نقطة ومن أول السطر، فعلى قدر معرفة “غالب” بها، فبالمقابل هو على عِلم بشخصية “عبيدة”.
ومقولتها الأولى لخاتمة القصة فهو يصدقها تماماً ويبصم على ذلك ويوقع على إقرار ينص على أن “عبيدة” فعلها وقلل من شأنها واتهمها بعدم الجدوى.
فهو يرى أن كل النساء كائنات طفيلية عديمة النفع، وهذا ليس شأن خاصة بها إنما تلك نظرته العامة، فلسفة “عبيدة” التي اكتسبها في تعاملته مع فئة معينة من الفتيات، هؤلاء المدللات اللاتي لا يهتمَّن بشيءٍ سوى بالأزياء وأحدث الإطلالات وقصات الشعر.
ولكن عند حديثها بشأن تحكماته ورغبته في السيطرة لمجرد الاستبداد والانفراد بالرأي، فهي بذلك قد أخطأت الفهم، فلا هذا “عبيدة” ولا تلك هي أخلاقه، إنه السهل الممتنع.
بسيطٌ ولكنه يوحي بالتعقيد والغموض، رصين ومع مَن يألفه مرحٌ دون إخلالٍ بوقاره.
متحفظٌ ولكن ما أن يأمنك لا يخفي عنك مكنوناته.
تدخل إليه من باب العناد، يُخْرِجُكَ من مصرعي التجاهل والبرود.
عقد “غالب” أصابعه معاً يسند راحتيه على الطاولة التي أمامه، يحادثها بحيادية وموضوعية:
-كيف علمتِ أن هذا كان غرضه عندما طلب مساعدتكِ؟ ما الذي أوحى لكِ بذلك؟
-لِمَ لم تفترضي أنه بحاجة إلى مساعدتكِ بالفعل؟!
-هل فكرت لثانية بأنه قد عنى ما يقول ويريدكِ أن توجهيه بخطواته الأولى، وأنه حقاً جاء بضميرٍ صافٍ ليقدم يد العون؟!
تمهل ورأى أنه لابد وأن يواجهها بالحقيقة التي ترفض الاعتراف بها:
-أنت التي لا تتقبلين الواقع، وعندكِ رهاب من تجربة الأشياء الجديدة، وتتغنين بشعارات عن اتهاض الرجال للنساء وفي المقابل تتراجعين عندما تواجهي تحدياً حقيقياً، الآن يمكننا أن نشير إلى مَن يعاني من مركب النقص.
العلاج بالصدمة أفضل طرق العلاج وأقصرها تلك هذا هو النهج الذي يتبعه “غالب” الآن، لذا صاح المريض برفضٍ : – لا “غالب”.. هذا غير صحيح.
“غالب” بمهادنةٍ، فهو يُوقن بأن التعافي لن يأتي بأولى جلسات العلاج، لذا ابتسم محاولاً أن يخفف من وَقع كلماته الحادة حتى لا يثير المزيد من انفعالاتها:
-اهدئي “سالي” ولا تأخذي كل تلميحٍ على أنه إهانةٌ شخصية لكٍ، أو موجَّهة إلى بنات جنسكِ.
“سالي” بإصرارٍ:
-لو أمعنت النظر في الموقف منذ بدايته لعلمت أن كلامي صحيح.
-لقد فُرِض عليَّ هذا الواقع فقط لكوني أنثى.
-لو كنت رجلاً؛ ما أجبروا والدي على تعيين شخص آخر ليدير شئون مزرعتنا لكي يَقْنَع هؤلاء الرجال المتحكمي في الإدارة الخاصة بقسم الاعتمادات البنكية.
-هؤلاء الذين يشككون في قدرة المرأة على الإدارة، وإقرارهم بأننا گمعشر النساء لا نستطيع تحمل أعباء مهامٍ كهذه.
-وهذا ال “عبيدة” يتبع القطيع ويوافقهم الرأي، أُجزم بهذا “غالب”.
رأى “غالب أن لا طائلٍ يذكر في الجدال معها بهذا الوقت تحديداً، ولكنه أردف يقول بمداعبة:
-لو أنكِ تتحدثين عن شخصٍ آخر غير “عبيدة” الذي أعرفه حق المعرفة.
-لظننتكِ تتحدثين عن أحد الماسونيين الطغاة، ولكن الأيام والمواقف ستثبت لكِ عكس ذلك.
-ابلغيه أن يمر علينا في المزرعة للمبيت لأن الرقم القديم لجواله معطل، والجديد لا أعرفه، ربما يكون مع “عمران”.
“سالي” بنزق:
-إذاً خذه من “عمران”؛ فلن يكون هناك مجال للحديث بيني وبينه في أي أمورٍ شخصية لا تخص العمل.
“غالب” باقتراح:
-سأوصلكِ إلى هناك؛ لأقابله وآخذه للمبيت في منزل “السوالمي”.
“سالي” بانتشاء : – فكرة رائعة.
تناولا طعامهما، وهما يتسامران، ومن ثم عاد كلاً منهما بسيارته إلى القرية، وتقابلا عند بوابة المزرعة الخاصة بعائلة “سالي”.
أنزل “غالب” آلة الري من صندوق السيارة المكشوف يحمله إلى الداخل، وهي تسير برفقته وكأنها مقادة إلى مقصلة الإعدام.
قابلتها “فاطمة” التي خرجت إلى الشرفة حالما استمعت إلى صوت محرك السيارة، ووجهها العابس يدل على بداية مقطوعةٍ توبيخية مطلعها الكونت، ونهايتها “عبيدة السوالمي”.
وبالفعل ما إن دنت “سالي” من سور الشرفة حتى بادرت والدتها، تقول بحدة:
-لقد سأمتُ من تصرفاتكِ الطائشة، ماذا أصابكِ يا “سالي”؟!
-إنه ضيفٌ عندنا، وكان من واجبنا إكرامه، وأنتِ بالخصوص كان عليكِ أن تصحبيه في جولةٍ حولة المزرعة بنفسكِ.
-لقد خرج بعد رحيلكِ ليتفقدها بمفرده، وهذا يعني أنه رجلٌ عملي يريد إنقاذنا مما نحن فيه، وبدلًا من أن نشكره ونساعده في مهمته، نخرج للتسكع.
بالرغم من لوم “فاطمة” وتأنيبها الجارح إلا أن “سالي قد نكست رأسها بخزيٍّ، وهذا لا يمنع ظهور تلك النظرة الحانقة التي لاحت بعسليتيها فعلى أية حالٍ والدتها محقة، وما كان على “سالي” أن تتصرف بمثل هذه الوقاحة وموقفها الصبياني غير المسئول هذا تستحق العتاب عليه.
تمتمت “سالي” باعتذارٍ وهي تشعر بالحرج الشديد، وهذا بالرغم من إبائها للاعتراف بخطئها تحت أية ظروف، وزاد من ضعف موقفها وجود “غالب” الذي بدا عليه الاستياء مما فعلت؛ وكأنما يؤيد رأي “فاطمة” الذي كان مقارباً لما وضَّح به موقف عبيدة وهما في المطعم.
الأم بضجرٍ:
-لستُ أنا من يتوجب عليكِ الاعتذار له، بل عليكِ أن تعتذري إلى “عبيدة” شخصياً.
جحظت عينا “سالي” التي ماجت بغضبٍ جلي:
-ماذا؟!
الأم بأمرٍ : – كما سمعت.
“سالي” بامتعاضٍ : – ومتى سينتهي من جولته؟!
-لقد تأخر الوقت، وقطعاً لن تطلبي مني أن أخرج بمُنادٍ للبحث عن رجل بطول “عبيدة” وگأنه طفلٌ تائه.
هزت “فاطمة” رأسها بيأس من ردود ابنتها الساخرة، موجهةً حديثها إلى “غالب” تقول:
-أرأيت مَن تدافع عنها دوماً؟!
“غالب” بموقفٍٍ لا يحسد عليه فلم يُجب، بل اكتفى بايماءة رفض مؤيدة لموقف “فاطمة” ضد “سالي”.
وعندما حدجته “سالي” بعتابٍ، عاود التأشير بالقبول لما تقوله “سالي” كمناصرةٍ لها، أما في الحقيقة فهو عاجز عن تمالك نفسه ولم يتمكن من التفوه بكلمة، إذ يريد الانخراط في نوبة ضحكًا حتى تدمع عيناه.
“فاطمة” بنزقٍ : – ما بك أنت الثاني؟!
“غالب” بجديةٍ مصطنعة : – لا شيء يا خالة.
-ألم يخبركِ “عبيدة” بموعد عودته؟
-أريد أن أراه.
تنهدت “فاطمة”، تجيبه بهدوء:
-لم يقُل شيئاً، ولكنني أخبرته أن ينضم إلينا على العشاء في الساعة الثامنة.
-تعال انتظره بالداخل، هل أنت غريب يا “غالب”؟!
تحمحم “غالب” يجلي صوته، ومن ثم قال:
-لا يا خالة، وما دخلنا بالأغرب!! القصة وما فيها أن لديّ أعمال معطلة ولكنني سأعود لمقابلته.
ومن ثم همس “غالب” إلى تلك المشاكسة وهو يبتسم:
-اوقفي قذائفك المستهدفة، الخالة “فاطمة” على أوجُّها، و”عبيدة” مجنون مثلكِ ولن يستسلم لما تريدينه بسهولة.
-محاولاتكِ في اقتلاعه من هنا قد تأتي بنتائج عكسية، وسيعود هذا بالسلب عليكِ.
قلبت “سالي” عينيها بضجرٍ، تقول بلوية ثغرٍ ونظرةٍ متطرفة بزاوية:
-اذهب من هنا يا “غالب” سأرتكب جريمة وستكون أنت أول ضحايايَّ.
عض “غالب” على جانب شفته السفلى، يقول بمشاكسة : – يا شرس!!
تأففت، ومن ثم أضافت:
-اللعنة!! رجال عائلة “السوالمي” أجمعهم صاروا حكماء يلقون النصائح والمواعظ.
“غالب” وهو يَهِم بالانصراف : – إلا أنا.. فأنا سفيه.
هذا كان آخر ما عقب به “غالب” قبل أن يرحل، ومن ثم توجهت “سالي” ناحية إحدى النعجات بعد أن ناولتها “فاطمة” الدورق الصفيح دون حديث وما حاجتها؟! ف”سالي” تعرف ما يجب عليها فعله.
قادت “سالي” النعجة إلى حوض الماء الذي ترتوي منه الماشية تجلس على حافته منحنية بجذعها لتحلب لبنها، فاستمعت إلى صوت أخيها “أكرم”، يسأل بفضولٍ:
-ما شكله؟
رفعت “سالي” رأسها إليه، تجيب سؤاله بآخر:
-عمَن تتحدث؟!
رد “أكرم” يقول بإيضاحٍ : – السيد “عبيدة”؟
زفرت “سالي” بحنقٍ، تقول بامتعاضٍ:
-ألن ننتهي من هذه السيرة؟! لقد سأمت.
-وأنت!! لِم تسأل؟! ألم تقابله على الغداء؟!
“أكرم” بإحباطٍ:
-لا.. لقد كنتُ بالخارج، أجلب علفاً للماشية، وعندما لم يجد رجلاً بالبيت رفض الدخول.
قال” أكرم” الأخيرة بانتشاءٍ، وهو يُعَدِّل من ياقة قميصه، فهو الرجل المَعْني بالطبع.
جلس “أكرم” إلى جانبها على الحافة، وهو يعاود سؤالها بإلحاحٍ عن هيئة الضيف، فأجابته بتبرمٍ:
-لا أدري… إنه فارع القامة ذو بنية قوية، يتعدى طول أخي “حسام” ببضعة إنشاتٍ.
استكملت تضيف:
-ملامحه خشنة ولكنه وسيم.
-متعجرف ومغرور، ذو شخصية ناقضة تهكمية، ولكن لِم تسأل عن هيئته؟
تجاوز “أكرم” سؤالها، ولكنه لم يُوقِف سيل استفساراته بعد، إذ عاد يقول:
-كم عمره؟
تشنجت يد “سالي” القابضة على ثدي النعجة التي زامت بألمٍ جعل تلك الثائرة تنتبه لتكف يدها عنها وهي تشعر بالاستياء، فما ذنب هذه المسكينة؟!
أجابته “سالي” بحدة:
-من أين لي أن أعرف ذلك؟! لم أسأله ولا دخل لي بهذه الإحصائيات التي لا تعنيني.
“أكرم” بتململٍ : – هيا يا “سالي”، يمكنكِ أن تخمني أمراً سهلاً كهذا.
“سالي” بنزقٍ : – بالنظر، يبدو أنه قد تعدى الثلاثين.
ربتت “سالي” برفق على ظهر النعجة، وهي تزيح القارورة من أسفلها، وتستقيم بجذعها، فتناول “أكرم” الإناء عنها، يقول:
-يبدو أنه لطيفٌ ومُسلي.
ناظرته “سالي” بدهشةٍ، معقبةً:
-يا الله!! تتحدث وگأنه “براد بيت” الشرق!!
-إنه ليس سوى الابن المدلل لأحد الأثرياء من رجال الأعمال، والذي يحاول أن يُظْهِر نفسه گأحد الأبطال الخارقين.
في تلك الأثناء استمعا إلى صوت محرك سيارة وافدة بالجوار، يصحبها صوت نباح “سيمبا”، فاستكملت تقول بسخريةٍ:
-قد يكون القادم هو بطلكم الخارق.
أسرع “أكرم” في اتجه باب المنزل مشغوفًا، كي يترك وعاء الحليب في المطبخ ليقابل مَن صار حديث الناس في البلدة بين عشيةٍ وضحاها، ولكن “سالي” حذرته حتى ينتبه على ما بيده لإلا يُسكب منه على الأرض، لذا أبطأ في خطاه.
بينما توجهت “سالي” إلى قن الدجاج، متلكأةً تحاول أن تشغل حالها بإطعامها بالرغم من تأكدها من أن “غانم” حريص على فعل ذلك.
اتجهت إلى المنزل أخيراً، فها قد أشرفت الساعة على الثامنة، وطالما والدتها “فاطمة” قد أبلغته بموعد العشاء فهذا يعني أنها ستعده في الوقت المحدد.
تنفست “سالي” الصعداء إذ نجحت محاولاتها في التأخر، فعندما دلفت إلى المطبخ لم تجد “عبيدة” بداخله، فهم معتادون على تناول العشاء فيه على الطاولة القابعة بزاويته.
سريعاً هرعت “سالي” إلى الحمام لتغسل يديها قبل مساعدة والدتها في إعداد المائدة، ولكن فور أن امتدت يدها لتدير مقبض الباب، فُتح من تلقاء نفسه، فشهقت بفزعٍ تتراجع خطوتين إلى الخلف قبل أن تصطدم بالحائط البشري الذي سد الطريق أمامها.
ولكن سرعان ما اختل توازنها عندما عَلِقت قدمها بالسجادة الوبرية التي تفترش الأرض وقبل أن يهوى جسدها، التقطت معصمها يدٌ قوية بقبضةٍ أشبه بالملزمة، وصاحبها يجذبها إليه حتى اصطدم جسدها بصدره العريض.
وبرد فعلٍ اندفاعي حاولت الإبتعاد، فكررت نفس الخطأ وبما أن أصابع كفه لا زالت ملتفة حول رسغها بحماية، حال ذلك دون سقوطها.
وبحركةٍ مباغتة طوق خصرها بذراعه الحر يدعم ظهرها، فأعاد جسدها إلى موضعه بين ذراعيه القويتين، وهي تضغط راحتيها لا إرادياً إلى صدره.
تلاقت النظرات وهواء زفيرها القريب إلى وجهه عندما مال إليها في لقطة رومانسية قاطعة للأنفاس داعب معالم وجهه برقة.
ولكن عن أي رومانسية نتحدث؟!
إنهما ألدا الأعداء!!
#رواية_واحتسب_عناق بقلم #الأسطورة_أسماء_حميدة
👇
اكتر من رائع