رواية واحتسب عناق بقلم #الأسطورة_أسماء_حميدة الفصل الرابع

أول شخص أتى بمخيلة “نوران” كان “عمران”، ولا تعلم لم؟! ولكنها تعمدت أن تغض الطرف عن فكرة اللجوء إليه.

عندها فقط أخذها العناد لتبدأ في إعمال العقل، ومن ثم اتصلت بسيارة إسعاف مجهزة وللحقيقة هذا المشفى الخاص الذي تواصلت معه لم يتوان وإنما أرسل إليها ما طلبت في غضون دقائق معدودة.

” نوران” بنبرة يتخللها بعض الشدة:

-“ناندو” الطبيب أكد على أنكِ بحاجة إلى عناية وأمرنا بالالتزام بالدواء، أم أنكِ تريدين أن تنحفي، وما تقولين عنه إصابة طارئة يصبح مرض يلازمكِ حتى يشحب وجهكِ وتفقدين نضارتكِ وحيويتكِ.

“نادين” بارتياع:

-لا “نوران” لا تخيفيني، لن يحدث هذا وأنت تعتنين بي وكأنني جوهرتكِ النفيثة.

-أنتِ هبة من الله لي، لِم أنتِ طيبة القلب كل هذا القدر؟! أحياناً أشعر وكأنكِ أمي وليس العكس!

“نوران” ببشاشة:

-لأنني أحبكِ أمي، أدام الله عليكِ نعمة الصحة وأطال لي في عمركِ.

داعبت “نادين” وجنة نوران بحنان، تقول باستمالة:

-هل لي بكوب عصير إضافي؟

استعرت أعين “نوران” بالحنق الشديد، وهي تهز رأسها برفضٍ، تقول:

-لا أمي هذا آخر كوب ستتناوليه اليوم، وكُفي عن الإفراط في السكريات.

“نادين” بغضبٍ طفولي:

-لم أحظى بغير كوبٍ واحد فقط.

“نوران” بصرامة:

-وهذا ما ستلتزمي به بعد ذلك، فقط كوب واحد.

أطرقت “نادين” رأسها بخيبة، وهي تقول برجاء:

-حسناً، ولكن عيديني بأنكِ ستحسنين معاملتكِ مع “عمران”.

أومأت “نوران” بالإيجاب تخفي حركة شفاهها التي تنم عن امتعاضها لما طلبته منها والدتها، ولم تكشف “نادين” ل” نوران” عن أسبابها وراء إلحاحها المستميت على ابنتها بضرورة توطيد العلاقات مع “عمران”، وكيف لها أن تفعل؟!

كيف ستخبرها عن السبب الذي جعل معدل السكر يرتفع لديها مع انخفاض ضغط دمها المفاجئ؟!

كيف لها أن تُعلمها أنهما الآن صارا على فيض الكريم بعد وفاة” عماد” زوجها الأخير؟!

وهل ستصدق “نوران” بأن هذا الحقير فعلها؟!
نعم لقد حذرتها ابنتها منه في السابق ولكن “نادين” لم تصغَ إليها.

وللأسف كانت “نوران” محقة؛ ف “عماد” الذي يصغر “نادين” بخمسة أعوام وهذا هو سبب رفض ابنتها لتلك الزيجة على وجه الخصوص إذ أنه في المرات السابقة كان الارتباط بين والدتها وأزواجها الأخرين متكافئاً ولكنها جلَّت في المرة الأخيرة.

ظل هذا الوغد يتودد ويُظهر عكس ما يبطن، حتى أقنع “نوران”بكل خسة ومكر أن تقم بمنحه توكيلاً رسمياً عاماً يُمكِّنه من إدارة كل شئونها وتعاملاتها المادية مدعياً البراءة والرغبة في حماية مصالحهما المالية.

واضعةً بين يديه وبكل سذاجة سلاحاً باتراً يستخدمه ضدها هي وابنتها، ولكونها الوصية على “نوران” التي لم تبلغ سن الرشد بعد فصار كل ما تملكاه تحت تصرفه الكامل والغير مشروط ليُبِح لنفسه الاستيلاء على كل ما لديهما دون أدنى تأنيب للضمير، ولكن الله يمهل ولا يهمل فها قد مات مَن لا تجوز عليه الرحمة دون التمتع بما سلب.

وبالرغم الحزن الشديد الذي حزنته “نادين” عليه، وذلك قبل هذا اليوم المشئوم الذي اتصلت فيه إدارة البنك لتُعلِمها بأن السند البنكي الذي حررته لصاحب معرض السيارات لن يُغطه ما تبقى لديها من رصيد إذ أن هذا الوغد قد قام بسحب مبلغاً كبيراً من السيولة النقدية بحسابها المالي.

وليس هذا وحسب بل قام بكسر كلا من الوديعتين اللتين قد حررتهما باسمها وباسم ابنتها “نوران” بالمال الذي حصلت عليه جراء بيع كل ممتلكاتها فهي لم تُبْقي على شيء سوى هذه الشقة والسيارة ولو لم تقم بالتنازل عنهما بموجب عقد بيع وشراء لابنتها “نوران” لكان هذا الحقير قد استولى عليهما أيضاً.

وليتها فعلت المثل بالمزرعة ولكن الوغد كان قد حرر ورقة لأحد أقرانه ليضمن الثاني سداده لدين قمار بضمان المزرعة التي نقل ملكيتها إليه، ورواية سفرهما إلى هناك للاتفاق مع المشتري لم تكن سوى قصة ملفقة.

إذ تحدثت “نادين” هاتفياً إلى “عمران” أشركته معها بمصيبتها، طالبة منه أن يعاونها في إيجاد حل خاصة وأن المبلغ الذي كانت تعتمد عليه في حسابها أصبح على مشارف النفاذ، وبالطبع لم يفكر هذا الرجل الشهم لثانية بل أعطاها أملاً بل وعداً قاطعاً بأنه سيساندها في هذا.

وحثها على عقد جلسة اتفاق لديه هي وصاحب الدين لإيجاد حل وسط يرضي جميع الأطراف، خاصة وأن “عمران” كبير قريتهم و السائد هناك أنه لا كلمة تعلو على حكم القاضي العرفي لمجلس الرجال.

جذبتها “نوران” من دوامة بؤسها، وهي تقول بنزقٍ:

-أرجو أن أتمكن من السيطرة على أفعالي في هذه الرحلة، فرؤيتي له تقودوني إلى حافة الجنون.

-اللعنة على بذائة لسانه!

-ولكن الجيد في الأمر هو أنني سأتمكن من رؤية “سالي”، ويمكننا تمضية الوقت معاً، فأنا استصيغ صحبتها كثيراً.

“نادين” بإثناء:

-معكِ حق يمكنكِ استغلال هذه النقطة، قللي في التعامل معه قدر المستطاع، فالمشكلة أن تواجدكِ معه بمكانٍ واحد يبرز أسوأ طباعك.

-عندها فقط أشعر وكأنكِ شخص آخر، تتصرفين بطفولية مزعجة ويظهر العرق الصعيدي المتعصب الذي توارثته عن والدكِ.

-في حضرته ينتابكِ الغضب ولا أعرف لم؟!

-حتى أن وجهكِ بالكامل يتخضب بالحمرة القانية، وكأن ضباب دخان استشاطتكِ سيخرج من فتحتي أذنيكِ وأنفكِ.

نوران باعتراض:

-أمي!!

“نوران” بمهادنة:

-ما أريد قوله أن “عمران” لا يستحق منكِ كل هذا الازدراء، إنه ليس سيئا إلى هذا الحد، وعليكِ أن تقري بأنه وسيم وجذاب للغاية، حتى ولو كنتِ صغيرة وينقصكِ الخبرة فلا يمكنكِ تجاهل هذه الحقيقة.

التوى ثغر “نوران” بابتسامة ساخرة، معقبة بتهكمٍ:

-أجل بالطبع، إنه توم كروز الشرق!!

تمهلت ومن ثم أضافت تقول:

-يالله أمي، إنه ليس سوى ريفي أحمق، لا يمكنه الانسجام سوى مع الماشية لا أكثر، وكل حياته تدور حول الزراعة والبهائم.

“نادين” بإصرار:

-إنه نمطي ومتصلب بعض الشيء ولكن إذا أراد أن يظهر جاذبيته يمكنه الإيقاع بأي أنثى حتى لو كانت محنكة مثلي.

“نوران” بهزئ:

-لهذا السبب تحديداً علينا أن نتضرع إلى الله شاكرين كونه لا يراكِ سوى فرد من عائلته بحاجة إلى الرعاية ليس إلا.

“نادين” بامتعاض:

-تباً لحسكِ الفكاهي!

“نوران” بإحقاقٍ:

-أنا لا أراه عقلانياً كونه يتجاهلكِ ففي هذا أنا لا أتفق معه إطلاقاً، عليَّ القول بأنه ليس يسيراً العيش مع أم جذابة گال”ناندو” خاصتي .

“نادين” بزهوٍ:

-إنه ليس تجاهلاً بالمعنى الحرفي ولكنني لست ممن تطفلن على الرجال، هم مَن يجب عليهم السعي خلفنا لا نحن.

قهقهت “نوران” بعذوبةٍ تقول باستحسان:

-هذه هي طفلتي المتعقلة، استمري على وضعكِ ودعي هذه الحماقات للأخريات، عليكِ أن تترفعي وأن تغتري بجمالكِ حسنائي.

“نادين” بإيضاحٍ:

-الجمال إذا اقترن بالغرور ضاع بهاءه، أنا لا أحب المغرورين، ولا أشعر بالخيلاء وكذلك أنتِ؛ فإلى جانب أنكِ حقاً فاتنة إلا أنكِ تتجاهلين هذا والأغرب أنكِ لا تشعرين بذلك من الأساس.

-ولا أعلم ما إذا كان هذا تواضع أم تفتقرين إلى الثقة بالنفس عزيزتي!

” نوران” بحكمة:

-ولم أشعر بالتباهي تجاه عطايا الله؟!

-فهو مَن منح وهو وحده مَن يقدر على المنع والزوال، كما أن الجمال قد يضر صاحبه.

“نادين” معقبة:

-إنه لا يضرني، ولكنكِ بتواضعكِ وإنكاركِ للذات تضفي على حالكِ هالة من الجاذبية.

“نوران” بخيبة:

-أعتقد أن ما تقولينه غير حقيقي، على الأقل بالنسبة لقريبكِ هذا، فأنا أجزم بأنه لا يرغب بوجودي هناك.

“نادين” وهي تهز رأسه باستنكار:

-هذا غير صحيح على الإطلاق، بدليل أنه لا مرة يراسلني بها عبر الإنترنت أو يهاتفني فيها، لا يكف عن السؤال عنكِ.

“نوران” بدهشة:

-عن أي رسائل تتحدثين؟! وهل يراسلكِ من الأساس؟!

“نادين” بتأكيد:

-أجل أقربها بالأمس وكان يسأل عنكِ وعن استعدادتكِ للعام الدراسي الجديد بالجامعة.

“نوران” بعدم تصديق:

-هراء!! اريني ما كتبه عني.

تلبكت “نادين”، ومن ثم التقطت عذراً تتحجج به:

-لقد أرسل إلي أحدهم رابط ما بالأمس على الخاص وما إن قمت بفتحه تعطل الهاتف فجأة، يبدو أنه فيروس.

-فاضطررت إلى إعادة ضبط المصنع للهاتف، وبذلك تم حذف جميع التطبيقات الحديثة وقمت بتنزيلها من جديد ولم أكن محتفظة بأية نسخ احتياطية.

ناظرتها “نوران” بشك ولم تجيب فهي موقنة أنه لم يأتِ على ذكرها، لم ولن يفعل، بينما شردت “نادين” بآخر حديث لها مع “عمران” وهي تقول بداخلها:

-يا الله، لو علمت “نوران” أن “عمران” قد قام بتسديد مصروفات الجامعة الخاصة بها لهذا العام وذلك بعدما بات على علم بوضعهما المالي المخزي، ستنقطع عن الدراسة وتبحث عن عمل.

لذا أخفت “نوران” الرسائل عنها كما طلب منها “عمران” بأن يظل هذا سرًا بينهما، بالطبع هو محق ولا ينبغي أن تعرف” نوران” عن الأمر شيئًاً.

فطلب “عمران” بالرغم من منطقيته ولكنه أثار دهشة “نادين” وتشعر أن “عمران” يكن شيئاً ما لابنتها لكنها لا تعرف ماهية شعوره هذا ولا تستطيع إدراجه تحت أية مسميات.

ربما “عمران” يشعر بالفخر كونها قريبته أو بالحاجة كونه يفتقد إلى إحساس الأبوة فهو بالرغم من أنه شارف على منتصف عقده الثالث ولكنه لم يتزوج للآن وليس لديه عائلة.

ومن الممكن ألا يكون هذا ولا ذاك، ربما يكون إحساس بالمسئولية تجاه كليهما، خاصة وهو يعرف القصة القديمة التي أخفتها “نادين” عن ابنتها كي لا تشوه صورة أب أمام ابنته.

نعم ف”عمران” هو الوحيد الذي يعرف سبب انفصالها الحقيقي عن “مجدي”، إذ قد ضبطته “نادين” مع إحداهن وللأسف كانت آخر واحدة يمكنها أن تشك بها، كيف؟!
وهي صديقتها ومخزن أسرارها “كارما” التي دوماً ما كانت تتقمص دور حمامة السلام لتفض أي خلاف بينهما.

ولكن حينها لم تعبئ “نادين” ولم تعطي لهما حجماً أكبر من حجمهما فهما ليسا سوى ندل وخائنة، حتى عندما مارس “مجدي” ساديته عليها ذلك اليوم وأهانها لسبب تافه وتطاول عليها باليد وغادر المنزل.

وجراء عنفه معها هذا اليوم عزمت على أنها لن تقبل بهذا بعد الآن، فحملت صغيرتها التي لم تتجاوز الثلاثة أعوام على كتفها ولم تشأ أن تذهب إلى منزل أبيها وهي على هذه الحالة فقررت اللجوء إلى “كارما”.

وكانت الفاجعة عندما دقت “نادين” باب صديقتها وكان الملبي زوجها العزيز وهو يرتدي بيچامة بيتية مريحة مفتوحة أزرارها، فدفعته إلى الداخل لتتبين ما في الأمر.

لم يؤلمها خيانته قدر ما دهس قلبها دنائة صديقتها المقربة وكأن الكون قد خلى من جنس ابن آدم، ولم يتبقى سوى زوج رفيقتها.

لم تصدق “نادين” عينيها عندما اقتحمت غرفة نوم صديقتها ووجدتها تجلس بالتخت نفسه اللتان كانتا تجلسان عليه عندما تأتي لزيارتها كي تفضي لها بما يجيش في صدرها من سوء معاملة زوجها، وللعجب كانت تقوم “كارما” بدور المصلح الاجتماعي على أكمل وجه.

أخذت “كارما” تلملم عليها أطراف مأزرها لتواري به هذه الثياب الفادحة التي ترتديها لتغوي سَبْع الرجال، فهي قطعًا لم تكن تتوقع أن “نادين” ستراها معه بهذه الهيئة المخزية، ولكن هذا المتبجح لم يشعر بأي خزي إذ هدر فيمن لا ذنب لها، يقول بحدة:

-ماذا أتى بكِ إلى هنا؟ بل مَن سمح لك بالخروج في وقتٍ متأخرٍ كهذا؟ مع مَن أتحدث، بالطبع لا يهمكِ إذن ولا غيره!

-فعلتِ ما جاء بخاطركِ دون الرجوع لي.

ناظرته “نادين” بأعين جاحظة؛ فالظالم نصَّب نفسه قاضٍ وجلاد، وبدلًا من أن يستحِ على ما فعله يلومها على عدم طلب الإذن منه، المجرم يلوم الضحية!
هذه إحدى عجائب الزمن!!

لم ترد، ولم تسعفها الكلمات، ولم تلبي المدامع، وعلام ستبكي وهل سيفيد؟!
أتبكي رثاءً لكرامتها التي أُهينت بالقدر الذي لا ينفع بعده جبر، أم تنعي سنين عمرها التي ضاعت برفقة وضيعة گ”كارما”، أم تحزن على ابنتها التي ولدت لأبٍ بلا شفقة أو ضمير؟!

ومثلما حضرت إلى هنا مكسورة خرجت ولكن مدمرة نفسياً، لو كان هناك سبباً لخيانته لها لعذرته، لم تقصر قط في حقه ولم ينقصها شيئاً ليبحث عنه لدى أخرى وحتى لو!! أي صديقة تلك وكيف كانت تعاملها بكل هذه الأريحية ولم يظهر هذا الوجه الآخر.

وكما عزمت بالأول شرعت في التنفيذ، فلم تعود إلى بيتها ولا إلى منزل والدها فقد توفى سندها بعد زواجها المشئوم بعام واحد وربما إذا ذهبت إلى هناك كان سيلحق بها.

وإنما استقلت أول سيارة أجرة قاصدة محطة القطار ومنها إلى مزرعة والدها رحمه الله بالمنصورة، حيث ابن عم أبيها الحج “عتمان” وولده “عمران” فهما آخر ملجأ لها في الحياة بعد الله.

ورجائها لم يخيب إذ أن قريبها الحج “عتمان” أرسل في طلبه، وذاك الصبي حينها والمقصود “عمران” الذي لم يتخطى العشرين من عمره فقد كان بالكاد في الثامنة عشر. وقفا كليهما بوجه ذلك الخنزير “مجدي” وأجبراه على تطليقها وألزماه بإعطائها كافة حقوقها كاملة.

اجتذبها صوت “نوران” من بين طيات الماضي الأليم، وهي تقول ما دعى الأخرى إلى الارتباك…..

ترى ماذا قالت؟! وما طبيعة العلاقة بين “نادين” و”عمران”؟

👇

الفصل الخامس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top