رواية كواسر أخضعها للرائعة نورهان العشري 11-12

هذه النسخة خاصة بموقع مجلة الأسطورة، ممنوع النسخ نظراً لحقوق الملكية الفكرية

الفصل 11

حتى وأن عادوا حاملين السبعين عُذرًا فلم يعد ينفع لأننا لم نعد نهتم ! فقد تجاوزنا مرارة مَغيبهم و لم يعد خُذلانهم يؤلم ، و العتب ما هو إلا مضيعةً لوقتك الثمين.. فـ ليرحل من يرحل فـ قلوبنا عزيزة لا يُستهان بـ ودها. لا يسكُنها إلا من شابهها ولا يكسِرها من غاب عنها.
خلاصة الأمر : أن وجودهم لم يعد مُميزًا وغيابهم لم يعد مريرًا …

نورهان العشري

تشارك كُلاً من هما شعور الصدمة التي لونت نظراتهما و سرعان ما تحولت كُلياً إلي عتاب من جانبها كان قاسيًا  وهي لازالت مُلقاة علي الأرض جراء دفعُه لها عقب رصاصة حُريتها التي اخترقت صدرها لتُفتت ما بقي من أضلُع الصبر التي كان يتوارى خلفها قلبًا كان العشق إثمه الأكبر
بينما الندم كان من جانبه. كونه جعل الغضب يتملكه بتلك الطريقة فيُعلن انفصاله عن أنثي ما انصاع قلبه إلا لها وعصاه لأجلها فأعلن تمرده على كليهُما ليُثبت لكبريائه بأنه قادرًا على تجاوز كل ما يؤلمه حتى ولو كان قلبه و عزيزته ..

تبدلت نظراتها المعاتبة إلي أُخرى ليلية سوداء مُلبدة بسحُب عبراتها التي تُهدد بالانفجار في أي لحظة و بشِق الأنفُس تحاملت علي جسدها الهالِك تحت وطأة الألم و  نصبت عودها الواهن الذي لم تُحاول إخفاء رجفته حتى عبراتها التي انسابت من بين عينيها لم تُحاول ردعها و قد كانت تلك هي المرة الأولي مُنذ فعلته النكراء التي يراها تبكي ! و هُنا احترق قلبه أمام حقيقة مُروعة بأن طلاقه لها كان وقعه عليها أشد وأقسي من زواجه بأُخرى !

عاقبته بأقصى الطرق المُمكنة حين شيعته إلى مثواه الأخير خارج حياتها بنظرة مهزومة مُنكسِرة و كأن انكسارها هذا كان سلاحها الفتاك في النيل منه . ربما لو ثارت و غضبت أو حتي قامت بإطلاق السُباب و اللعنات لم يكُن ليتألم هكذا ..
التفتت تُغادره غير عابئة بتلك النظرات التي تُحيطها من كل مكان و التي تفرقت ما بين الشفقة و الشماتة و الغضب .. حتي أن نداءات زين لها لم توقفها بل تابعت وكأنها أن توقفت لثوانٍ ربما لم تستطيع قدماها أن تحملها لتُكمل مسيرها .. غادرت بقلبٍ يرتجف قهرًا و أعيُن لا تكُف عن النزف من فرط الألم و كأن علل العالم أجمع تفشت بروحها فلم تستمع إلي هذا الهمس المُحترق الذي نطقت به شفاهه قائلة بلوعة
” لا تذهبي …”

ولكن فات الأوان فقد رحلت . غادرت لتتركه غارقًا في وحل الذنب و الألم الذي تشعب إلي صدره أكثر حين صاح به والده بقسوة
” هل أنت مُرتاح الآن ؟ لقد هدمت بيتك و شتت شمل عائلتك ، و خسرت المرأة الوحيدة التي أحببتها… هنيئًا لك “

لم يحتمل أراد الصُراخ كان ذلك الشئ الوحيد القادر على إنجاء قلبه من ذبحة صدرية كانت قاب قوسين أو أدني من الفتك به لذا و بكل قوته صرخ حتى جُرِحت أحباله الصوتية
” يكفي، يكفي .. لم أعُد أحتمل .. أكرهكم جميعًا.. أكرهكم.”

قال كلمته الأخيرة ثم هرول إلى الخارج وهو يستقل سيارته وينطلق بأقصى سرعة ممكنة كمن يشتهي الموت…


كانت تجر أقدامها جرًا وهي تستند على جُدران مدخل العقار الذي يقطِن به والدها و بداخلها تجمعت خيبات العالم أجمع حتى أنها ما جاءت إلى هُنا إلا لتتلقى خيبة أخري قد تكُن هي المُنقذة لروحها التي تشتهي الموت كما يشتهي الناسك الجنة !
بصورة آلية قامت بطرق باب الشقة لتمضي ثوانٍ و تجد والدها أمامها يُطالعها بنظرات مصدومة و ما كاد أن يتحدث حتى باغتته كلماتها و نبرتها التي كانت فاقدة لكل معالم الحياة
” لقد تطلقت .. جلبت لك العار يا أبي هيا أجهز على ما تبقى من روحي و لتكُن تلك هي الحسنة الوحيدة التي تفعلها لي ..”

قبضة قوية اعتصرت قلبه حين استمع إلى كلماتها المعذبة و هيأتها المدمرة فهمس بصدمة
” هُدى …”

هُدى بجفاء يتناقض مع عينيها التي يسيل منها الألم بغزارة
” هيا . هيا. لا تُحجِم شياطينك أكثر . اصفعني و حتى إن أردت اقتُلني ولكن أتوسل إليك لا تُلقي بي أمام عتبة بيته مرةً أخرى…”

اهتزت نبرتها حين نطقت جُملتها الأخيرة و التي كان سكـيناً نحـر عنق رؤوف الذي جذبها بعُنف داخل أحضانه وهو يهمس بحرقة :
” اه يا هدى .. اه يا حبيبة قلب أباكِ .. والله لو رُفعت يدي عليك لقطعتها. سامحيني يا بنيتي . سامحيني أرجوكِ ..”

كانت فعلته و كلماته إذنًا لانهيارٍ عظيمٍ من جانبها فإذا بها تشدد علي عناق أباها و كأنها تحتمي به من العالم أجمع وهي تصرخ بقهر :
” يا أبي . أنا أتألم بشدة .. أكاد أموت من فرط الوجع .. “

” سلامتك من الالم يا حبيبتي.. فليحترق الجميع ولا يتأذى ظفر من أظافركِ ..”

أخذت تشدد من احتضانه وكأنها ضال وجد المأوى بعد سنين من الضياع و الحيرة ولكم أراحها استنادها عليه بتلك الطريقة .
فكل شئ يصبح هين حين يجد الإنسان من يشاركه همومه ومصائبه و الأب هو عون و سند ابنته . ذلك الكتف الذي تتكئ عليه غير عابئة لا بأشياء ولا بأشخاص . فإن مال مالت بها الدنيا و أشبعتها من صفعاتها . و إن اشتد اشتدت به و صلُب عودها فلا يقدر أي شيء علي كسرِها مهما بلغت قوته ..

أدخلها والدها إلى الداخل و حين رأتها والدتها وهي منهارة بهذا الشكل هرعت إليها وهي تقول بذعر
” ماذا حدث ؟ “
لم تكد تُكمِل طريحة استفهاماتها حتى أوقفتها كلمات رؤوف الآمرة
” ليس وقت الكلام يا راوية.  خُذيها لغرفتها الآن لترتاح ..”

أطاعته “راوية”  بصمت بينما رمقته هدى نظرات بها امتنان كبير بادل امتنانها باعتذار أكبر أطل من عينيه لتشق ثغرها ابتسامة صفح لامست زوايا قلبه الذي انفطر وهو يراها تستند بتلك الطريقة على والدتها و كأن وهن العالم أجمع صب في جسدها الذي كان ينحني بتعب موطنه قلبها العليل والذي لا تعلم كيف يمكنها مداواته لذا ما إن دخلت إلى غرفتها حتى ارتمت فوق مخدعها تحاوط جسدها بذراعيها لتخلد إلى نومٍ عميقٍ دام لأكثر من عشر ساعات و كأنها لم تنم منذ أشهر و هذا ما كان يحدث فعلياً فهي لم تكن تستطيع النوم منذ ذلك اليوم المشؤوم ..

حاولت نفض ما يعتريها من ألم و آثرت عدم الخوض في تلك الذكريات المؤلمة وأجبرت نفسها على الحركة لتغادر سريرها و تتوجه إلى الحمام لتأخذ حماماً ينعش جسدها ثم خرجت متوجهة إلى خزانتها القديمة تلتقط ما تقع يدها عليه فكان ثوب قطني ذو حمالات عريضة باللون الأسود و يصل إلى ركبتيها فقامت بارتدائه تاركة خصلات شعرها خلفها لتجف ثم توجهت للمطبخ تعِد كوب من القهوة سريعة الذوبان و عادت أدراجها إلى الغرفة مرةً أخرى فقادتها قدماها إلى الشرفة لتستنشق بعض من نسمات الهواء العذب . فقامت بوضع الكوب الذي في يدها علي الطاولة ووقفت بقرب السياج الحديدي ثم رفعت رأسها للأعلى مغمضة العينين تحاول الاسترخاء بينما خصلات شعرها كانت تتمايل بدلال حولها فكانت من بعيد مُتعة الناظرين ممن لا يعرفون ما بها أما هو فقد بدت له كتمثالٍ جميل نُقِش على ملامحه الوجع الذي كان أضعافه بقلبه الذي يئِن حسرةً و ألماً وهو يطالعها من بعيد بعد أن طاف المدينة بأكملها يبحث عن مكان قد يرتاح به فلم يجد وحين ترك العنان لقلبه أتى به إليها …
أخذ يُناظِرها بعينين تباين بهما الشعور من لهفته لاحتوائها بين ذراعيه لعشق لم يخلق لسواها لندمٍ لكل ما فعله بها و معهما غصبٍ كبيرٍ كونها السبب في كل ذلك !
فاض به الشعور فهمس بنبرة محترقة
” هدى …”

كان يحترق بكلمات يشعر بها تكاد تخنقه ولا يجرؤ على قولها ولم يعلم بأن همسه وصل إلى قلبها الذي انتفض فجأة و سرت قشعريرة قوية في سائر جسدها الذي ارتجف ففتحت عينيها بلهفة تحولت لصدمةٍ كبيرةٍ وهي تراه يقف أسفل شرفتها بتلك الهيئة المُبعثرة شعر أشعث و قميص لم يُغلق به سوي ثلاثة أزرار بينما كان نصفه خارج بنطاله و النصف الآخر في الداخل فقد بدأ كمتشرد قضى عمره هائماً في الطرقات ..
طنين قوي دوى بقلبها الذي شعرت به يدق بجنون آلمها فهل هو حقاً هنا ؟

التفتت تعطيه ظهرها وتضع يدها فوق جبهتها وهي تهمس بعدم تصديق
” لا إلهي لا . أنه ليس هنا. ليس هنا . أنا أتوهم .. نعم أتوهم ..”

أغمضت عيناها بقوة ثم فتحتهما و التفتت تنظر إليه فتفاجأت بأنه لم يكن موجود !
إذًا كانت تتوهم بالفعل . أغمضت عيناها التي تبلور بهما ألمها القاتل الذي اجتاح قلبها حين لم تجده و ضاع قسمها بألا تبكي مجدداً أدراج الرياح . فأخفضت رأسها بتعب ذرفته بقوة من عينيها التي برقت بصدمة حين سمعت صوت جرس الباب يدق ..
نظرت إلى ساعة يدها فوجدتها تشير إلى الثانية عشر بعد منتصف الليل. من الذي سيزورهم بهذا الوقت ؟

أضاء عقلها بفكرة جنونية جعلت جميع حواسها تتأهب
فتوجهت إلى الخارج بأقدام مُتلهفة و أنفاس مُتلاحقة لتنظر إلى العين السحرية بالباب فشعرت بالدماء تتحول في عروقها إلى جمرات مشتعلة جعلتها ترتجف وهي تتمسك بمقبض الباب لكي تفتحه ..

التقت نظراتهما للحظة كان يُغلفها شوقًا قاتلاً حاولت إخفاءه بينما كان هو العكس فقد تحول جميع ما يشعر به من ألم و لوعه و غضب إلى فيضان شوق جارف فلم يُمهلها الفرصة لاستيعاب وجوده أمام بيتها الآن بل قام بجذبها من أسفل عنقها بقوة ليسحب أنفاسها بين شفتيه وهو يقبلها بضراوةٍ افزعتها لوهلة فلم تستطيع لا دفعه ولا مجاراته فقط خضوع واستسلام لم يُبالِ به فقد بدا و كأنه يدفن أوجاعه بثغرها الذي كان نبيذاً مُسكرًا غيب عقله حتى تناسي أنهما يقفان علي باب شقة والدها كل ما كان يتذكره هو شفاهها و شوقه لها و وجودها بين ذراعيه التي كانت تحكم تطويقها و كأنه يخشى أن يفقدها إن لانت قبضته قليلاً .

تململت بضيق بين يديه فقد كادت رئتيها أن تنفجر طالبة ببعض الهواء فتركها علي مضض دون أن يُفلتها بل ظلت معلقة بين ذراعيه وجبهتها تلتصق بخاصته وهما يتنفسان بصعوبة من فرط الانفعال الذي جعل نبرته مبحوحة وهو يقول
” اعتذر ..”

لو كان الوقت مختلف لكان أول ما فعلته هو صفعه بقوة على تلك الكلمة الواهية التي كحبة رملٍ في مواجهة جبل شامخ ولكن هالها صوت أسنانه التي تصطك ببعضها البعض و ارتجافة ملامحها و كأنه يحجم صرخات قوية تهتاج داخل صدره الذي كانت أنفاسه في شجارٍ عنيف لا يهدأه سوى أنفاسها التي أخذ يتنفسها بقوة بينما هي كانت تُجاهِد للإفلات من بين براثنه ولكن جسدها لا يُطاوعها فشعرت بالحزن عليه و على قلبها وكل شيء يرفض الابتعاد عن هذا الرجل ولكنها استجمعت جأشها لتقول بألم :
“مضى وقت الاعتذار”

أخذ يهز برأسه للحد الذي تفرقت عبراته حول وجهها وهو يهمس بنبرة محرورة :
“سامحيني”

عاندته شفاهها نكاية بقلبٍ لا زال يحترق لأجله
“انتهى كل شيء ..”

كان يشعر بكل ما يدور بداخلها و قد كان هذا آخر أملاً له معها لذا همس بجفاء
“كاذبة”

تعلم أنه يعلم بكذبها ولكنها تمسكت بمَا تبقى من ثباتها وهي تقول بقسوة
“ارحل .. لم أعد أريد أي حياة تربطني بك .. “

عاندها بكل ما أوتي من عشقٍ  :
“وأنا لا أريد تلك الحياة الخالية منكِ…”

قست نبرتها وهي تتذكر إعلانه أمام الجميع بخيانتها و تلك نظرات الشماتة التي انهالت عليها من والدته لذا قالت بقسوة وهي تحاول التملص من بين ذراعيه:

“لم تعُد رفاهية الاختيار متاحة لك ..”

همس بلوعة:

“هدى  . “

لوعته أضافت ألمًا آخراً إلى ألمها فلانت نبرتها قليلاً حين قالت
“لقد قضيت على آخر شيءٍ كان يربِطُنا “

_ أنت مُحقة .. ولكن أنا أيضاً كان لدي حق بأشياءٍ كثيرةٍ .. حتى أعظم ذنوبي لم تكُن من فراغ .. لم يكن بملء إرادتي خيانتك. أنتِ من دفعتني لذلك .

تعلم أن كل ما يقوله حقيقي و لأول مرة تواجه نفسها بذلاتها ولكن ما حيلة قلبٍ أحرقته الخيانة و تركت ندوباً بشعة لا يفلح أي شيء في مداواتها.

-“صدقت .. لم تكن ذنوبك من فراغ ، و مثل خيانتك لم تكن بإرادتك فغفراني ليس بيدي و أنت أيضاً من دفعتني لذلك … لذا رجاءً أرحل ، انتهى كل شيئ بيننا “

أزهقت كلماتها بآخر أملٍ كان يملكه لذا أطلق نفساً حاراً من جوف بركانه الأعظم و همس بشجون:

“آه لو تعلمين ما تفعلينه بي و أن كل أخطائي و ذنوبي ما كانت سوى ثورة قلبي الذي أضناه هجرك ..”

كل شئ بات يتآمر معها حتي جراحها النازفة بدأت بالخدر من لهيب أنفاسه علي وجهها فحاولت قتل ضعفها قبل أن يقتلها لذا تراجعت عنه وهي تقول بجفاء

“وداعًا شاهين ..”

كانت هناك لحظة فارقة بين أن تستمع إلى صوت كبريائها النازف وتغلق بابها في وجهه إلى الأبد و بين أن تُلبي نداء قلبها المكلوم وترتمي بأحضانه إلى الأبد . ولكن بالنهاية انتصر صوت الكبرياء و قامت بإغلاق الباب في وجهه وهي تستند عليه تنعي قصة عشقها معه إلى الأبد ..

من كل قلبي اتمني لو يلتقي الكبرياء و العشق يومًا ما عند مفترق طرق تقودنا الى درب واحد نسلكه سويًا. فقد سئمت و روحي من المقاومة فتلك الحرب ليست عادلة و خسائرها فادحه. فـ قلبي فلسطيني أعزل وعيناك قُدسي الغالية لذا فـ التخلي ليس من ضمن قائمة اختياراتِ فأنتِ وطني الذي لا أعرف وطنًا غيره فـ أنا منه وإليه أعود ..

نورهان العشري

مر يومان دون أن يحدث شئ فقد التزم الجميع الصمت وكانت هي أكثرهم حتى أنها لم تكن تخرج من غرفتها سوى للضرورة القصوى تفكر وتفكر حتى اهترأَ عقلها من فرط التفكير فالتفتت تنظر إلى ساعتها فوجدتها تجاوزت الساعة الثانية بعد منتصف الليل وهي لم تستطيع النوم بعد هذا القرار الذي اتخذته لتنأى بنفسها بعيداً عن الجنون الذي سيكون مصيرها في النهاية بتلك الحيرة اللعينة فهبت من مخدعها ، وثبت قائمة تبحث عن هاتفها لتتصل به وتطمئن عليه فقد تأخر كثيراً في القدوم وقد نبش القلق أظافره في قلبها الذي أخذ يدق كثيراً وهي تستمع إلى تلك الجلبة في الأسفل فارتدت مئزرها بعجالة وهي تتوجه إلى خارج الغرفة فوجدت الجميع بالأسفل فخرج استفهامها مُرتعبًا وهي تقول
_ماذا حدث؟

ارتفعت رأس فريال تُطالِعها بنظرات غامضة بها شئ من التلذذ
“لقد قبضت الشرطة علي فراس و شاهين وهم يُدخلون السلاح إلى البلاد ..”

كانت بآخر درجة من درجات السلم حين استمعت إلى كلمات والدتها التي جعلتها تهوى علي ركبتيها من فرط الصدمة فهرول إليها ساجد يسندها حتي تقف بينما كانت عيناها مُعلقة بعيني فريال التي كان السخط والبُغض يلونان تقاسيمها و كأنها تُخبرها بأنها كانت تعلم بخيانتها وانحيازها له فلهذا ضربت هي ضربتها
” اهدئي نور لقد تحدث عمي زين و قال أنهم قادمون و أن الشرطه أفرجت عنهما . لا أعرف لمَ تُحِب أمي أن تفتعل كل هذه الجلبة ..؟”

هكذا تحدث ساجد بانفعال فتعلق قلبها بكلماته وحين أوشكت علي الحديث جائتها كلمات جليلة الغاضبة وهي تصيح بغضب :
“هذه هي والدتكِ منذ أن دخلت إلى تلك العائلة. تُحِب إثارة الجلبة و افتعال المشاكل . على الرغم من أنها تستمتع كثيراً وهي تصيح هنا وهناك مُرددة أنا فريال النعماني . إذنْ لمَ لا تصوني هذا الاسم الذي تختبئين خلفه متبرأة من أصلكِ الحقير ؟ “

جن جنون فريال من هجوم جليلة المُباغت فقابلته بآخر مضاد :
“اخرسي يا جليلة وإلا لقنتكِ درساً لن تنسيه . أنا لا افتعل أي شيء  ، وجهي توبيخكِ هذا إلى ابنكِ المحترم الذي وضع رأس عائلتنا في الوحل بأعماله المشبوهة “

_ هل حقا فعلت ؟
هكذا جاءهم صوت فراس القاسي أمام باب القصر و خلفه كُلاً من شاهين و زين فشهقت نور وهي تكاد لا تُصدِق عيناها حين رأته أمامها سالماً فأطلقت لساقيها الريح لتحملها إليه مُرتميه بين أحضانه وهي تهمس بحرقة:
-فراس ..

كانت يديه التي تحيط بها مُتيبسة علي عكس لينها الدائم معها في السابق ولكنها لم تهتم فقد أخذت تُشدِد من عِناقه و داخلها تحمد ربها للمرةِ الألف على عودته سالماً فجاءها صوت جليلة الغاضب:
” ما الذي حدث فراس ؟ “

تولى شاهين الإجابة بدلًا عنه وهو يتربع على أحد المقاعد ليقول مستاءً
” لقد أبلغ أحدهم الشرطة عنا بأننا ندخل السلاح إلى البلاد مُخبئًا في الأجهزة الكهربائية التي نستوردها من الخارج ..”

شهقت جليلة بصدمة تحولت لغضبٍ هائل تجلى في نبرتها حين صاحت :
” و من هذا الحقير الذي فعل ذلك ؟”

أجابها زين بجفاء:
” لقد كان بلاغ مُقدم من مجهول..”
تدخل ساجد باستفهام:
” هذا يعني أنه لا يمكنكم معرفة هوية ذلك القذر ؟”

كانت لازالت داخل أحضانه ترتوي من غيث حضوره لكنها تفاجئت حين سمعت كلماته القاسية
” لقد عرفنا هويته ..”

تجمد جسدها بين أحضانه للحظات قبل أن تجد يديه لانت حولها وتراجعت قليلاً تناظره بعيون يلمع بها الهلع الذي تبدد لصدمة عاتية حين قال بجفاء وعيناه مُسلطة بقوة على خاصتها
” البلاغ المقدم باسم نور النعماني …”

شهقة قوية شقت جوفها بينما عيناها مازالت أسيرة لنظراته الغامضة التي جعلت الأنفاس تنحبس بصدرها فقد كانت كمن ضُرِب بصاعق كهربائي أمسك كل مؤشراتها الحيوية عن العمل فلم يُطاوعها لسانها للحديث و فقدت الاتصال بجميع حواسها حتى أنها لم تستطع الالتفات لتواجه جليلة التي قالت بعنف
” هل هذا صحيح ؟ هل استطعتي خيانة عائلتكِ و زوجكِ بتلك الطريقة ؟”

صاح ساجد باستنكار متألم:
“لا . لا أصدق ذلك . نور لا تفعل شيئاً كهذا .”

كان أول بادرة حياة منها هي تلك العبرات التي انهمرت خلف جدران الثلج التي طوقتها وجعلتها عاجزة حتى عن رجرجة رأسها نفياً . ولكن صوت جليلة الغاضب من خلفها جعلها ترتجف بين ذراعيه حين قالت
” أجيبينا..”

عيناها تُرسِلان إشارات التوسل إليه حتى ينقذها ولكن عيناه بدت قاسية لا ترحم ضعفها فحاولت أن تشحذ ما تبقى لها من طاقةٍ لتقول بهمس
” لم أفعل ذلك… لست أنا .. صدقني ؟”

مرت لحظات صامتة من جهته لكنها كانت دهراً عليها فخاب أملها للحد الذي جعلها تشتهي الموت في تلك اللحظة وحين أوشكت علي الابتعاد عنه شعرت بيديه تشتد علي خصرها تمنعها من الحركة وجاءت نبرته جافة تُنافي نظراته التي رقت كثيراً وهو يناظرها

“أُصدِقكِ نور.”

صمت لثوانٍ قبل أن يُضيف و يداه تنتقلان لتحتضن وجنتيها اليمنى وهو يقول بلهجة أرق
“و أعلم أنكِ لم تفكري يوماً في أذية أحدٍ مهما بخوا سمومهم بعقلك..”

خيمت الدهشة على ملامحها للحظات وهي تستمع إلى كلماته التي شوشت عقلها كثيراً فلم تستطع الحديث بينما جاءت كلمات جليلة الحادة
” إذن من فعل ذلك ؟ أنا لا افهم شيئاً..

شدد فراس من احتضانها بعد أن قام بإسناد رأسها فوق صدره فقد تجلى ألمها الكبير بعينيها التي وهنت كثيراً فأشفق عليها بشدة من القادم بينما أشارت عيناه لشاهين بالحديث فأومأ صامتاً و التفت إلى فريال التي كانت علي حالتها من الصدمة منذ أن شاهدته وهو يقف أمام باب القصر. و لكنها أحكمت تطويق صدمتها لألا تثير الظنون  أكثر ولكن باغتتها كلمات شاهين الساخرة حين قال
“لنسأل فريال هانم قد نجد عندها الإجابة “

شعرت و كأن دلو من الماء سقط فوقها وهي تجد كل تلك الأزواج من العيون تحدق بها و من بينهم عيون نور التي ما إن سمعت حديث شاهين حتى التفتت بلهفة تُناظرها فحاولت فريال الثبات وهي تقول بحدة
أي إجابة قد تجدها عندي ؟ لا أفهم عما تتحدث ؟

تدخل زين الصامت منذ البداية قائلاً بجفاء:
“لقد تحول من حسابكِ في الشهرين الماضيين أكثر من عشر ملايين جنيهاً إلى حساب فتاة تدعى لينا في هولندا وهذه الفتاة هي ممرضة أشرف الرشيد هل هذة صُدفة برأيكِ “

اندلعت الشهقات من أفواه الجميع حولها فهبت جليلة مندهشة  :

“هل هذا صحيح يا فريال؟ “

عاندت بلهجة مهتزة :

“ما هذا الهراء الذي تتفوه به زين ؟!”

هنا تحدث فراس قائلاً بجهامة:

“باستطاعتي أن أضع أوراق التحويل أمام عيناكِ الآن لذا لا تُطيلي و أخبريني قبل أن أبدأ بظنوني التي تصُب جميعها في بوتقة قذرة..”

تدخل ساجد بلهجة متألمة
“هل هذا صحيح أمي ؟”
لم تحتمل كل هذا الضغط فصاحت بانفعال:
“نعم لقد قمت بتحويل الأموال لها ..”

هب زين من مكانه قائلاً بصراخ:

“و تجرؤين على الاعتراف أيضًا؟ “

فريال بحدة:

“نعم أجرؤ “

صاحت جليلة باحتقار  :

“حقيرة  . “

و أيدها شاهين بقسوة  :

“بل فاسقة . “

لم تحتمل تلك الكلمات البزيئة التي لطخت ثوبها فصاحت بانفعال  :

“اخرسوا . أنه ابني ..”

خيم الذهول حولهم فيما تدلت أفواههم إلى الأسفل من فرط الصدمة التي جعلت نور تقول بآلية 

” كيف .. لقد كدتِ تزوجيني به .. كيف..؟”

قاطعتها كلمات فريال المقهورة :

“أباكِ كان رجُلاً ظالماً لقد طلقني من زوجي و تزوجني عنوةً بعد رهانٍ قذر فاز به ضد محسن زوجي .. لقد كانوا يلعبون القمار سوياً و قد جعله والدك يخسر كل شئ و حين أراد محسن أن يلعب مرةً أخرى ليسترد ما فقده . راهنه على! و فاز بالخديعة والكذب و بسببه تركت ابني أشرف بعد أن هددني بقتله. أخفيته عن الأعين حتى أستطيع حمايته من بطشكم …”

هتف زين بصدمة
“ما تقولينه يتجاوز حدود العقل والمنطق و كيف كنتِ ستزوجينه من نور .. إنهما أشقاء ..”

بصقت الكلمات من فمها بوجه نور الممتقع من هول ما يحدث حولها
“نور ليست ابنتي !”

دوي ضجيج قنبلتها في المكان حولها حتى تحولت أوجه الجميع إلى حجارة من فرط الصدمة إلا هو فقد قال بلهجة فظة آمرة:

“أكملي “

انصاعت له بعد أن ألقت بجسدها فوق أحد المقاعد وهي تروي مأساة حدثت قبل أعوام
“أنها ابنته من تلك المرأة التي كان يُحِبُها قبل الزواج بي ولم يستطِع الزواج منها بسبب عدم موافقة والده .. لذا تزوجها سراً لخمس سنوات وقد كان يشترط عليها ألا تحمل خوفاً من أن يعلم والده وقد وافقته علي ذلك إلا أن الحمل حدث وقد غضب والدك بشدة و ضربها بقسوة فغادرته و أخذ يبحث عنها كالمجنون بكل مكان ليجلبها معه إلى عائلته بعد أن مات والده و ما إن وجدها كانت في شهرها السابع و كانت حالتها الصحية سيئه فقام بوضعها في المشفى و قد رأي الطبيب أن حالتها لا تحتمل الإنتظار و قرر أن يولدها خاصةً و أن الطفل كان مُكتمل و قد ماتت أثناء عملية الولادة تاركه طفلة صغيرة خلفها . ولكونه كان شخصاً قاسياً فقد استبدلني بها بعد أن فاز بذلك الرهان القذر و أجبرني ألا أتفوه بحرفٍ من هذا أمام أحد و أن أربي نور كابنتي أو يقتل أشرف . “

انهالت كل تلك الحقائق فوق رأسها كالصخور التي حطمت ثباتها فشعرت بأقدامها تتلاشى تزامناً مع شهقات الاستنكار التي انبثقت من بين شفتيها رافضة كل ما يحدث أمامها فكادت أن تسقط لولا يداه التي احتضنتها مانعة انهيارها فقد كان مظهرها مُريعاً و هي تُحرِك رأسها يميناً و يساراً رافضة تلك الحقائق المروعة والتي قلبت حياتها رأسًا على عقب .

-“نور . اهدئي رجاءً”

هكذا تحدث فراس بقلق قلما يظهر عليه فقد كانت بين يديه كروحٍ مذبوحة تُرفرِف حتى تلفظ أنفاسها الأخيرة فشدد من احتضانها ليُجنبها السقوط أمامهم وقد انشق قلبه لألمها العظيم و الذي سكبته في حروفها المنحورة
” أجل . تلك هي القصة الصحيحة . أجل أنا أصدقكِ . بالأساس كان قلبي يشعر . “

صمتت لثوانٍ تحاول تفادي تلك النهنهات التي تخرج من قلبها الذي سُفِكت دمائه بأبشع الطُرق ثم استطردت قائلة بلوعة
لم أشعر يوماً بأنني ابنتكِ .. لطالما كُنتِ قاسية و جافة . و كنت أتساءل كثيراً هل أنا شخصاً سيئاً كي تكرهينني و تعامليني بتلك الطريقة ؟

مزقت ثوب الألم بضحكةٍ ساخرةٍ وهي تُضيف بحُرقة
بالله عليكم أخبروني أي أم تلك التي تترك ابنتها محمومة و تذهب للتسوق ؟

كانت تُناظرهم بنظرات ساخرة ولكنها حوت أطنان من الألم بين طياتها فلم يعُد يحتمل رؤيتها بتلك الطريقة التي سحقت قلبه فشدد من احتضانها ليلتصق ظهرها بصدره وهو يقول بخشونة :
“كفى نور . أنها لا تستحق دمعة واحدة من عينيكِ.”

لم تلتفت إليه بل كانت نظراتها منصبة على فريال التي تناثرت عبارات الذنب من عينيها وخاصةً حين أضافت نور بأسي:
“أنت لا تعلم شيئاً .. لم تقتصر معاناتي معها إلى هذا الحد . لقد استكثرت علي أن أعيش بسلام فحاولت تضليلي باختلاق القصص والأكاذيب تجعلني أكرهك و أساعدها في أذيتك ! “

باغتتها كلماته القاسية حين قال
“بلى أعلم كل شيء …”

التفتت بصدمة تُناظره باستفهام صاغته شفتاها في هيئة حروف مبعثرة
“ك. كيف . ذ . ذلك؟”

أخيراً استطاعت جليلة الحديث قائلة بانفعال

“رجاءً يجب أن يعلم الجميع الحقيقة لم يعد هناك مجالاً للكذب”

شاطرها زين الرأي  :

“نعم يا فراس . نُريد معرفة كل شيء الآن “

التفتت عيناه تُناظرها باهتمام تجلى في نبرته حين قال

“هل ستكونين بخير؟ “

أومأت بصمت بينما هي تحترق من الداخل ولكن ما الذي يُمكِن أن يحدُث أقسى من ذلك ؟

أطلق نفساً قوياً قبل أن يتقدم ليُجلسها على الأريكة وهو بجانبها وعيناه تُطمئنها بأنه لن يترُكها أبداً ثم التفت إلى فريال لتتبدل نظراته إلى أُخرى مُحتقرة تشبه نبرته الفظة حين بدأ بسرد كل شيء :

“لقد أخبرني عمي قبل موته بأن نور ليست ابنة تلك المرأة. “

شهقت نور بصدمة فحاول ألا ينظُر إليها بل تابع بقسوة
-“و طلب مني

“و طلب مني حمايتها و قد وعدته بذلك فقد كان يعلم أن تلك المرأة لا أمان لها . و قد صح ظنه فقد حاولت قتلي .”

شهقات متتالية و عبارات استنكار مزقت أفواه الجميع بينما اشتدت يديها الممسكة بخاصته فضغط برفق فوق كفوفها قاصدًا تهدئتها ثم استطرد قائلاً بجفاء 

“كنت أشك بأنه هُناك خائن في الشركة ولكني لم أكُن مُتأكد من هويته وقبل سفري بثلاثِ أيام وجدت لورا تأتي إلى الفندق الذي كنت أجتمع به مع رجال أعمال و حاولت إغوائي .”

توقف لثوانٍ حين شعر بيديها تُريد أن تنسلخ عن خاصته فلم يُمهلها الوقت لذلك فإذا بذلك الوغد شاهين يُرسل له غمزة وقحة جعلته يُقسم بداخله أن يُحطم وجهه عقاباً له ولكن ليس الآن .

_تأكدت ظنوني بأنها خائنة و لكنني كُنت أود معرفة لصالح من تعمل ولذلك حاولت أن أُسايرها فقد وضعت جهاز تتبُع بهاتفها حتى أتمكن من الإيقاع بشريكها و الذي اتضح بعد ذلك أنها فريال..

أظلمت نظراتها نحوه و اشتدت شراستها بينما تحولت نظراته إلى ساخرة مُحتقرة حين أردف بجفاء  .

_ طلبت منها بأن تُرافقني إلى سفري حتى تتخلص من كلينا بعد أن أخبرتها لورا بأنني مُسافراً إلى روسيا لإتمام صفقة سلاح و ليس الهند كما كنتم تعلمون وقد ضللتها بتلك الوثائق المُزيفة والتي ما إن وقعت يدها عليها حتى رأت أن لورا لم تعُد نافعة فأرادت التخلص من كلينا حتى تضمن أن تمحي آثار خيانتها فقد كانت تعلم كم أن لورا إمرأة ساقطة و خبيثة و لن تتوانى عن ابتزازها.

صاح زين بصدمة  :

“إذن حادثة الطائرة كانت مُلفقة من جانبها ؟ “

“نعم عمي . و كنت أتوقع أي شيء دنيء منها منذ أن سمعتها تطلب من لورا أن تضع لي المخدر في القهوة “

“و كيف فعلت ذلك فراس ؟ كيف تركب الطائرة و أنت تعلم نية تلك المرأة تجاهك ؟ “

هكذا صاحت جليلة بانفعال فأجابها فراس بحدة :
“كنت أسبقها بخطوة و قد خططت لكل شيء”

“كيف ذلك ؟”
هكذا تحدثت زين باقتضاب فأجابه قائلاً  :

_في البداية لم أكُن أتخيل أن تبلغ قذارتها إلى هذا الحد .. ولكني كنت آخذ احتياطاتي . على الرغم أنني لم أفطِن إلى مقصدها إلا عندما أقلعت الطائرة . لقد كنت أرتدي سُترة واقية أسفل ملابسي .. و أيضاً لم أشرب القهوه بل تظاهرت بذلك وما إن صدقتني لورا حتى هبت لإخبارهم بأني أغط في نومٍ عميق فقام أحدهم بالخروج من مؤخرة الطائرة ليقوم بضربها أسفل رقبتها بسلاحه “

جليلة بقسوة :
“تستحق تلك الخائنة”

تجاهل فراس كلمات والدته و أكمل قائلاً :
“كان الثلاثة يخططون للقفز من الطائرة قبل أن تنفجر بنا أنا ولورا وحين كانوا يرتدون سترات القفز قمت بإخراج سلاحي و لكمت الرجل الذي أمامي في مؤخرة رأسه و نزعت سترة القفز من يده ثم دفعته ليقع فوق الإثنان الآخران و قمت بارتدائها وأنا أهددهم بإطلاق النيران ما إن حاول أحدهم الحركة ثم وقبل انفجار الطائرة بخمسون ثانية قمت بالقفز تاركاً حياتهم للقدر يُحددها ..”

كان الجميع يحبس أنفاسه وهم ينظرون إليه وإلى ما عايشه من عذاب وضغط بينما كان هو جامداً لا يتأثر حين تابع قائلاً بجفاء:
“حين سقطت في المياة كنت مُصاباً بكتفي وأنا أُحاول القفز اصطدمت بالباب فانخلع كتفي و لكني لم ألحظ ذلك إلا عندما استيقظت على تلك الجزيرة لأرى وشوشاً غريبة لأُناسٍ لا أعرفهم ..”

صمت لثوانٍ قبل أن يتابع بنبرة جافة و قاسية
“الباقي لن يُفيد بشيء ولكني مع أول فرصة للرجوع لم اتأخر في فعل ذلك “

جاءت لهجتها جافة حين استفهمت قائلة :

“و كيف علمت أنها تحاول أن تجعلني انقلب ضدك؟”

التفت يناظرها فتفاجئ من ذلك الجمود الذي يُحيط بها ولكنه أجابها قائلاً

“كان هدفها الأول التخلص مني حتي يرِث إياد كل شئ لذا حين جاءتني لتُدافع عنكِ كان ذلك غريباً بالنسبة إلي و له تفسيراً واحداً أنها لا تُريد أن تفسد علاقتي بكِ حتى تستخدمك لتحقيق انتقامها . وقد حدث ذلك ..”

زفر بقوة قبل أن يتابع بخشونة :
“كنت أُراقبكِ وأراقبها و قد صح ظني حين شاهدت تخبُطكِ و كأنكِ تائهة لا تعلمين أي الطرق عليكِ اتخاذها ولهذا وضعتكِ تحت الاختبار . “

يعلم أنه بصدد خسارتها ولكن يجب أن تنقشع تلك الغيمة من حياتهما للأبد .

“أكمل ..”

هكذا تحدثت بجفاء ليُكمل مُحاولًا اختصار تفاصيل كثيرة لها وقعها الخاص على قلبه:

“وضعت أمامكِ الأوراق حتى أرى ردة فعلكِ على الرغم من أنني كُنت أعلم أنكِ لن تفعليها ولكن الأمر لا يُخصني وحدي فكان علي فعل ذلك”

كانت الحقيقة وقد أراد أن يُخفف من وطأة ما حدث بينما لم يُبدِ عليها أنها تأثرت حتى لذا استطرد قائلاً بحنق:

“و قد صح ظني حين جلبتي الأوراق دون أن تأخذي نسخة عنها بينما وضعت الأوراق الخطأ في مكان آخر لعلمي أنها لم تعتمد عليكِ وحدكِ هي فقط تريد أن تُرسِل البلاغ باسمكِ لكي تضعكِ في مواجهتي و تنأى هي بعيداً عن أي خطر ..”

صوت ارتطام قوي جذب أنظارهم ليجدوا ساجد الذي خر على ركبتيه ليصطدم بالأرض الصلبة وهو يقول بنبرة فاقدة للحياة :
“كيف تكونين بهذا السوء ؟ كيف استطعتِ خداعنا جميعا بتلك الطريقة ؟ “

الآن تنبه الجميع إليه في خضم كل تلك الأحداث لم يُفكر أحد به فهبت نور مُهرولة إليه تزامناً من اقتراب فريال منه ولكن نور كانت قد سبقتها لتحتضنه بقوة وهي تقول في محاولة منها لمواساته
“اهدأ حبيبي .. أنا بجانبك..”

آلمها قلبها كثيراً عليه فهو أكثر من يهمها بين أولئك الناس فاقتربت منه تحاول احتضانه ولكنها تفاجئت بنور التي دفعت يدها بقوة توازي قوة نبرتها حين صرخت بها قائلة:
“ابعدي يديكِ عن شقيقي .. “

فريال بصدمة
“ماذا تقولين ؟ “

نور بقسوة نابعة من ألم قلبها الذي حطمته تلك المرأة لسنوات :
“سمعتِ جيداً ما قلته .. ابعدي يدك عن شقيقي وإياكِ و الأقتراب منه أبداً “

رغمًا عنها كانت هُناك بعض المشاعر لتلك الفتاة التي ربتها لسنوات لذا قالت بتوسلٍ :
“نور رجاءً اسمعيني أنتِ لا تعرفين ماذا فعل بي والدكِ ؟”

نهرتها نور بقوة :
“ولا أريد أن أعلم وإن كنتِ تظنين أن والدي قاسي فأنا ابنته و قد أشبهه كثيراً لذا ابتعدي عني و عن أخي إلى الأبد ..”

أفرطت عيناها في ذرف العبرات حين علمت أن طريقها أصبح مسدوداً مع نور فالتفتت إلى ساجد قائلة
“بني أرجوك اسمعني..”

نهرها الصبي بصوتٍ جريح يشبه قلبه تماماً  :

“ابتعدي عني . لست ابنكِ ، أنتِ كاذبة و قاتلة وأنا أكرهكِ ..”

تساقطت عبراته وهو يحتمي بين أحضان نور التي شددت من عناقه حين سمعت توسله الجريح  :

“نور لا تدعيها تقترب مني أرجوكِ..”

نور بقسوة أطلت من عينيها أولاً :

“سمعتِ يا سيدة فريال الصاوي …”

كان اسم عائلتها له وقع غريب على مسامعها فقد مضى زمن بعيد مُنذ أن ناداها أحدهم بهذا اللقب الذي جعل فراس يقترب منها قائلاً بفظاظة:

“انتهى دوركِ في هذا المنزل و إكراماً لنور و ساجد لن أُلقي بكِ في السجن لذا ارحلي من هنا …”

_ اذهبي بعيدًا إلى أقصى ما يُمكنكِ الابتعاد ..

كان هذا صوت ساجد الذي تحدث بانفعال قبل أن يُهرول إلى الأعلى تاركاً نور التي ناظرتها بألمٍ حاولت قمعه خلف سياج القسوة :
“اذهبي حتى لا يطالكِ أذانا . فلا أحد هنا يرغب بوجودكِ .”


مر شهراً كان كعقاب بالنسبة إليه فمنذ أن غادرته وهو كالتائه الذي لا يعلم أين وجهته ولا يستطيع الاقتراب منها فأخذ يدور حول نفسه كالأسد الغاضب على الرغم من أنه والغضب لم يكونا أصدقاء أبداً ولكن غيابها كان قاتلاً .. فحتى لو لم يكن بينهما أي حديث ولكنه كان يعلم بأنها بجواره يكفيه ذلك حتى يشعر بالراحة التي لا تتحقق سوى معها .
أصوات جلبة في الخارج جعلته يخرج من مكتبه ليندهش وهو يشاهد والدته الباكية ووالده الذي كان يصيح بانفعال:

” لستِ أفضل من فريال فأنتِ امرأة قاسية وأم متجبرة بل أنتِ لا تصلحي لتكوني أم بالأساس. وأنا لم أعد أحتمل وجودكِ بحياتي و ما يجعلني أتحمل هو أولادي و اسم عائلتي لذا لا تقتربي مني أكثر..”

رغماً عنه شعر بالألم لأجلها فأجبر نفسه علي التدخل قائلاً بجفاء
” ما الذي يحدث يا أبي ؟ لما تصرخ هكذا ؟”

التفت إليه كلاهما زينات بنظرات مفعمة بالألم والحسرة وزين بنظرات غاضبة و نبرة تشبهها حين قال :
” انظري أنه أحد ضحاياكِ هو و زوجته المسكينة التي جعلتيها تشبهكِ بكل شيء حتى يكرهها مثلما يكرهكِ ..

تحدثت من بين نهنهات متقطعة
” لم أقصد . أقسم لك .. “

قاطعها زين بانفعال
” لا تقسمي. أعلم كل شيء كما أعلم كم أنتِ نادمة الآن ولكن لم يعد هناك مجال للسماح فقد تجاوزت أخطاءكِ حدود المسموح به .”

تدخل شاهين بجفاء يتنافى مع ألمه مما يحدث
“يكفي يا أبي . “

تفاجأ من زين الذي التفت إليه صارخاً بغضب مستعر  :

” و أنت يا غبي لمَ لم تطلق تلك المرأة التي كل همها في هذا العالم النقود و السهر بالملاهي الليلية ؟ تجلس و تنوح كل ليلة كالنساء و لا تبدأ بفعل خطوة صحيحة علي الاقل !

زمجر شاهين بغضب :
“أبي لا طاقة لي بالحديث .”

قاطعه زين بتهكم :
“إذن فلتبقى كما أنت فغداً ستبكي بدل الدماء دماً حين تراها تتزوج بغيرك بعد أن تنتهي عدتها .”

أطلقت شياطين الجحيم من عروشها فاسودت نظراته و احتقنت ملامحه وهو يصرخ بزئير:
“ما هذا الهراء الذي تتفوه به ؟ “

زين بعفوية مصطنعة:
“ليس هراء بل حقيقة. من المجنون الذي يترك إمرأة مثل هدى ؟ أتعلم لو أنني أحد أصدقائها في العمل ؟ أو أحد أقاربها من بعيد ؟ أو حتى أحد أصدقائها القدامى لم أكن لأتركها تفلت من بين يدي..”

قال تشبيهه الأخير قاصداً وليد ليثير غيرة شاهين الذي كان ينقصه أن ينبت له قرنان ليصبح شيطاناً بالمعنى الحقيقي للكلمة فهذا الظلام و تلك العروق النافرة و هذه الهالة المخيفة التي تحيط به جعلت منه شيطاناً أطلق سراحه لتوه من الجحيم . لذا لم يتفوه بحرف بل توجه إلي الخارج ينوي ارتكاب جريمة قتل فأوقفته يد زين التي هوت على كتفه يديره إليه وهو يقول بصرامة:

“اصلح أخطائك أولاً حتى تستطيع استعادتها..”


استمعي إلي يا هناء .. لن تفلتي هذا الرجل من يدكِ أبداً هل تفهمين ؟”

هكذا تحدثت صابرين والدة هناء بغضب فهبت الأخيرة غاضبة :
ماذا على أن أفعل هل أتوسل له كي يأتي ؟
” إن لزم الأمر ستفعلين .. فكري جيداً من أين ستحصلين على رجلٍ مثله مرة أخرى ؟ أنه غني و محامي لامع و عائلته من أغنى أغنياء البلاد .. كما أنه شاب وسيم جميع الفتيات تتمنى ولو نظرة واحدة منه ..”

صاحت مغلولة:
“لا أحتاج منكِ أن تذكريني بمميزاته فأنا أكثر من يعلمها ولهذا أنا أحترق أمامكِ الآن ..”

صابرين بحنق:
“ستحترقين أكثر لو أطلقتي العنان لغبائكِ ليقودك هكذا. “

” ماذا فعلت أنا؟”
صابرين بتقريع :
“فعلتِ المستحيل لتحصلي عليه حتى أنكِ لازمتي المنزل لأكثر من ثلاثة أشهر حتى تظهرين أمامه بمظهر الفتاة الهادئة المحترمة و الآن بكل غباء تظهرين وجهكِ الحقيقي و تتشاجرين معه لأجل السهر و التسكع مع أولئك الحثالة ؟ أوا تسألين حقًا ماذا فعلتِ؟”

هدرت بانفعال:
“لقد مللت يا أمي لا أجيد الجلوس في المنزل هكذا و أيضاً أنا غاضبة منه كثيراً فمنذ أن عدنا من ذلك المسمى بشهر العسل لم نخرج ولم يأتيني سوي مره واحدة فقط و تشاجرنا بسبب تلك اللعينة وقام بصفعي .. إضافة إلى أنه يريد مني الإلتزام في البيت كإمرأة عانس.. لا خروج ولا سهر ولا أي متعة .. هذه ليست الحياة التي كنت أظن أنني سأحياها برفقته . “

” منذ أن كان عمركِ ثمانية عشر عام و أنتِ تخرجين و تسهرين كل يوم ألم تملي من فعل تلك الأشياء اللعينة لمدة عشر سنوات ؟؟ “
هناء بانفعال :
“هذه هي حياتي و لأجل ذلك تزوجته.. لكي يوفر لي الإمكانيات لعيشها بطريقة أفضل ..”

زفرت صابرين بتعب قبل أن تصيح:
“إذن سيضيع شاهين من يدكِ وحينها ستخسرين .. ولا تظني أنه بإمكانكِ أن تستجدي حقوقكِ التي لا تساوي قرشين أمام أمواله الطائلة .. “

داهمتها حوافر القلق فأخذت تشرد أمامها وهي تفكر في حديث والدتها التي قالت جفاء:

“فكري ملياً واعلمي أن هذا الرجل ذكيٌ جداً فهو يمهلك الفرصة كي تكوني مثلما يريد و أن تماديتي أو فكرتي بخداعه سيلقي بكِ عند أول مفترق طرق و لن يتلفت إلى الوراء أبداً..”

” غريب من أين عرفتي أني أنوي فعل هذا؟”
هبت المرأتان من جلستهن حين جاءهن صوت شاهين الذي استمع إلى كل حرف تفوهت به و علم حقيقة رغبتها في الزواج منه فشعر بالنفور من تلك المرأة الحقيرة التي لا يعلم أي بلاء جلبها على رأسه

” شاهين دعني أشرح لك ..”

هكذا تحدثت هناء بتوسل يشوبه عبرات غزيرة لم تحرك به ساكناً فقد شملها بنظرة طويلة محتقرة توحى بأي طريقة أصبح يراها :

” لا داعي للشرح يا هناء فقد أرحتني وأنا الذي أتيت الطريق بأكمله أفكر في طريقة أخبركِ بها بأنكِ أسوأ شيء فعلته بحياتي ولكنكِ قطعتي علي طريق طويل من الحديث الذي لاتستحقينه لذا أنتِ طالق ..”

شهقت بصدمة و تدخلت والدتها في محاولة لتهدئة الأمور :

“شاهين يا بني. لا تُحل الأمور هكذا . الرجل و زوجته يحدث بينهما الكثير ..”

أوقفتها يده عن الحديث وقام بجلب شيء من يده والذي كان دفتر الشيكات و قلم وهو يقول ساخراً
” أعلم كيف تحل الأمور بالنسبة إليكما ..”

قدم إليها شيكًا كان به مبلغاً كبيراً من المال جعل عيناها تبرقان وهي تمرره لابنتها التي قالت مغلولة
” هل ستعود إليها مرة أخرى ؟”

شاهين بسخرية
” وهل غادرتها حتى أعود إليها؟ “

و كأنه غرز خنجراً في قلبها فأوشكت على الحديث فلم يتِح لها الفرصة حيث قال بقسوة أرعبتهم

” ستخرجين من حياتي كأنكِ لم تدخليها أبداً و تذكري أنني حللت كل شيء بهدوء فلا ترغميني على أشياء سيئة لا أحب فعلها..”

انهى كلماته و قام بالالتفات مغادراً وهو يقطع تلك الصفحة من حياته للأبد أو هكذا ظن فبذور الشر التي غرسها بحياته لن يكن انتزاعها سهلاً فما أن خرج حتى صرخت هناء بقهر
” أقسم لن أجعلك تتهنى معها ليومٍ واحد …”

الثاني عشر كواسر

لا أُريد خسارتك..
”  تلك الجملة التي صفعني بها قلبي بعد أن أصبحت قاب قوسين أو أدني من تحقيق انتصارًا عظيم بتجاوزك . ليعيدني مرة أخرى إلى أسوأ مرحلة بحياتي وهي انتظارك ..”

نورهان العشري

ترجلت من سيارة الأجرة عائدة من عملها الذي كان الشئ الوحيد الذي يخفف من وطأة ذلك الألم الرهيب الذي يغزو قلبها بضراوة ولا يفلح معه أي مسكن . فكيف لقلب أن يسكُن بغياب وتينه ؟

صفعتها حقيقة أن غيابه لا يُحتمل وهي التي ظنت أن جرحه لها سببًا كافياً لجعلها تكرهه ولكن اتضح أنها مخطئة و أن قلبها بالرغم من كل شئ لازال يعشقه و يشتاقه حد الجنون و خاصةً حين علمت أنه طلق تلك المرأة. لا تنسي انتفاضة قلبها الذي كان يرقص فرحًا بداخلها بينما هي خارجيًا جامدة لا تتأثر أمام أعين زينات التي فاجأتها منذ عدة أيام بزيارة غير متوقعة

عودة لوقت سابق

فتحت باب الشقة لترى من الطارق فتسمرت وهي تري زينات أمامها فتوقفت لثوان محتارة ماذا تفعل و كان الصدمة شوشت تفكيرها فجاءها صوت زينات المنكسر
” هل ستدعيني ادخل أم ستطرديني ؟! “

شعرت بالحرج من كلماتها فأجابتها بلهفه
” ما هذا الحديث . تفضلي ..”

دلفت زينات برفقتها الي غرفة الصالون و ما أن جلست حتي سألتها هدى:

“سأحضر لكِ قهوتك..”
قاطعتها زينات بلهفة :
“لا . لا اريد شيء . فقط اجلسي اريد الحديث معك “

جلست هدي بهدوء وهي تحاول إخفاء دهشتها من نظرات زينات المنكسرة و توترها الملحوظ فقد كانت تلك المرة الأولي التي تراها بتلك الهيئة !

” اعلم انكِ مندهشة من زيارتي و تتساءلين عن سببها ..”

تعثرت الكلمات على شفتيها من فرط الحرج ولكنها بالنهاية قالت بجمود :
“في الحقيقة ، أجل  ..”

“إذن سأدخل في الموضوع مباشرة . لقد كنت اغار منكِ يا هدى . لا تندهشي. هذه هي الحقيقة فقد كنتِ مرآة لعيوبي أمام شاهين . كنتِ النقيض لي في كل شيء و قد جعله هذا يتعلق بكِ كثيرًا حين رأيت تعلقه بدأت أن استوعب أنني فقدت طفلي و بدلًا من أن احاول استرجاعه حاولت أن أفسد العلاقة بينكم ..”

يحدث أن يكرهك أحدهم ليس لانك شخص سئ بل لكونك جيد بالقدر الذي يجعله يري مدي بشاعته …
نورهان العشري

كان إقرارها بذنبها أمرًا مثيرًا للدهشة التي تعاظمت ما أن رأت بعض العبرات تنساب من مقلتيها وهي تتابع بندم:
” كنت أعرف أني مهما حاولت الحديث لن يسمعني لذا
نفذت مرادي عن طريقك . و جعلتك نسخة من تلك المرأة التي يكرهها وهي أنا ..”

رغمًا عنها تأثر قلبها بحديث زينات و ندمها المُتجلي بوضوح في نظراتها و ملامحها فحاولت أن تُخفف من وطأة الأمر قائلة :

“لم يكن الذنب ذنبك أنتِ فقط . فأنا أيضًا أخطأت بحق نفسي و حق شاهين . “

هتفت زينات بلهفه :
“شاهين يحبك كثيرًا . يحبك أكثر من أي شيء في هذا العالم . لقد طلق تلك المرأة .”

هبت هدى من مقعدها تحاول ألا تتأثر بما سمعته وهي تقول بجفاء:
“هذا الأمر لا يعنيني ..

زينات بتوسل :
“هدى . لا تفعلي ذلك رجاءً. اعلم انك تحبينه . و هو أيضًا يحبك ..  كما أنني أقسم لك بألا ازعجك مجددًا . سأفعل المستحيل حتى تسامحيني .”

قاطعتها هدى بألم :
” سيدة زينات أرجوكِ ..”

زينات بلهفة :
“أعلم أنني لا أجيد الاعتذار ولكنني آسفة . آسفة على كل شيء .. “

عودة للوقت الحالي

زفرت هدى بتعب وهي تتوجه الى البناية فإذا بها تسمع صوت ليث طفلها يناديها فالتفتت بلهفة لتجده يمسك وردة صغيرة حمراء يمدها إليها فالتقطتها بأعين مندهشة فإذا به يجذبها من يدها وهو يقول :
“تعالي معي ..”

أطاعته بصمت ليلتف بها إلى الحديقة الخلفية للبناية فإذا بها تتسمر بمكانها حين رأت هذا المظهر الخلاب فقد زينت الحديقة بأكملها بالورود الحمراء بداية من ممر طويل جذبها ليث للسير به لتتوقف بمنتصف الحديقة تنظر حولها بصدمة سرعان ما أذابها دفئ حضوره الذي شعرت به يكتنف ظهرها و يديه التي تسللت حول خصرها تعانقه فيما احترق سائر جسدها تأثرًا بتلك القبلة التي وشم بها عنقها من الخلف قبل أن يقترب من أذنها قائلًا بهمس محترقٍ :

“نسيت أخبارك ذلك اليوم بأنك روحي ولا يمكن لأحد أن يودع روحه بملء إرادته .. لذا أن أردتي الوداع الحقيقي فأنا أرحب بالموت علي يديكِ ..”

قشعريرة قوية ضربت سائر جسدها تأثرًا بكلماته و همسه المحترق الذي أضرم نيرانًا هوجاء بصدرها الخافق بعنف مما جعل حلقها يجف فلم تستطيع إخراج الكلمات من بين شفتيها و انصاعت لأنامله الخشنة التي وضعها أسفل ذقنها ليدير رأسها إليه ليجهز على الباقي من ثباتها بنظراته التي غلفها العشق الذي انساب من بين حروفه حين قال بخشونة:

“هام القلب عشقًا لكِ و اكتفت بكِ الروح عن العالمين ..”

شعرت بأقدامها على وشك التلاشي من فرط المشاعر الجياشة التي كان يغدقها بها في تلك اللحظة و كأن كل شئ بها كان يتآمر مع ذلك الرجل ضدها حتى أن أوجاعها حاوطها ضماد كلماته فتخدرت ، ولكن كان للعقل رأيًا اخر فلم يسكره نبيذ العشق ولا خمرته فإذا به يوقظها من لجة الهوى التي كانت قاب قوسين أو أدنى من أن تسحبها الى أحضانه لتدير وجهها إلى الجهة الأخرى بأنفاس مقطوعة و نبضات جنونية جعلت لهجتها مبحوحة حين قالت
” تعلم أن الأمر لن يفلح هكذا ..”

لم تخطئ أذانها خيبة الأمل في نبرته التي حاول جعلها هادئة حين قال:
” اعلم ذلك . و لكن اعلمي أيضًا بأن فراقنا شئ غير قابل للنقاش من الأساس . “

سعادة غامرة اجتاحت قلبها من كلماته قوبلت بغضب و استنكار من جانب عقلها الذي اهتاج من هيمنته بتلك الطريقة
“هل هو إجبار ؟ “

أجابها شاهين ببساطة
“نعم . “

تضاعف الحنق بداخلها فهتفت بجفاء :
“أتساءل كيف احتملت بغيض مثلك لعشر سنوات انا حقًا أكرهك “
شاهين بلهجة خطرة تحمل الوعيد في طياتها
لا تكررين تلك الكلمة مرة أخرى فبإمكاني إثبات العكس في هذه اللحظة ولكني أخشي أن يصاب والدك بجلطة دماغية ما أن يشاهد ما أنوي فعله”

انتفضت كالممسوسة وهي تنظر خلفها لتتفاجئ بوالدها الذي كان ينظر إليهم من نافذة غرفته المطلة على تلك الحديقة فشعرت بتيبس أطرافها من فرط الخجل الذي تضاعف حين رأت نظرات المارة إليهم فهمست بحرج
“يا إلهي أبي يرانا و الناس أيضًا تتفرج علينا بسببك”

“لم يظهر الاكتراث على معالمه بل قال بلهجة كسولة
“باستطاعتي أن أعطيهم مشهد أفضل لكي يستمتعوا بالمشاهدة أكثر .”

هدى بعدم فهم:
“ماذا يعني هذا “

أجابها بوقاحة :
“باستطاعتي تقبيلك مثلًا !”

شهقت من وقاحته و هتفت مستنكرة :
“هل أنت مجنون ؟ تريد تقبيلي أمام كل هؤلاء الناس ؟”

كان يضع يديه في جيب بنطاله و عينيه تبحران في المكان حولهم بعد اكتراث تجلي في نبرته حين قال:

” لا يهمني الناس ، و أجل ؛ يمكنني تقبيلك أمامهم جميعًا ولن اهتم لأحد . ولكني انظر إلى ما بعد التقبيل فالنتيجة الحتمية لتلك القبلة لا أحبذ أن تحدث أمام هؤلاء الناس أبداً والا ستصبح سمعتي كمحامي لامع علكة في افواه الجميع و أنتِ كسيده محترمه ستصبحين المرأة الأولى في دولتنا .. لذا هيا إلى البيت..”

كادت أن تصرخ في وجهه من فرط حنقها من وقاحته ولكنها اكتفت قائلة بحدة
” اتعلم سأقوم بإزهاق روحك فور أن نعود إلى المنزل ..”

من شدة غيظها لم تلاحظ ماقالته و الذي جعله يبتسم قبل أن يضيف بتخابث
” إذن أنت تفكرين فيما افكر به؟”

غزت الحيرة ملامحها فلم يتيح لها الفرصة للتساؤل إذ قال بمكر
” يا للصدف الجميلة فزوجتي المصون ذو تفكير منحرف !”

تعاظمت حيرتها وقد الن بنفاذ صبر:
“لا افهم شيء مما تقوله الآن ؟ ماذا تقصد ؟”

حاول قمع ضحكاته بشدة وهو يتابع خطته قائلًا بوقاحة: “اقصد أنني أيضا افكر في إزهاق روحك ما أن نعود إلى منزلنا و تحديدًا عندما نصعد إلى غرفتنا “

شهقت من وقاحته و أرادت في تلك اللحظة أن تلكمه في فمه حتى تمحي تلك الابتسامة المستفزة من على ملامحه ولكن رنين هاتفه حال دون ذلك و خاصة حين وجدته يتحدث باهتمام :
” ماذا حدث ؟ إذن هل هي بخير ؟ نعم هدى معي سأجلبها و آتي  في الحال ..”

أنتابها القلق وهي تستمع إلى كلماته وما أن أنهى مكالمته حتى هتفت باهتمام:
” ما الذي حدث ؟”

شاهين بحزن
” نور . أنها تعاني من انهيار عصبي و تهدم البيت فوق رأس فراس و تريد رؤيتك في الحال ….”


أخبرتها ذات يوم : أنا رجل سئ فلا تتورطي بي !
فأجابتني بكل هدوء : ماذا لو تورطت أنت ؟”
أجبتها بغرور : مثلي لا يليق به الوقوع في الحب !
فابتسمت بثقة و أرسلت بعينيها الفاتنة سِهام التحدي قبل أن تقول بتمهل : ” و مثلي لا يُمكِن أن تكون عابرة . فتذكر هذا جيدًا.”
و الحقيقة أنني لم أنس أبدًا فمُنذ ذلك اليوم و أنا عالِق عِند تِلك العينين التي إستقرت سِهامها في مُنتصف قلبي الذي أعلنها و بكُل طواعية أنه لا يليق به سوي الوقوع بعشقها…

نورهان العشري

كانت تقف أمام الشرفة تنظر إلى البعيد و تفكر في كل ما حدث معها ، حياتها التي تبدلت و عالمها الذي انقلب رأسًا على عقب للحد الذي جعلها عاجزة حتى عن التفكير . تشعر بأنها ناقمة على ماضيها و متخوفه من مستقبلها و غاضبة من واقعها الذي يتمثل به ! هي منذ ذلك اليوم لا تحادثه و لا تجلس بغرفتهم و تتجاهله بطريقة تعلم أنها تغضبه وقد تركها حتى تستوعب ما حدث ولكنها اطالت الأمر قليلًا للحد الذي جعله لم يعُد يحتمل هذا الوضع أو ربما أنه الشوق الذي جعله ينهب الخطوات التي تبعده عن تلك الغرفة اللعينة التي تمكث بها والتي أقسم أن وجدها تغلقها بالمفتاح هذه المرة أيضًا فسوف يهدم هذا الباب و حتى سوف يهدم هذا القصر بأكمله لم يعُد يُبالي لشيء .

وصل إلى باب الغرفة و قام بإدارة المقبض الذي انفتح بسهولة فقام بالدخول ليجدها تقف أمام الشرفة بينما تتطاير خصلات شعرها خلفها جراء تلك النسمات الباردة التي كانت تأتي من الخارج فكان مظهرها الفاتن في مواجهة شوقه الضاري و الذي تضاعف أكثر حين التفتت تناظره فوقعت عينيه على وجهها الصبوح و ثوبها الذي كان يضم جسدها بقوة جعلته يلتصق بها كجلدها تمامًا فحاول أن يخفي تأثره من فتنتها حين قال بفظاظة
“هل أنا مُعاقب أم ماذا ؟”

نور بسخرية :
“هل تتساءل حقًا ؟! “
فراس بانفعال:
“نعم ؟ هل لكِ أن تخبرِني بماذا اخطأت لتعاقبِني هكذا ؟”

نور بحنق غلفته بلهجتها الساخرة:
“الأمر مُحيرًا من أين سأبدأ يا ترى ؟ هل ابدأ بتلك اللعينة التي خنتني معهـا ؟ أو ابدأ بشكك بي و وضعي تحت هذا الضغط الذي كاد أن يقتلني ؟ أم بمعرفتك من البداية بأن فريال ليست والدتي ولم تخبرني ؟”

تجاهل غضبه الضاري وقال بخشونة:
“أولاً لم اخنك . فقد سايرتها حتى أستطيع أن أصل لمبتغاي ولا داعي للدخول في تفاصيل غير مهمة ولكنها الحقيقة لم أخونك أبدًا . “

نور بتهكم:
“و من المفترض أن أصدقك !”

فراس بجفاء:
“ستفعلين ..”
أوشكت علي الحديث فأوقفتها يداه وهو يتابع بفظاظة
نأتي لشكي بكِ كما تزعمين لم يحدث ذلك أبدًا . ولكن كان لابد لي من فعل ذلك و لكي تتأكدي فأنا وضعت المستندات الصحيحة في الخزانة لتجلبيها أنتِ .. وتركت المزيفة في مكتبي حتى تحصل عليها تلك اللعينة امل لتخبر فريال بأمرها..”

نور بعدم فهم :
“لحظة. لحظة . أليست أمل هي سكرتيرتك ؟ “

فراس بجفاء :
“نعم و قد كانت تعمل لصالح فريال . و لمعلوماتك حين ألقي القبض علينا كان البلاغ كاذباً لأن شحنة الأسلحة قد تسلمناها في ذلك اليوم الذي أتيت به إلى الشركة ..”

نور باندهاش:
“إذن أنت كنت تضلل فريال و تخطط لتوقعها .. و جعلتني بيدقًا في لعبتك .”

طافت عينيه عليها بطريقة اربكتها قبل أن يقول بخشونة:
“أن أردتي أن تعتبريه هكذا فالأمر عائدًا إليكِ..”

أظلمت عينيه قبل أن يضيف بغزل خفي أصابها بالانتشاء للحظات:
” علي الرغم بأني لم أرٍ بحياتي كلها بيدقًا بهذه الفتنة .. و إلا لما كانت الحروب توقفت أبدًا ..”

حاولت تجاهل تلك الرعشة القوية التي إثارتها كلماته داخلها مواصلة هجومها السافر حين صاحت بلهجة مهتزة:

” نأتي لأمر السيدة فريال. لماذا لم تخبرني فراس ؟”

قالت جملتها الأخيرة بعتبٍ كبير لامس زوايا قلبه فقال بنبرة متحشرجة:
” كانت وصية والدك ألا تعلمين كي لا تلومينه على موت والدتك .وقد كان الأمر يؤرقني كثيرًا و لكن كنت مكبلًا بأصفاد ذلك الوعد الذي وعدته إياه ..”

اومأت بصمت قبل أن تهمس باستفهام تعلم كم مؤلمه إجابته:
” هل كان أبي يعمل مع المافيا حقًا ؟! “

زفر بحنق قبل أن يجيبها بوضوح:
” نعم . وهو من جلب هذا البلاء علي رؤوسنـا . ولكني وصلت إلى اتفاق جيد معهم منذ زمن. “

” أي اتفاق ؟”

هكذا همست بتوسل لكي يجيبها بأي شيء يمكن أن يريحها ولو قليلًا :

” اتفقنا بأن أمرر لهم تجارة الألماس في الشرق الأوسط من خلالنا و أيضًا أعمل كوسيط بينهم و بين الحكومة لتمرير الأسلحة للجيش ..”

نور بلهفه:
” إذن أنت لا دخل لك بتلك الأعمال المشبوهة كالمخدرات و تجارة الأعضاء و..”

قاطعها نافياً :
” لا فقط الأسلحة و الألماس.. “

ارتاحت نسبيًا ولكن لم يزل قلقها ولا رفضها لتلك الأشياء فزفرت بتعب انتشلته منها لهجته الخشنة حين قال:
“والآن هل انتهينا من ذلك الخصام اللعين أم لا ؟”

همست بخفـة  :
” لا ..”

التقمت عينيه وميض المكر الذي التمع بعينيها فقال بلهجة آمرة  :
“اقتربي ..”

تلاحقت ضربات قلبها بجنون من تلك النظرات المفعمة بالشغف الذي أطل من عينيه فتمنعت قائلة :
” ماذا تريد ..”

لم يخجل من إعلانه الصريح حين قال بخشونة
” أريدك ..”

“هذا تصريح خطير . هل تعلم ذلك ؟
تدللت على أوتار قلبه الذي تأججت به نيران الرغبة الجامحة التي يغذيها عشق جارف جعله يقول بلهجة متحشرجة :
” اعلم . ولكن هل تعلمين انت ما مقدار خطورته ؟ “

كان يتحدث وهو يتوجه ناحيتها بخطوات وئيده تزيد من توترها للحد الذي جعل صوتها مبحوحًا حين قالت
” لا .. أن كنت تعلم أخبرني ؟”

نعم هو يعلم ما ترمي إليه و لكنه للآن لم يعترف به حتي لنفسه لذا قال بنفاذ صبر :
“ما الذي تريدين سماعه بالضبط ؟”
كان يقف على بُعد إنشات منها مما جعلها تنزع ثوب الخجل جانبًا وهي تضع يديها فوق قلبه الثائرة نبضاته قائلة بتحدٍ:
” أريد أن أعلم ماذا يوجد هنا ؟”

تعمد مراوغتها وهو يجيب بسخرية :
“دماء “

تراجعت للخلف قاصدة وضع مسافة بينهم وهي تومئ برأسها بحزن أطل من عينيها فآلمه قلبه وهو يهمس بخفوت
“لما الحزن ؟”

أسدل الحزن ستاره على باقي ملامحها و اصطبغت به نبرتها حين قالت :
” لا شيء ..”

أطلق الهواء المكبوت بصدره دفعة واحدة قبل أن يقول بنفاذ صبر :
” تريدين مني ما لا أملكه “

لم تستطع منع نفسها من القول بغضبٍ :

” لا أوافقك. أنت تملكه ولكنك تتبرأ منه . ولكني لا اهتم كثيرًا فلندع الأمر على ماهو عليه ولا يطالب أي منا الآخر بما لا يستطيع .. “

جذبتها يديه من خصرها بغتة لتجد نفسها أسيرة لذراعيه وأنفاسه التي كانت قريبة من وجهها للحد الذي جعلته يكتوي بسخونتها فأدارت وجهها عنه ليصطدم همسه بوجنتها حين قال :

” اعترض . فأنا أطالب بكل شئ يخصك. فأنتِ و الهواء المحيط بك ملك لي . عليك أن تفهمي ذلك . “

التفتت تناظره بندية وهي تقول باعتراض:
” حسنا و في المقابل ماذا أملك أنا ؟ “

همس بخشونة ذوبت جليد تمردها :
” لو أردتي نجوم السماء لجلبتها لكِ في الحال ..”

تماسكي يا نور. فأنت قاب قوسين أو أدني من تحقيق غايتك … هكذا كانت تحادث نفسها لئلا تقع ضحية لإغواء رجل تنحني أمامه جميع حواسها و يخشع له كل شيء بها من مجرد لمسة واحدة .

” لا… تركت لك النجوم فهي جماد لا روح فيها ولا حياة بل أريد شيئًا حيًا .. ينبض باسمي ويكون هذا كافيًا بالنسبة إلي ..”

كانت تتحدث بجرأة غير مسبوقة لها ناهيك عن ملامحها التي تضج بتحدٍ فاتن هُزِم أمامه ذلك الذي لم يتذوق طعم الهزيمة بحياته سوى أمامها لذا همس أمام شفاهها بصوتً أجش
” لكِ ما أردتي . “

أوشك على نيل مآربه و اقتناص شفتيها فأدارت رأسها للجهة الأخرى وهي تقول بجفاء:

“لا تخبرني بذلك فما أريده بعيد كل البعد عن يداك ولا تستطيع إعطاءه لي ؟ “
لن تكتفي بهزيمته أمامها فقط و إنما أرادت اعترافًا صريحًا لذا أخذ نفسًا قويًا معبئًا بأريج رائحتها قبل أن يهمس بخشونة:
” أُحِبُك…”

هتفت قائلة بحنق:
” لا تحاول فأنا أعلم جيدًا لا قلب لك من الأساس و كيف لهاديس أن يحب اصلًا ..”
أعاد كلمته بلهجة خافته :
“أُحِبُك نور ..”

ارتفع هتافها وهي تحاول التملص من بين يديه قائلة بجفاء:
” لالا لا رجاءً لا تكذب لإرضائي فقط فأنا هُزِمت و أيقنت أنني كنت مخطئة وانت لن تتغير بيوم من الأيام وسأظل عالقة في ظلامك إلى الأبد …”

قاطعها حين جذبها بقوة لتتعانق أضلعهم من شدة التصاقها به بينما كانت يديه تمسكها من كتفها وهو يزأر بقوة أرعدتها :
“أعشقك يا نور. سمعتي أعشقك ..”

تفاجئ من يديها التي امتدت تُحيط عنقه قائلة بدلال
“اعلم ..”

استفهم بغرابة :
“ماذا ؟ “

تراقصت دقاتها علة أنغام الشغف الذي يجيش بصدرها حين أعلن أنه يحبها و همست بغنج :

“أعلم أنك تعشقني ولكن أردت سماعك تصرخ بها ..”

ابتسم بخفة وهو يعض على شفتيه السفلية بتوعد شاب لهجته حين قال :

“كنتِ تخدعينني إذن! “

اومأت بدلال فهمس بخشونة
” تستحقين عقاب .. لقد اشتهيت عقابك الآن ما رأيك ؟”

لونت ابتسامه رائعة ملامحها و ذمت ثغرها الوردي وهي تقول بدلع:

” لم لا ؟ فأنا أيضًا . اشتقت لمرضاتك لي بعد ذلك العقاب المزعوم ولكن احذر رُبما أطيل الزعل هذه المرة من يعلم ؟”
همس فراس مزمجرًا :

“افعلي ما تشائين فكل ما يأتي منك علي قلبي مثل العسل ..”

احتوت كفوفها وجهه وهي تهمس بخفوت أثاره كثيرًا
” يا أسدي الجسور أحبك …”

أظلمت عينيه برغبة قاتلة فقد أثارت كلماتها زوبعة من المشاعر العاتية التي كان السيطرة عليها دربًا من دروب المستحيل فزمجر بخشونة
” اللعنة …”

لحظة خاطفه جعلتها أسيرة لسطوة عشقه الضاري الذي كان ينثره بشغف فوق شفاهها منبع ظمأه و ارتوائه فأخذ ينهل من نبيذها بتلذذ فقد كانت نورًا اضاء عتمة قلبه الذي تئن دقاته هامسه باسمها فيما تصرخ كل ذرة من كيانه مطالبة بها تلك الصغيرة التي أوقدت بجوفه نيرانًا مستعرة لا تهدأ أبدًا حتى أنه كان يخشى عليها من فرط جنونه فهمس من بين أنفاسه الحارقة
” أكاد أجن بكِ يا نور. ما الذي تفعلينه بي ؟”

تهدجت أنفاسها من فرط التأثر فهمست بخفوت:
“ابادلك ذلك الجنون فراس ..”

أخذت شفاهه تنثر ورودها فوق ملامحها وهو يهمس بنبرة متحشرجة:
“أخشي عليك من أن لا تحتملين ذلك الجنون..”

همست بخفوت :
” هل أملك خيارًا آخر يمكنه ري حبي المتعطش لك ؟”
زمجر بخشونة
“قطعًا لا ..”

همست بصوتًا عذب
” إذن أنا استسلم لقدري بين يدي أمير الظلام خاصتي ..”

اغمض عينيه يستمتع بمذاق كلماتها العذبة بينما امتدت يديها تتلمس بشرته الخشنة وهي تضيف بخفوت
_ لن تستطيع التخلص مني أبدًا ..

انفرج ثغره بابتسامة رائعة قبل أن يقول بنبرة متحشرجة
” وهل لا أعلم ..”
ترك قبله بسيطة فوق أرنبة أنفها قبل أن يضيف بخشونة:

“أنتِ كاللعنة التي سرت بأوردتي فلا استطيع التنفس بدونك أبدًا .”

” أحبك فراس ..”

لم يعد هناك مجالًا للحديث ، فلم تخلق من الكلمات ما يمكن أن تصف ما يحدث بينهما لقد توحد نبضهما في عزف نغمة واحدة كما توحد جسديهما في روح واحدة لا تبغي الافتراق أبدًا فما أن تجد الأرواح انصافها حتى يندثر كل شئ أمام ائتلافهم الذي أثمر عن عشق أهوج أطاح بكل شيء يحيط بهم فتلك المنضدة الملقاة أرضًا و تلك الزهرية المحطمة. هذه الشراشف المبعثرة و تلك الآنات التي تضج بها جدران الغرفة ما كانوا إلا لوحة حية لذلك العشق ..


” أين نور لا أراها بحثت عنها بكل مكان “
هكذا استفهمت هدى وهي تبحث حولها تحت أنظار شاهين الماكرة و الذي قال بمزاح
“هل يكون فراس ابتلعها ياترى ؟”

استنكرت هدى مزاحه قائلة :
” هل هذا وقت المزاح يا ترى ؟”
استمرت بالنداء وسط أنظاره العابثة حين أجابها
” تخمين جيد ألا تعتقدين ذلك “

إجابته بسخافة
“لا اعتقد ..”
شاهين بوقاحة :
“بلى أنا أعتقد تخيلي أن يقوم بتقبيلها فيبتلعها.. “
صاحت غاضبة:
“اصمت..”

أطلق ضحكة مجلجلة وهو يقترب منها قائلًا
“ألا ترين فمه أنه بحجم الضفدع..”

توقفت بمنتصف البهو وهي تقول بترقب بعد أن بدأت تفطن لم يحدث :
” لمَ أراك مرتاحًا هكذا ؟ ايعقل أنك ..”

” ألازلتِ تتسائلين ؟ “

قاطعها صوت فراس القادم من الأعلي و بجانبه نور التي كانت تندهش من رؤيتها بالأسفل فصاحت بفرح
” هل اجتمع شملكم  ؟”

كانت ترتجف من فرط الغضب لذلك الفخ الذي وقعت به و جاءت كلماته لتزيد الطين بلة ..
” علميًا نحن عدنا . عمليًا ما زلنا نتشاجر ..”

تجمدت من فرط الصدمة حين سمعت كلماته و سرعان ما تحولت صدمتها إلى غضب عارم و حين التفتت لتصب هذا الغضب فوق رأسه تفاجئت بنفسها تطير في الهواء وجائها صوته المشاكس ليزيد من اشتعالها

” هيا لننهي ذلك الشجار اللعين بعيد عن أعين المتطفلين “

صاح فراس بتقريع :
” أي متطفلين يا وغد؟ ألم تخدع الفتاة و تأتي بها إلى هنا؟”
أخذت هدى تركل بأقدامها هنا وهناك وهي تصيح
” نعم . لقد فعل ذلك . لقد خدعني …”

صاح شاهين بحنق من فراس:
” أصمت أيها اللعين هل تجدها بحاجة لأن تُذكرها؟”
صاحت هدى بانفعال:
” أنزلني ..”

تجاهل شاهين صراخها و التفت قاصدًا قصرهم وهو يقول باستفهام:
“هل ازداد وزنك قليلًا ؟ “

تعاظم حنقها و صاحت مغلولة و لا زالت تحاول الفرار من بين براثنه :
“ما هذا الغباء الذي تتفوه به “
استطرد قائلًا :

“لديكِ حق أنه بالفعل سؤال أحمق . ولكن لا تقلقي فقد صبت تلك الزيادة في أماكنها الصحيحة”

كان كل حرف يتفوه به يثير غضبها أكثر لذلك صاحت بانفعال
“اصمت  . اقسم لك سأقتلك .”
أجابها شاهين بوقاحة :

“أعدك سنقتل بعضنا البعض ولكن ليس أمام الجميع هكذا “

انهى كلماته و التفت إلى الجميع خلفه فقد أخرجهم صراخ هدى من غرفهم و وقفوا يطالعون ما يحدث بصدمة:
“فلتصلوا جميعكم و تدعون لي أن استطيع ترويض تلك النمرة الشرسة و إلا ستقتلني بالفعل “

تدخل فراس بمزاح:
“خذي راحتك يا هدى “
هتف شاهين قبل أن يتوارى عن الأنظار :
“لعيــن “

قهقه الجميع على ما يحدث بينما امتدت يديه تعانق خصر نور الضاحكة ليقربها منه وهو يقول بخبث
” اقترح أن نكمل ما كنا نفعله قبل أن يأتي ذلك الوغد ..”

همست نور بخجل
” فراس…”

” أمي .. أبي ..”
هكذا جاءهم صوت إياد الذي هرول تجاههم لينحني فراس وهو يحمله بين يديه وبالآخرى يضم خصر نور التي قالت بحنان
“حبيبي ..”

صاح إياد بتوسل :
“أمي أريد أخًا صغيرًا مثل صديقي أنس لقد جلبت له أمه أخًا جميلًا للغاية..”

خجلت نور من حديث إياد وخاصةً حين جاءهم صوت ساجد من الأسفل :

” و أنا أؤيد إياد بشدة . نحتاج لطفلة جميلة تشبه نور لتضئ عتمة هذا المنزل ..”

التفت فراس يناظرها بعشق فيما ازداد ضغط يديه حول خصرها وهو يقول بهمس خشن
“لا أحد يشبه نور ابداً ولكنها فكرة جيدة ما رأيك بأن نبدأ بتنفيذها الآن ..”

روت دماء الخجل وجنتيها فأنبتت زهرًا وهي تهمس
بخفوت:
” رجاءً اصمت ..”
هتف اياد بحماسٍ :
” اقبلي يا أمي أرجوكِ و سأذهب معكم و أنتما تجلبان اخي الصغير ..”

حينها لم يستطيع فراس قمع ضحكاته التي شاطرته إياها نور و كذلك الجميع .


” اتركني ايها الأحمق ..”

هكذا صاحت هدى بنفاذ صبر فلم يعيرها شاهين أي إنتباه بل تابع صعوده إلى الأعلي وتحديدًا غرفتهم ثم قام بإنزالها وهو يغلق الباب خلفه ليتعاظم الحنق بداخلها وهي تصيح :
” هل هكذا تظن أنني سأسامحك ..”

أجابها بهدوء استفزها
” لقد سامحتني منذ زمن يا هدى ..”

حاولت المناص منه بأن تدير رأسها إاىالجهة الأخرى فاوقفها وهو يحاوط كتفيها بيديه قبل أن يقول بنبرة متزنة:

” دعينا نتحدث بصراحة يا هدى . كلانا يعلم أخطاءه و كلانا يعشق الآخر . لما لا نجد ارضًا صلبة نقف عليها في علاقتنا ؟”

تهدلت أكتافها بتعب تجلي بوضوح في عينيها فقالت بنفاذ صبر :
” حسناً تريد الصراحة .. نعم لقد سامحتك . ولكني لا أستطيع أن أنسى . بالرغم من انني اعلم مقدار خطأي ولكن لا أستطيع أن أمحو من ذاكرتي انك كنت مع امرأة أخرى …”

قاطعها صوته الصارم حين قال :
” انك عنيدة لدرجة تجبرين نفسك على تحمل أشياء لا تكفي طاقتك لها..”

هدى بحنق :
” ما هذا الآن ؟”
شاهين بهمس اخترق جميع أسوارها:
” لا تجهدي نفسك أكثر . يكفي أن تسامحيني هذا ما عليكِ فعله . أما النسيان سأتكفل به  ..”

همست بلوعة
” شاهين..”

قاطعها بعشق :
” أعدك أن امحي تلك الذكريات السيئة من عقلك . فقط أعطيني فرصتي إكرامًا لهذا الحب الكبير الذي بيننا”

تململت بين يديه تحاول الحفاظ على المتبقي من ثباتها فهتفت بيأس :

” الأمر لا يقتصر على الحب فقط ! لا يستطيع الإنسان أن يحي مع شخص لا يفهمه .. “

عارضها قائلًا :
“و من قال لكِ أنني لا افهمك “

هتفت بالم:
“دائمًا ما تفسرني بصورة خاطئة .. صمتي يبدو لك كأبة و حزني يبدو لك بؤس . و تفهم ابتساماتي المحبطة على أنها رضا ! “

شدد من احتضان كتفيها وهو يقول بإصرار
” أعدك أن ابذل قُصاري جهدي حيال ذلك.”

” و أن فشلت ؟”
استفهمت بوهن فأجابها بقوة:
” سأحاول مراراً و تكراراً حتى لو تطلب مني الأمر أن اهدهدك كطفل صغير حتى تخبريني ما بك ..”

لامس بوادر استسلامها من على بعد فاقترب منها هامسًا
” الفراق ليس خيارًا مطروحًا بيننا فلن أفرط بكِ أبدًا يا هدى ..”

كانت محاولتها الأخيرة قبل أن تسقط جميع دفاعاتها أمامه فهمست بغضب مُزيف
” ما تتفوه به يُعد حماقة كبيرة ..”

هدأ قلبه بعدما رآى عينيها التي بدأت تصفو أمامه فهمس بنبرة تحمل من العشق بقدر ما تحمل من الشغف :
” اعتقد ان الوقوع بعشقك كانت أعظم حماقة ارتكبتها في حياتي …”

غافلتها شفتاها و أفصحت عن بسمة رضا لونت ملامحها الجميلة فأطلق زفرة حارة من جوفه وهو يقول بارتياح :
“يا إلهي ..
أخيرًا كدت أن أموت خوفًا من أن أفقدك ..
أحبك هدى .”

هكذا خضعت الكواسر وانتصر العشق رغم ضراوة خصمه و أشرقت هي بنورها علي دجى الظلام الذي كان ملكًا علي عرشه . و ذلك الضال الذي تمرد علي عشقها فجاب أنحاء السماء باحثًا بكل النساء عن شبيهتها .. فعصب القلب عينيها عن سواها ليهتدي أخيرًا بها و يرفع بَيرق العشق أمام تمرده .

تمت…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top