
اكتفت بقول كلمة واحدة:
_حسنا.

أغلقت الهاتف وهي تغمِض عينيها بألم شعرت به يغزو سائر جسدها… فقد وصلت إلى نقطة اللا رجوع وعليها الاختيار الآن على أي الجانبين عليها أن تقف.
تشعُر وكأنها مكبلة من عنقها بأصفاد قويه تجذبها تجاه حق والدها و الأخذ بثأره… علماً بأنه هُناك شيء داخلها يُخبرها بأن الأمر ليس كما تصفه والدتها… وأصفاد أخرى منبعها قلبها الذي يتعلق بعشقه ولا يريد التفريط به بل ويتمسك به بكل ما أوتي من قوة ولا ينفك أن يُردد على مسامعها بأن “فراس” ليس ذلك الشخص السيئ كما تحاول والدتها أن تصفه، وكلما أحكم أحد الطرفين على موقفه تشعر بأنها تختنق حتى كادت أن تصرخ بملء صوتها قائلة:
كفى فلم يعد بمقدورها التحمل أكثر.

توجهت إلى حيث أخبرها عن مكان المفتاح ووجدته في مكانه فأخذته والتقطت حقيبة يدها لتتوجه إلى الأسفل وهي تحاول أن تصُم أذنيها إلى الاستماع لأي من تلك الأصوات التي تزأر بداخلها ونفذت ما أمرها به وحين أمسكت بالملف توقفت للحظات تنظر إليه وإلى الهاتف في يدها الأخرى تُنازع رغبة تحثها على نسخه وأخرى تنهاها عن ذلك وتُذكرها بأنه يثق بها للحد الذي يجعله يضع ملفًا بهذه الخطورة بين يديها… بينما أخذت كلماته تنخر بقلبها وهو يقول:
_ لا أثق بشخص آخر غيرك حتى يجلبه لي.

حسمت أمرها وقامت بمسح عبراتها التي كانت تتدحرج على خديها حتى سقطت على الملف في يدها وتوجهت إلى حيث ينتظرها السائق واستقلت السيارة تحاول أن لا تفكر فيما فعلته وماهي عواقبه، بعد نصف ساعة كانت تترجل من السيارة أمام الشركة لتشق طريقها بين الموظفين قاصدة الطابق التاسع حيث مكتبه الذي ما إن وصلته حتى سحبت نفسًا قويًا بداخلها عله يهدئ من توترها قليلًا قبل أن تقوم بطرق الباب ليأتيها صوته يأمرها بالدخول وما إن أطلت برأسها من الباب حتى وجدته يترُك كل شيء ويتقدم منها ليسحبها إليه بغتة هاويًا على شفتيها بقبلة كاسحة قضت على حيرتها و تخبطها وأشعلت بجسدها نيران الشوق التي كان إضعافها بقلبه فصار يعمق اقترابه أكثر وهو يشدد من عناقها والتهامها بشغف كان أكبر بكثير من أن يُمكنها مجاراته فتركت له الأمر ليقودها عشقه كيفما يشاء حتى انتهى بها الحال مستندة على صدره الذي كان يعلو ويهبط من فرط الانفعال وكذلك جسدها الذي كان يرتجف بين ذراعيه من شدة المشاعر التي بثها إياها لتتفاجئ به يضع قبلة دافئة فوق جبهتها فرفعت رأسها تناظره فأسرتها عيناه اللتان أطلت منهما نبرة لمع بها شيء للحظة ربما كان امتنانًا لا تعرف فقد ضاعت في حلاوة كلماته حين همس بنبرة محترقة:
_ أي سحر تمتلكين بين شفاهك تلك؟!

أخفضت رأسها خجلًا فقام برفعها وهو يقول بصوتٍ أجش:
لا تخفضي عينيكِ عني فلو تعلمين إلى أي درجة أشتاقهم. همست بخفوت: أخبرني إذن.
_ألا تشعرين؟!

تحدث وهو يُناظرها بعينين تتوهجان بنيران العشق الذي لم يُفصِح اللسان عنه بل تشاركت القلوب به سرًا ولكنها ولأول مرة بحياتها كانت جشعة، نهمة لكل شيء منه؛ لذا قالت تحثه على الحديث أكثر:
_ لقد كّنا معًا في الصباح أي منذ خمس ساعات هل اشتقت إليهما بتلك السرعة؟!

يعلم إلى أين تريد الوصول ولكن كان هناك الكثير مما يعوقه إضافة إلى أنه كان حديثًا في صف العاشقين فلم يكُن يعلم كيف يُصيغ كلماته لذا قال بخشونة:
_ سأترك الأمر لإحساسك أن يخبرك.
اغتاظت من إجابته فقالت بنبرة يشوبها الحدة:
ولمَ  لا تُخبرني أنتَ؟! لست ممن يُجيدون صياغة الكلمات.

هكذا أجابها بسلاسة ليزداد إصرارها وهي تقول:
_لا يهم، فلا أريد كلمات مُنمقة أو عبارات مُزخرفة، أُريد معرفة كيف تراني عينيك، حتى أنني سأكتفي بتشبيه يُماثِل ما تشعُر به هنا.

قالت جملتها الأخيرة وهي تشير بيدها إلى قلبه الذي انتفض تحت لمستها وتأججت مشاعره التواقة إليها والتي انسابت من بين شفتيه حين همس بنبرة متقدة:
_تُشبهين الأمان لبلدة يُحيط بها القصف من جميع الاتجاهات.

لم يترك للخوف مكانًا بقلبها؛ فقد احتل عشقه كل شيء، حتى عقلها خلع عباءة الحذر معه وانصاع خلف وهج الحب الذي احتدم بقلبها ما أن سمعت كلماته التي كانت اعترافا رائعًا بالحب لم تتوقعه أبدًا؛ لذا اندفعت تعانقه بكل ما أوتيت من شغف… حاوطتها به ذراعيه في عناق اكتملت به أرواحهما وتوحدت نبضاتهما بعزف سيمفونية العشق الأبدي الذي لا يقدر عليه سلطان.

أخرجهما من لُجة مشاعرهما ذلك الرنين المُستمر للهاتف فأطلق “فراس” لعناته وهو يترُكها على مضض ليتوجه إلى مكتبه مُجيبًا بينما كانت هي ما زلت تعاني انخفاض في ضغط القلب… الذي لم يستطع تحمل كل تلك المشاعر التي يبثها إياها فبقيت بمكانها لدقائق ريثما ينهي مكالمته ثم توجهت بخطوات هُلامية تضع الملف المنشود أمامه فالتف يُناظرها بعينين أظلمتا لثوان قبل أن يُعيد انتباهه إلى مكالمته التي ما إن انتهت حتى باغتته كلماتها حين قالت بعتب:
_لمَ تفعل هذه الأشياء السيئة؟!

قابل استفهامها بآخر حذر:
أي الأشياء السيئة تقصدين؟! أجابته نظراتها حين تفرقت بينه وبين الملف المُلقي أمامه على المكتب… فأخذ الأمر منه ثوان قبل أن يُجيبها باقتضاب: ليست كل الأشياء كما تبدو في الظاهر.

لم تكن تنتظر منه إجابة قد تشفي ظمأ فضولها الذي قمعته بداخلها خوفًا من معرفة حقائق قد تُعيدها إلى غياهب الألم مرة أخرى؛ لذا قامت بفتح حقيبتها وإخراج تصميم الفندق الذي كلفها به ووضعت التصميم أمام عينيه اللتين كانتا تراقبان معالمها بترقب وسرعان ما تبدلت نظراته إلى الدهشة حين وقعت على تصميمها الرائع والذي كان عبارة عن فندق على شكل صدفة بها لؤلؤة كان بها بنيان الفندق فقد بدا التصميم رائع ولكنه اكتفى بأن يقول باختصار:
تصميم جيد ومختلف. انكمشت ملامحها بحنق من كلماته البسيطة والتي كانت لا تفي تصميمها حقه فهدرت حانقة: هل هذا كل ما استطعت قوله؟!

فطن إلى حنقها مما جعل بسمة هادئة تلون ثغره فقال باستمتاع:
_أرى أنكِ مؤخرًا تخليتي عن طبيعتك القنوعة.

عاندته ساخرة:
أنتَ الذي ما زلت تتمسك بطبيعتك البخيلة. تعجبه شخصيتها الجديدة التي تشاكسه ولا تنفك عن مواجهته ومبارزته فقد كان يريد إخراجها من ثوب الضعف الذي كان يتلبسها. توالت المكالمات حوله وانغمس في ممارسة أعماله وهي جالسه بصمت… ضاقت ذرعًا به فوثبت قائمة تلملم حاجياتها وهي تنتظر أن ينهي مكالمته حتى تخبره بعزمها على المغادرة ولكنها لم تحتج إلى ذلك؛ فقد كانت عينيه عليها لا تغفل حتى عن نفس ضاق بصدرها؛ لذا هم بإنهاء المكالمة وهو يتوجه تجاهها حيث تقف بجانب النافذة فيما امتدت يديه تعانق خصرها وهو يقول بخشونة: هل مللتِ؟!

تأثرت بقربه حتى خرجت لهجتها مبحوحة:
لا ولكنِ لا أريد التأخر على “إياد” أكثر من ذلك. نثر ورد عشقه على طول عنقها البض قبل أن يقول بنبرة خشنة: أنتِ وهو بمثابة مكافأة من القدر لي.
لم تستطع منع نفسها من الالتفات تناظره بتوسل يناقض حدة لهجتها حين قالت:
_إذن حافظ على نفسك لأجلنا.

غاص بعينيها اللتين دكن لونهما دلالة على الخوف، فامتدت يديه ترجع خصلة من شعرها خلف أذنها التي تلمسها برقة تتنافى مع نبرته الجامدة حين قال:
أخبريني ما الذي يؤرق تفكيرك هكذا؟! لم تعلم كيف تُصيغ كلماتها وتجلى تخبطها بوضوح في عينيها ولم تفلح في إيقاف الكلمات حين اندفعت من بين شفاهها: ألا تخاف من ممارسة تلك الأعمال؟! أنت تُخالف القوانين ودولتنا لا تتهاون في مثل تلك الأمور.

بعثرة كلماتها كانت مرآة لهلعها الذي تحول لدهشة حين قال بفظاظة:
قانون الدولة لا يشملني. لم تكد تجيبه حتى جاء الطرق على الباب وقد كانت مُديرة مكتبه تُخبره عن موعد الاجتماع بعد عشر دقائق مما جعلها تقول بجفاء: سأغادر الآن نلتقي مساءً في المنزل.

أومأ بصمت فغادرت تفر من أمامه ومن وطأة وجع قاتل لا ينفك أن يعود إليها مرة أخرى مهما حاولت لفظه بعيدًا عنها، استقلت السيارة تنوي الذهاب إلى أي مكان عدا القصر؛ فهي لا تُريد رؤيه أحد وهي في تلك الحالة، فأمرت السائق أن يتوجه إلى المقابر وها هي تجلس أمام قبر أبيها تذرف أطنان الوجع الكامن بصدرها على هيئة عبرات لا تنضب ولا تنقص من وجعها شيء.
_أعلم أنك لو كنت موجود لما كنت أجرؤ على التفوه بحرف مما يدور بداخلي، ولكن أنت غير موجود وأنا أكاد أموت ألمًا ولا أجد أحدًا بهذا العالم أستطيع إخباره بوجعي.

هكذا تحدثت بقهر موطنه قلبها الذي تآزر به الوجع واستبد به الذنب… فأخذت تنوح باكيه حتى اخترق صوت نحيبها هدوء وسكينة المكان من حولها:
_أرجوك أن تُسامحني يا أبي، لم أستطع فعلها، أنا لسه بخائنة، لا أُجيد الغدر ولم أستطع أن أضربه بظهره.

تعالت شهقاتها وهي تسترسل في ذرف وجعها:
كما أنني أشك كثيرًا بحديث والدتي والذي يتناقض أيضًا مع حديث عمي “زين” وشعوري بأن يديه ليست مُلطخة بدمائك. أخفضت رأسها بتعب قبل أن تُضيف بحرقة: لا دخل لعشقي له بما أُخبرك به أقسم.

أخيرًا اعترفت بمشاعرها نحوه وهي تُتابع نحيبها وتتعالى شهقاتها التي كانت تشق جوفها من فرط قسوتها وأردفت بصدق:
_ولكن أعدك إن كان لي ثأر معه فسآخذه عيانًا، سأنظر إلى داخل عينيه وأخبره بأنني سأقتص منه لأجلك، لن أتوارى خلف خدع واهية وحيل قذرة.

صمتت لثوان قبل أن تقول بخفوت:
_لا يليق بي هذا، هكذا فقط يُمكنني أن أرقد بسلام.


دلفت إلى القصر بعد يوم طويل من العمل الذي كان يخفف كثيرًا من وطأة ما تحمله من أثقال وأيضًا شعورها بأن لديها حياة خاصة خارج هذا السجن كان رائعًا.
_أخيرًا عادت السيدة ماري كوري من العمل.

هكذا استوقفتها كلمات “زينات” الساخرة وهي على وشك صعود الدرج… لتتوقف بمكانها تحاول قمع غضبها بشتى الطرق، لتحاول “زينات” استفزازها أكثر حين قالت بتهكم:
_هل أصبحنا أقل من مستواكِ فلا تنظري إلينا يا سيدة “هدى”؟!

التفتت “هدى” قائلة بجفاء:
ليس أنتِ بل حديثك الساخر الذي لا يليق بامرأة في عمرك. “زينات” بقسوة: لقد طال لسانك كثيرًا ولن أكون “زينات النعماني” إن لم أقصه،

العين بالعين والقسوة بالقسوة ولينال الظالم ما يستحقه.
وأنا “هدى الوالي” ولا يستطيع أحد المساس بي، فلتضعي هذا في عقلك. ناظرتها باحتقار شملها كليًا وتحدثت بنبرة ضمنتها أقصى درجة من التشفي والبغض: وهل لا أعلم، ولكن أود تذكيرك بأن والدك قد ألقى بكِ أمام عتبة بيتنا وكأنكِ عبأ أراد التخلص منه.

استقرت كلماتها كسهام مسمومة اخترقت جرحًا مُحتدم داخلها فجاءت كلماتها جريحة:
_ لأنه من سوء حظي أنه يشبهك.
صاحت “زينات” بغضب:
  _قليلة الأدب.

استمدت قوتها من عمق جراحها الغائرة فقد حان الأوان لرد الصاع صاعين فقالت بقسوة:
لا  لست كذلك،  بل أنا امرأة صريحه ليس إلا، ولتضعي في عقلك بأنه لا يستطيع أي شيء في هذا العالم كسري أو إزلالي. جاءت ضحكة “زينات” الساخرة كوقود يُعزز رغبتها في الانتقام حين قالت بجفاء: أنا امرأة احتملت أن يتزوج عليها زوجها، أن يُلقي بها والدها على عتبة بابه، وأن يُناظرها الناس بشفقة، ولكن أتعلمين هناك سبب قوي لذلك.
تنبهت “زينات” لحديثها فتابعت “هدى” بقسوة:
_وهو أبنائي  تحملت كل شيء لأجلهم… فقط لأجلهم، حتى لا يصبحوا مرضى نفسيين كأبنائك.

لم تحتمل “زينات” تلك الإهانة ورفعت يدها لتصفع “هدى” فأوقفتها يد “شاهين” الذي قبض على معصمها بعُنف تجلى في نبرته حين قال ينهرها:
توقفي يا أمي. مجيء “شاهين” في ذلك الوقت كان أمرًا غير متوقع ولكنها ستُحسن استخدامه في مصلحتها؛ لذا قالت بتخابث: زوجتك المصون ترى أننا مرضى نفسيين.

أكدت “هدى” على حديثها بنبرة قوية:
نعم أرى ذلك. نشب الغضب حوافره بقلبه فالتفت قائلًا بقسوة: إذن أمي محقة حين قالت أنكِ عديمة الاحترام.

لا تقل هذا عن أمي. أنهى “ليث” كلماته وتوجه إلى “هدى” يحتضنها وكأنه أرد أن يحميها من بطشهما فصاحت به “زينات” مغلولة: اذهب إلى غرفتك.
عاندها الصغير بجسارة:
_لا لن أتركك تؤذين أمي، لطالما كنت تصرخين عليها وترهقيها بالعمل الشاق.

شعرت بتبدل نظرات “شاهين” فارتبكت لثوان وهي تصرخ على الصغير:
اخرس أيها الولد، قليل الاحترام مثل والدتك. لم يتحمل الطفل قسوتها فصاح بانفعال: وأنتِ متوحشة وأنا أكرهك.
لم يتحمل شاهين فظاظة الطفل وتطاوله على والدته فقام برفع يده وصفعه بقوة وهو يزمجر بقسوة:
اخرس يا ولد.

وكأن صفعته سقطت فوق قلبها، فقامت باحتضان طفلها بينما جاءهم صوت “زين” الغاضب من الأعلى:
_ما الذي يحدث هُنا؟! هل مات صاحب هذا البيت لتتبادلوا الصراخ والصفعات بتلك الطريقة؟!

التمعت عبرات الألم في عين الصغير الذي أبى كبرياءه ذرفها على الرغم من قساوة الصفعة التي تركت بصماتها على خده الصغير للحد الذي آلم قلب “شاهين” كثيرًا فلم يحتمل التواجد بينهم وغادرهم قاصدًا غرفة المكتب لتترك “هدى” صغيرها مع “زين” وهي تلحقه بخطواتٍ مُشتعِلة بجحيم الغضب الذي تجلى في نبرتها وهي تقول:
_استمع إلي لن أسمح لك بالتعرض لابني مرة أخرى.

ارتفعت زاوية فمه بسخرية تجلت في نبرته حين قال:
ابنك! ألا تُلاحظين أنني أكون والده؟! “هدى” بسخرية متعمدة: والده! عذرًا كدت أنسى ذلك.
لم تمهله الوقت للحديث حين انفعلت نبرتها وهي تعيد تحذيرها له:
_أحذرك لا تقترب منه أبدًا.

صاح “شاهين” بغضب:
بل أنا من يُحذرك من التدخل في تربيتي لابني. تشدقت ساخرة: تربيته! وأين كنت أنتَ حين كنت أواصل الليل بالنهار أعتني به وهو محموم؟! أين كنت أنتَ حين كنت أسهر معه بالساعات للدراسة؟ وأين كنت أنتَ حين ضربه معلمه وجاء يبكي يبحث عنك حتى يحتمي بك ولم يجدك؟!

عددت خطاياه لتجعلها نُصب عينيه فلا يجرؤ على الهرب منها أو تجاوزها كي تُحجِم من أحقيته بهم وهي تقول بجفاء:
استمع إليّ جيدًا، سأعيد عليك ما قلته لوالدتك، ما جعلني أحتمل وجودي في هذا المنزل اللعين هو أطفالي؛ لذا أمنعك من الاقتراب منهم أو أذيتهم فحينها لن أكتفي بموتك. أيقظت كلماتها وحوشه الضاربة فزمجر غاضبًا: وتُهدديني أيضًا؟!

“هدى” بقوة:
نعم أُهددك بألا تقترب منهم. اقترب منها قاطعًا الخطوات التي تفصلهما وهو يقول بهسيس مرعب: باستطاعتي أن أقتلع لسانك الآن ولكن أعلم أن ما تمُرين به ليس سهلًا؛ لذا سأتغاضى عن تلك التُرهات.

شعرت وكأن مطرقة قوية هوت على قلبها… فقد كانت تظنه يقصد حادثة زواجه… فامتقع وجهها من فرط الألم الذي غيب عقلها أيضًا… فتولى الحقد زمام الأمور يُغذي انتقام أهوج جعلها تبرع في تسديد سهمها لينفذ إلى أعماق جراحه الغائرة:
_أنا أيضًا أعذرك لقسوتك مع “ليث” فعلاقتي به تؤلمك وتبرز ذلك النقص في داخلك، فليث والدته تحبه وتهتم به أما أنتَ والدتك لطالما نبذتك ولم تحبك يومًا.

لم يتخيل يومًا أن تكن نهايته على يديها، قتلته كلماتها التي رواها ذات يوم إلى قلبها وهو بين أحضانها يتوسل ألا تُذيقه مرارتها يومًا وها هي الآن تذبحه بسكين اعترافاته السابقة لها مما حول الألم الهائل بداخله إلى ألم مروع جعل يده تمتد إلى عنقها تخنقها بعنف وهو يصيح كأسد جريح:
اخرسي . أخذت عيناه تعاتب عينيها بعتاب مرير كيف تفعل به ذلك؟! ألم يكفيها تخليها عنه سابقاً والآن جاءت كلماتها لتنحر كبرياءه وتفتت قلبه وتقطع آخر خيوط اجتماعهما فقام بدفعها بكل قوته لتسقط أرضًا بينما صاح بقسوة: أنتِ طالق يا “هدى”.

يتبع …

👇

الفصل الحادي عشر والثاني عشر والأخير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top