في مزرعة الحج “حسين” بقرية “السوالمي”.
كان رد “سالي” الصفيق هذا ضربةٌ في مقتلٍ كما ظنت، ولكن سرعان ما أجابها “عبيدة” بصاروخ أرض جو بعيد المدى عابراً للقارات يقصف به جبهتها كلياً:
-أجل أرغب في اسطبل خاص لحصاني منفصلًا عن غيره، فهو نادر الوجود، لا مثيل له، ولا أريده أن يُخالط العدائيين عديمي الذوق والتربية.
-أما عن الكد، فهو فرسٌ قوي بالرغم من إدعاءات بعض الحاقدين محدودي النظر، ضيقي الأفق.
وتمادياً في العناد لم يكن من “سالي” إلا أنها أشارت إليه في اتجاه الاسطبل، تقول بزمجرةٍ:
-يستطيع “غانم” الذي نستأجره، أن يوفر لك مكانا ملائمًا لمهرتك.
حينها فكرت “سالي” أن تتركه وتعاود أدراجها، ولكنها تذكرت نظرات أمها المُنذِرة، فعدلَت عن هذه الفكرة ومشت معه إلى حيث مكان تواجد الاسطبل، يسير خلفهما بشموخٍ كصاحبه هذا الجواد الرائع ويد “عبيدة” قابضةً على لجامه.
وعندما وصلوا إلى هناك كان “غانم” يستند إلى أحد الأعمدة الوتدية، يضع بفمه إحدى لفائف التبغ المشتعلة التي تدلَّت من فاهه.
كان لدى “غانم” عادة غريبة فمن شدة حبه للحيوانات عموماً، وللخيل بصفةٍ خاصة يحب الانفراد معها في جلساتٍ تدريبية، إذ وجداه يتمتم بهمسٍ إلى الفرس الصغير الذي يقف إلى جواره.
لم ترغب “سالي” في تبديد صفو انسجام تلك الجلسة التي كان “غانم” يمرن فيها مسامع الفرس على بعض التعبيرات الصوتية ليُعلم الخيل المغزى من هذه التعبيرات كي تمتثل إلى أوامره فور استماعها إليها، فكل دواب المزرعة تنصت إلى كل إيحاءٍ يَصْدُر عن “غانم”.
لم يكن هناك داعٍ للفت نظر “غانم” إليهما؛ ليُعلِموه بوقوفهما إلى جواره يراقبان ما يدور بتأملٍ وإمعان، إذ أن “غانم” يشعر فعلاً بوجودهما.
رمقت “سالي” “عبيدة” بنظرةٍ جانبية مستكشفة تتوقع أن يُبدي تذمره وتململه، ولكن على العكس تماماً، إذ بدا مسترخيًا وهيئته أبعد ما يكون عن الاستياء، بل كان يتابع المشهد باهتمامٍ بالغ كما كانت “سالي” وتلك هي عادتها ريثما تجد “غانم” يقوم بعمله العجيب والسحري هذا في تمرين الجياد الصغيرة.
مر وقت ليس بقصير، و”غانم” منشغلٌ بما يفعل، وها قد انتهى أخيراً، ومن ثم توجَّه إلى الفرس خاصة “عبيدة” وذلك بعد تبادل حديثٍ مختصر، يقود المهرة إلى بوابة الاسطبل، نازعاً عنها لجامها، مربتاً على صهوتها برفقٍ، وهو يُطلق صراحها إلى الداخل.
وبعدها عاد “غانم” إلى حيث يقفان، فأخذت “سالي” تتفرس بمعالم وجه “غانم” جيداً في محاولة منها كي تستشف رد فعله حيال المدير الجديد للمزرعة، إذ برع “غانم” في إخفاء ما لاح بعينيه عندما قدمت إليه “عبيدة” الذي صافحه دون تعقيبٍ يُذكر.
وهذا ليس بغريبٍ على “غانم”، فالمتعارف عليه أنه شخصٌ غامض غريب الأطوار.
كانت “سالي” تأمل في الفكاك من رفقة “عبيدة” بتركه مع “غانم” في اعتقادٍ منها أنه لن يبرح مكانه دون أن يُملي عليه عريضة من التعليمات للعناية بمهرته المدللة الثمينة، إلا أنه خيَّب آمالها في الخلاص وعاد معها إلى المنزل.
كان يسير إلى جانبها بتثاقلٍ، مما أجبرها على التمهل في مشيتها، وبعد لحظات بدد الصمت الرهيب الذي ساد بينهما فلم يكن هناك أي مبادرةٍ من قِبَلها لفتح مجالٍ للحوار، إذ قال “عبيدة” :
-لقد مررت اليوم على والدك بالمشفى وتجاذبنا معاً أطراف الحديث حول خطوط سير العمل بالمزرعة، ولكنني بحاجة إلى معاونتكِ لي في الفترة القليلة القادمة آنسة “سالي”.
بالرغم من أن حديثه كان عملياً منمقاً إلا أنها استقبلته بمنظورٍ آخر، لذا حدجته بنظرة امتعاضٍ حانقة، وعلى لسان حالها سؤالٍ كان على وشك الخروج للعلن وبطريقة عدائية ألا وهو:
-ماذا يريدها أن تفعل؟! هل تركع أمامه امتناناً لما يلقيه إليها من صدقةٍ في حين أن المال مالها ومال عائلتها؟!
ولكنها ابتلغت ما بجوفها، وعقبت تقول بلهجة ساخرة:
-يا لا فيض كرمك!!
-أتطلب مساعدة إحداهن؟! هؤلاء اللاتي كان رأيك بهن أننا كنساء لا نصلح لفعل شيء!!
تمهلت لثانية تحك ذقنها، تتصنع التفكير ومن ثم أضافت:
-تُرى أهذا يعد ازدواجية أم الأمر أبعد من ذلك؟!
-لربما تعاني انفصامًا في الشخصية أو ما شابه؟!
همَّ “عبيدة” ليرمها بردٍ لاذع، ولكنها اختبرت دماسته، وتعلم مدى بلاغته في استحضار الردود، لذا بادرته تقول بنبرة صوتٍ قاطعة:
-أتعلم؟! لستَ بحاجةٍ للإيضاح.
ومن ثم أضافت رداً سابقاً له:
-فالأمر برمته لا يشغلني.
رفع “عبيدة” أحد حاجبيه في استغرابٍ، ولكنه ابتسم هازئاً:
-لم أرغب في تقديم أية إيضاحات، فأنا لستُ مجبراً على هذا.
-ولكنكِ أثبتِ صحة وجهة نظري، إنهن يخلطن بين الجد والعبث، ويضيِّعن الوقت في الثرثرة الغير مجدية كالآن، كما أنه من السهل تشكيلهن والتأثير بهن، كأنهن يرددن ما يسمعن فعلى ما يبدو أنهن يُجِدْن فن الإذاعة.
-ومن الواضح أنكِ تحفظين كل كلمة أقولها وعن ظهر قلب، شابوه!!
-اللعنة!! لا تفوتك فائتة يا ابن… “السوالمي”، هذا ما تردد بذهن “سالي” قبل أن تتجاهل ما قال؛ إذ أنها الخاسرة الوحيدة في معركة التلاعب بالكلمات هذه.
فلا طاقة لها بحل الأحجيات.
“سالي” بعد أن تجاوزته ببضعة خطوات، تقول بفتورٍ:
-أرجو أن تخبر والدتي بأنني ذاهبة إلى المركز لإصلاح آلة الري، وسأتناول غدائي هناك، فلا تنتظروني.
ومن ثم استدارت تواليه ظهرها دون انتظار الرد، وغادرت على الفور؛ فهي ليست مهتمة بحضور الغداء الترحيبي بضيفهم الثقيل، وستترك تلك المهمة إلى غيرها، مقررةً أنها لن تتملق إليه كما سيفعل البقية ولن تتفوه بكلمة ترحيبٍ زائفة في حضرته، فبالأخير هو بالنسبة إليها ضيف غير مرغوب به ورجل دخيل.
استقلت السيارة خاصة أبيها تلك التي صفتها بجوار الشرفة، وعندما أدارت محركها استعداداً للرحيل تطلعت إليه عبر المرآة، فرأت ألسنة من اللهب تطل من مقلتيه الزيتونيتين في هيئة توحي بالغضب الشديد جراء تطاولها في الحديث وقلة ذوقها معه.
ولكن مع هذا كان يميل رأسه إلى اليمين بحاجبٍ مرفوع في حركةٍ تنم عن الدهشة والاستغراب كمَن يتابع أكثر العروض تسلية وطرافة.
بعد أن خرجت بسيارتها من البوابة وأصبحت على مسافة بعيدة عن أنظار هذا المقيت، هدَّأت من سرعة السيارة، تُخرج هاتفها، وإبهامها يعبث بقفل شاشته، ضاغطةً على رقم “غالب”، وما إن أغلق وعاود الاتصال عليها، أجابته على الفور تسأله بإيجازٍ : – “غالب”!! أين أنت؟
“غالب” بمداعبة يعنيها : – أتمنى أن أكون في قلبك.
تأففت “سالي” تقول بنزقٍ : – سأغلق؟!
“غالب” باستسلام : – في المركز بورشة الحج “علَّام”؛ فقد نقلت المضخة إلى محله.
“سالي” معقبةً : – نصف ساعة وسأكون قد وصلت إلى هناك، انتظرني.
“غالب” بفرحة : – بالطبع سأفعل.
بعد نصف ساعة وصلت “سالي” إلى ورشة التصليح، وجدته ينتظرها في سيارته وعلى ما يبدو أن الحج “علَّام” قد أنهى عمله.
صفت “سالي” سيارتها بمحاذاة الرصيف المجاور للورشة، تترجل من السيارة وكذلك فعل “غالب”، ومن ثم توجه ناحيتها يمد يده بالمصافحة وهو يتمهل ككل مرة في إفلات خاصتها.
وكأنما يرغب في وقتٍ إضافي ينعم فيه باحتضان يدها الناعمة بكفه الغليظ في تواصل جسدي بسيط، ولكن لذَّته لا يعدلها شيء بالنسبة لهذا العاشق الذي يحترق شوقاً لاستجابة حسية ولو طفيفة، فقط أمل وسيعيش عليه مهما طال الانتظار ولكنها جاحدة لا ترحم.
سحبت “سالي” يدها ولم يُمانع، فأردفت تقول باستحياءٍ : – إني جائعة.
لا مانع لديه في أن يجلب لها قطعة من السماء ولكنه يحفظها جيداً وعن ظهر قلب فهي لا تطلب منه أن يدعوها، إلا إذا كانت تود استشارته في أمرٍ مصيري أو هناك ما يقض مضجعها أو قامت بفعلٍ أخرق يتوجب عليه إيجاد حل لما ورطت به حالها.
أشار إليها “غالب” بالتقدم، يقول باهتمام:
-هيئتكِ توحي بأن جميع سُفنكِ قد غرقت.
-هيا بنا لتطلعني على ما فعلتِ يا مصيبة أنتِ؟!
أطرقت “سالي” رأسها، تهزه بنفي قائلةً بضيقٍ:
-لم أفعل شيئاً.
“غالب” بسخرية وعدم تصديق : – أصدقكِ طبعاً!!
سار معًا، يقودها إلى المطعم القريب إلى الورشة، فأردفت : – أني أُصْدِقك القول.
“غالب” بإيجاز : – الآن سنرى.
دخل كلاهما إلى المطعم يجلسان على طاولة نائية عن الحشود، وإذا بالنادل يقترب، ممرراً إليهما قائمة بأصناف المأكولات التي يقدمها المكان.
“سالي” بالتماسٍ يتناقض مع رغبتها منذ قليل عندما أخبرته بأنها جائعة : – انتقي لي، فلا شهية لدي لصنفٍ محدد.
ومن غيره يعلم ما تفضل وما لا تفضل، تناول “غالب” القائمة يلقي عليها نظرة عابرة، ومن ثم طلب إليها وجبة دجاج مع مكرونة بالصلصة البيضاء وأخرى له.
فهو يرغب بأن يشاركها ولو بوجبة غداء حتى إذا لم يكن جوعان، ولو أرادت لأصبح أسعد رجل بالعالم إذا قبلت أن تشاركه حياته ولكنها دوماً تتهرب ما إن يتطرق إلى هذا الموضوع.
انصرف النادل ليجلب إليهما ما طلبه، وظلت عينا العاشق تتفرس بوجه محبوبته ينتظرها أن تفضي إليه بما يعكر مزاجها؛ فهو يعلم أن إلحاحه عليها سيأتي بنتائجٍ عكسية، وعندما طالت المدة ولم تبادر سألها باهتمامٍ:
-ما بكِ “سالي”؟! لا أحب أن أراكِ مهمومةً هكذا.
-لِم تبدين حزينة اليوم؟
أجابته “سالي” بإبهامٍ : – لأنه قد حضر اليوم!
“غالب” بعدم استدراك : – مَن تقصدين؟
“سالي” بتقززٍ وسخرية:
-الكونت “عبيدة”… “عبيدة السوالمي”!
أطلق “غالب” صفيراً خافتاً من بين شفتيه، رافعاً حاجبه لغرابة ما سمع، ومن ثم عقب يقول:
-ها قد قابلت ال “Boss” عبيدة!!
-غريبة إنه لم يَفُت علينا، وما رأيكِ به؟
قلبت “سالي” عينيها بمللٍ، تقول باستهزاء:
-عادي… وأقل من العادي أيضاً.
-أنتم من صنعتم له شأنًا بتملقكم ومديحكم الزائف.
تمهلت ومن ثم أضافت : – أفَّاقون!!
قالتها بضيقٍ، وهي تشيح بوجهها إلى الجهة الأخرى، ولكنها بحاجة إلى أن تفضي إلى توأمها الروحي بمشاعرها دون تصنعٍ، فأدرات رأسها لتقابله، قائلةً أحاسيس مختلطة:
-إنه مقيت يا “غالب”، بل إنه أسوأ بكثير مما توقعت.
وكعادته بدأ “غالب” في استدراجها للاستفاضة، بينما أخذت “سالي” تروي إليه بالتفصيل ملابسات مقابلتهما الأولى على الطريق.
حاول “غالب” جاهداً على أن يلتزم بهدوئه الظاهري، والتحكم بوحش غضبه الذي تحول لعدوانية لحظية لرفيق دربه وابن عمه؛ جراء ما لمسه من حزنٍ وأسى قد تخللا نبرة صوتها وهي تحكي.
أخذت يدا “غالب” تتشبثان بقوة بمتكأي المقعد الجالس عليه، وكلما رأى الحنق باديًا على ملامح وجهها، صَعُب عليه التحكم في عدوى الغضب التي انتقلت إليه من خلالها.
يعرف كم من الصعب على صغيرته أن تبدو بكل هذا الضعف، تكره أن يراها أحد وهي مستسلمة لوضعٍ تبغضه، وأبدًا لم تستغل الجانب الأنثوي لتثير شفقة أحدهم وتعاطفه معها، لذا علِم كم المعاناة التي تشعر بها الآن، فضعفها أمامه بهذا الشكل ليس جبناً بل يأسٍ وقهر.
تنهدت “سالي” بحزنٍ، تقول بروحٍ مستنزفة، مُنهية قصتها معه بالآتي:
-بشع… بشع… كان لقاءً فظيع يا “غالب”.
-لقد عاملني بدونية، وكأنني مخلوقٌ بلا عقل… گمن لا يملك ذرة من الفهم، وبالطبع يمكنك أن تتخيل نظرته العقيمة ضد الجنس الآخر، إنه شخصٌ معقد… بل مريضٌ نفسي.
-وعندما تفضل وتنازل وطلب مني معاونته في الإدارة، شعرت بأنه ديكتاتورٌ مستبد يميل إلى ممارسة السيطرة.
ترى هل ستستمر الصراعات بين ثنائي افتعال المشاكل “عبيدة” و”سالي”؟!
#رواية_واحتسب_عناق بقلم #الأسطورة_أسماء_حميدة
حصري على مجلة الأسطورة ممنوع النسخ
👇
عاااااش يا اسماء
ايه الإبداع ده