القاهرة 1030 بقلم عمرو سامي

أغسطس 2070
العالم في فوضي عارمة، انتهاك حرمات الناس الجسدية والعقلية أصبح أمرا عاديا، حتى ان الناس لم يعد منهم من يدافع عن اي حق .. بل ركنوا ورضخوا لما وجدوه قائما و تخلوا عن كل ما حاربوا من اجله يوما .

10 أغسطس 2070 – القاهرة .
تشرق الشمس علي القاهرة ككل يوم , ترسل آشعتها التى فقدت ذهبيتها على الأرض, لتجلي الليل الطويل المترامي على المدينة كلها, الناس يستيقظون بقلوب متعبة, ووجوه مرهقة على الدوام, كأن إرادتهم قد تم اعتقالها سنين طوال, حتى لفظ الحرية ذاته اصبح لديهم شبه مجهول, فقد فقدوا حرية أن يريدوا شيئا من الأساس, الواقع مرير, و المستقبل مجهول, لا يبشر بخير, يسيرون في الشارع إلى أعمالهم وكأنهم يساقون إلى عذاب قد اعتادوا حدوثه دائما, حتى ألوان ملابسهم لا تخلوا من الرمادي, بل كل الألوان فقدت نصاعتها لتظهر باهتة, و كأن ساقي أرض الألوان قد أغتيل ولم يسقها أحد من بعده, حتى أنها قد كفرت بوجودها على المبانى لتصبح جميعها ملتحفة برمادى كئيب, أو لون قرميد لم تكسوه الكآبة بعد, ولكن كساه غبار المدينة على مر السنين ليظهر هو فارضا لونه العديم, لقد كان يوما كئيبا بحق, ككل أيام القاهرة .
إن وسائل التواصل و فكرة الهواتف المحمولة تطورت واصبحت شرائحا الكترونية يتم زرعها فى الجسد نفسه, تحديدا في رأس الإنسان, و من خلال نظارة خاصة و ببصمة عين الشخص يتم استعراض ما يريد وفعل ما يشاء, وذلك بمجرد التفكير فيما يريد فعله, وبالرغم من أن ذلك التطور قد تواجد ليضمن خصوصية أكثر للناس, إلا أن كلمة خصوصية نفسها ظهرت أنها أكبر كذبة سمعناها, فالخصوصية غير موجودة .. إطلاقا .
الهوس التكنولوجي ووسائل التواصل الإلكترونية التي امتلأت بعقول وقلوب واهتمام اصحابها تفرض سيطرتها علي البشر تماما، بل إن التكنولوجيا كلها أصبحت تمتلك زمام كثير من الأمور، وأنت كآدمي .. لا تمتلك حق الرفض.
يعود ( سعيد ) من عمله مرهقا, هو لا يدري لماذا يرهق أصلا, فعمله أسهل ما يكون, مجرد موظف في مصلحة حكومية ذات جدران متهالكة كحال كل جنبات الوطن, يذهب صباحا ويعود بعد الظهيرة, لا يفهم ما الذي يرهقه فى كونه جالسا على مكتب يرد على مكالمات تافهة من رؤساء يعتقدوا أن حكمة العالم تجلت فى أجسادهم لتكون لهم أرواحا, و هم فى الحقيقة ابعد ما يكونوا عن الصواب, هل هذا فعلا ما يرهقه؟ لا يدرى, يشعر أنه يجب أن يكون مرهقا – أو هكذا جرت العادة – لذلك عاد الى منزله مرهقا – كالعادة – يفتح التلفاز – كالعادة – ليشاهد برامجا وأخبارا قد سمعها ألف مرة قبل ذلك – مع اختلاف الأسماء – ينظر لابنه الذي يلعب أمامه, لعبة أخرى تم بثها من خلال الحداثة, شيء الكترونى آخر ككل ما اصبح يعيش فيه, يشعر أنه هو الآخر قد يكون الكترونيا ولكن من نسخة أقدم,فيتبادر إلى ذهنه سؤالا .. هل أنا موجود أصلا؟ .. أم أنني مجرد أداة تؤدي دورا حري بها أن تؤديه؟
لم يفكر في الموت, ولم يؤرقه هذا الأمر أبدا بل كان يعتقد أنه السبيل الأمثل للراحة .. وحينما يأتي دوره لترك كل هذا العالم, لن يتأخر لحظة, هو يدرك جيدا أنه سيكون أسهل مما يعيشه الآن.
في تمام الثانية بعد الظهر بتوقيت القاهرة .. وجد أن شاشة التلفاز قد توقفت لبرهة, لعبة ابنه الصغير توقفت ولم تعد تفعل شيئا سوي أنها تضئ ولا تستقبل اوامرا.. ثم ظهر علي الشاشة في نفس الوقت رجلا متوسط الطول يرتدي ثيابا بيضاء و يغطي رأسه بقلنسوة من نفس لون الملابس .. و يرتدي قناعا ابيضا بالكامل مرسوم عليه بالأسود شكلا غريبا وواضحا تماما .. لانفجار نووي، وبداخله نبتة ما، نبتة خضراء لم تتخطى شفته السفلى, هذا الوجه ظهر لمدة ثلاثون ثانية .. كانت كافية تماما، ليراه ( سعيد ) ثم بدأ قائلا :
إلى كل من أراد يوماً أن يصبح حراً، حراً من عبودية السادة، الفقر، الجوع، بل و الدولة نفسها .. استعدوا جميعاً فالحرية علي وشك أن تصبح بين أياديكم، فالحرية فكرة، ولا يوجد من يستطيع أن يسلبك تلك الفكرة .. لن يصبح هناك من يجرؤ على ذلك .. فعصر النهوض قد بدأ .
اختفي .. فجأة كما ظهر، ( سعيد ) فى ذهول لم يطله من زمن , ما هذا ؟ ما الذي حدث توا ؟ كل خلايا جسده ترفض التصديق, هل ما رآه حقيقة ؟ هل هو الوحيد الذى رأى ذلك ؟ هل هو الوحيد الذي استقبل تلك الرسالة ؟ لم يستطع أن يجد إجابة لأى سؤال من تلك الأسئلة هرع إلى شرفته لينظر إلى الشارع وما وجده كان عجيبا, فكل من فى الشارع ترتسم على وجوههم نفس علامات الذهول, من الواضح أنه لم يكن الوحيد الذي شاهد ذلك, عاد التلفاز للعمل بشكل طبيعي ولكن الغريب أن الأخبار العالمية قد أذاعت أن شخصا بنفس تلك التفاصيل قد ظهر علي شاشات كل الدول .. ليُحدث كل دولة بلغتها، و ينطق بنفس الكلمات .. هذا الرجل حرفياً .. قد اخترق ذكاء العالم .

20 أغسطس 2070 – القاهرة .
عشرة أيام مرت علي ظهور المقنع، العالم في فوضى لا تهدأ .. بل من كثرة الكلام وصل الأمر أن بعض الناس قد شككوا به، قالوا إنه مزحة ثقيلة، لا أساس لها في الواقع .. ولكن صيته الذي ذاع وقدرته علي الظهور علي كل شاشات العالم محدثا كل دولة بلغتها، جعل منه لغزا محيرا، ثم وبدون سابق إنذار، ظهر مرة أخري .. نفس الشخص، مرتديا نفس الملابس، ومازال قناعه علي وجهه يخفيه، وتلك النبتة التى تخطت شفته العليا فى مكانها , وجد (عبد الحميد) نفسه مشدوها و منتظرا كلماته , هذا الرجل الذى ظل طول عمره يعمل في هذا المقهي الذي يعد الأقدم بين مقاهي المنطقة , آلام ظهره التى زارته من أثر وقوفه على (النصبة) ليجهز الطلبات للزبائن, وعرجة قدمه من إصابته في حرب الحدود, تلك التى شنتها الدولة مدافعة عن حدودها وقد استطاعت الحاق الهزيمة بالعدو .. وبـ (عبدالحميد) أيضا, يشعر أنه مهدور و مقتول فى هذا الوطن وهو على قيد الحياة , عندما تخرج من الكلية و حصل على شارة التعليم العالى كان يظن أنه سيعمل فى شركة محترمة تكفل له الحياة الكريمة .. ولكنه لم يكن يملك أى خبرة تؤهله لذلك, لم يستطع أن يكون من أصحاب المحسوبيات, بل أن الوحيد الذى أظهر له الرحمة من أصحاب العمل هو (المعلم) صاحب المقهى, وجعله يعمل عنده بمبلغ قد لا يكفيه, ولكنه يضمن له على الأقل أن يعيش, دون ذكر أن يعيش بكرامة أو بدونها, هو فقط يعيش.
عندما رأى المقنع فى أول مرة شعر بالأمل ينساب الى قلبه, شعر بأن هناك فرصة حتى لو على سبيل حياته نفسها, شعر أنه عن قريب ستكون له قيمة, لذلك وقف ينصت للمقنع بكل حواسه , ثلاثون ثانية وبدأ المقنع بعدها الكلام, ووقف العالم كله ليسمع :
إلي كل حاكم مستبد، و إلى كل ظالم، وكل مالك للمال يستعبد الناس، لن يكون هناك تحذير، بل الإبادة الجماعية لكل من هم على شاكلتك ستبدأ، لا مجال للغفران، فخطاياكم لا تُغتفر .
اختفى، مرة أخرى لا يترك أثراً، بل ترك خلفه كثيراً من علامات الاستفهام، وأسئلة .. ليس لها إجابة, وترك شيئا آخر .. ابتسامة على وجه رجل يقف على (نصبة) أقدم مقهى فى المنطقة , اسمه (عبدالحميد) .
لا يعلم الناس من أين جاء أو إلي أين ذهب .. بل كل ما يدركونه أن هذا المقنع قد يحمل الأمل, قد يكون هو طوق النجاة الأخير من هذا المستنقع الذي يعيشون فيه .. بدأت تظهر تجمعات لتساند هذا المجهول .. متمنين أن يكون قادراُ علي إعطائم ما يريدون .. الحكومات بدأت تتزعزع إثر ظهور هذا المجهول .. الناس ثقتهم بأنفسهم بدأت في التزايد بل أصبح هناك من يطالبون بحقوقهم – على غير العادة – مما جعل رد فعل الدول عنيفا و أصبح العالم علي شفا حرب .. حرب عالمية ولكنها غريبة تلك المرة .. فالخصوم هنا ليسوا جيوشا, بل الخصوم هم المواطنين أنفسهم .

1 سبتمبر 2070 .
مناوشات و أحداث شغب كثيرة ما زالت تحدث في كل أنحاء العالم إلي أن ظهر المقنع مرة أخرى علي كل الشاشات .. لم يتكلم لمدة ثلاثون ثانية .. ثم قال :
أيها ألأحرار .. حان الوقت .. لتأخذوا ما هو لكم, لتزعموا أنفسكم, حان الوقت لتمتلكوا هذه الأرض .. سنرسل لكم مفاتيح حريتكم الآن .. فاختاروا جيدا الي اي جانب ستكونون .. فلن تكون هناك خيارات اخرى .
وفجأة وجد الناس أن شرائحهم الإلكترونية تشعرهم بأن هناك رسائلا قد وردت, استعرض البعض تلك الرسائل على شاشات نظاراتهم و على شاشات التلفاز أيضا ليجدوا أنها على شكل بريد مغلق ينتظر إذن الفتح, معنون بعنوان غريب, كان العنوان هو.. صك الحرية .
نشرات الأخبار العالمية تذيع ما يحدث فى التو و اللحظة .. العالم الآن مليء بصكوك الحرية تلك, الناس قد انقسموا ما بين مصدق لهذه الفكرة, و ما بين مكذب لها معتقدين أن الحكومة تريد مزيدا من القمع فتحاول التنقيب عن النوايا التى تريد الانقلاب عليها لاقتلاعها, لا أحد يعلم الحقيقة .. الكل خائف .. العالم يرتجف حرفيا .. حكومات و محكومين .. حسنا .. انها بوادر النهاية .

فتح ( خالد ) رسالة صك الحرية التي وصلته و هو يرتجف من الخوف .. الخوف .. تلك الكلمة التى أرقته كثيرا, تلك الكلمة التى تركت معانيها على جسده, بل و أصبح هو الآخر شكلا من أشكالها, لم ينسى أبدا زوج أمه عديم الرحمة, لم ينسى نهيقه الدائم – كما يحب أن يطلق على صوته العالي – وتعديه عليه وعلى أخته بالضرب و السب, لم ينساه وهو يضرب أمه أمامه ويجبره على المشاهدة, يوثقه بالحبال ويربطه إلى كرسي ليشاهد كم الإهانات التى تتلقاها أمه, لا يعلم لماذا دائما كان يريد أن يكسره و يذيقه كؤوس الذل تلك .. لا يعلم لم لا تكفل لهم الدولة عيشة كريمة .. ألم يكفي هذا الوطن ضريبة فقدهم لأبيهم فى حالة إهمال المسئول الأول و الأخير عنها وهو الوطن ذاته؟
أباه لم يكن سوى موظف مات فى حادث قطار ككل حوادث القطار التى تختطف من الناس أحبائهم و أهلهم, كمثل تلك الحوادث التى تدمي القلوب لتدمع على أثرها العيون, أمه لا تملك ما يؤهلها للعمل, فتعتمد على هذا الخنزير ليطعمهم, أظهر الحسن فى باديء الأمر, حتى وصل الحال الآن لما هم فيه, لم يستطع أبدا أن يزود عن أمه أو أخته التى كان يطالها الأذى هي الأخري, ضعف بنيته كانت السبب وراء تجبر هذا المعتوه زوج أمه, الذكريات تطارده , يحاول ان يأذن الى شاشته ليفتح صك الحرية, لولا ان فرت من عينه دمعة مثقلة بهم كبير, تذكر .. تذكر أمه التى لم يكن لها ذنب فى تلك الحياة سوى أنها تزوجت رجلا كهذا, تذكرها وهي تبكي عندما ضربها آخر مرة .. كانت بالفعل آخر مرة, فقد أمسك هذا المعتوه رأسها وظل يضرب بها الحائط حتى فقدت القدرة على المقاومة تماما .. كان ( خالد ) يحاول الدفاع عن أمه, لولا أن زوجها لطمه لطمة أسقطته مغشيا عليه, ساعات مرت و قد أفاق ليجد نفسه فى فراشه, الجيران حوله يبكون .. قام مهرولا من سريره والطريق ترسمه له دموع عيناه, ليذهب الى حجرة أمه فيجدها ممدة فوق فراشها و قد تم تغسيلها و تكفينها و لم يظهر الا وجهها, نظر إليها يستجدي منها الروح فى أي عبرة من عبراتها, لا يريد أن يصدق أنه قد فقدها هي الأخرى, نظر لها ورآها تبتسم كما عهدها دائما .. بكى بحرقة كادت منها دموعه أن تذيب لحم وجهه .. بكى كما لم يبكي من قبل, لم يعلم وقتها لماذا مات أباه, لماذا رحل دون أن يترك لهم ما يحتمون به, الدموع تنهمر, لماذا لم يترك لهم وطنا يعطيهم حق الكرامة, لم يعلم هل يلوم أباه على ذلك, ام هل يلوم الله ذاته, احتضن أخته الصغرى, وقد عزم ابن الثانية عشر عاما ان يثأر .. وما أن مر اليوم الثالث على وفاة أمه حتى أخذت خالته أخته لتبقى معها .. طلبت منه أن يأتي هو الآخر ولكنه رفض .. تركته عازمة أن تأخذه فيما بعد .. عاد زوج أمه مخمورا كعادته .. دخل المنزل و قبل أن يضيء الأنوار تلقى ضربة على مؤخر رأسه .. ليسقط بعدها مغشيا عليه.
رويدا بدأ يفتح عينيه ..عقله لم يستوعب بعد ما يحدث, ما أن لبث حتى وجد (خالد) يقف أمامه وقد كاد شرار عينيه أن يشعل النار حوله, أراد أن ينهض فوجد نفسه مقيدا بسلسلة حديدية في كرسي حديدي, حاول الفكاك ولكنه لم يستطع, نظر إلى (خالد) الذي ظل محدقا فيه ولم ينطق بكلمة.. لحظات وبدأت أنفه تشتم رائحة غريبة, إنها رائحة غاز ما, التفت بخوف ليجد الموقد و قد أديرت كل مفاتيح الغاز فيه عن آخرها لتطلق له العنان, نظر مجددا إلى خالد الذي أشعل قداحة أبيه القديمة وملامحه الجامدة شقتها ابتسامة طفيفة, يشعر أنه بعد قليل سيظفر بثأره لأمه, فهم زوج الأم ما يدور فقام مثقلا بالكرسي منطلقا نحو خالد الذي تملكه الرعب من هذا الثور الآدمي, فألقى بالقداحة في الهواء موجهها إلى الموقد .. ليلتقط الغاز من لهيبها حياته, ويبدأ في الأحتراق .. فيضيء المنزل محترقا بنار غضب هذا الفتى, حاول الفرار لولا أن هذا الوحش الذي شبت فيه النار سقط عليه ليحترقا سويا .. النار تحرق جسد (خالد) ووجهه ولكن زوج أمه سقط من أثرها عليه وقد استباحت النار جسده, (خالد) لم يستطع أن يقوم بحروقه تلك ولكنه يقاتل إلى أن وقف على قدميه, الدخان الكثيف يملأ رئتيه ..يشعر بنفسه يتهاوي, قدماه لا تحملانه, سقط ليصطدم وجهه بالأرض صدمة تسيل دم أنفه بعدها .. ثم نظر إلى الباب الذي حاول أن يبلغه ليكون آخر ما يراه .. ليظلم كل شيء بعد ذلك.
أفاق فى المستشفى, مغطى بشاش أبيض كثير فى معظم جسده, سمع الطبيب يحادث أحدا وقد ذكر حالته .. سمعه يقول أن معظم جسده قد طالته النيران, ظن أنه تخلى عن خوفه بتخلصه من زوج أمه .. لكن هاهو الخوف يضرب أبواب عقله مرة أخرى .. كيف سيكون شكله .. كيف سيتقبله الناس والمجتمع .. كيف سيتقبل هو نفسه بعد ذلك .. انتظر فى المساء وفر من المستشفي .. فر بعد أن رأى مظهره الذي يحمل فيه كل معاني الخوف و الحقد ,ذهب ولم يعد مجددا.. ذهب ليقابل مصيرا مجهولا في وطن لا يعلمه .. بين شر استبان وظهر في معالم الناس و أفعالهم وفى نظراتهم .. أًصبح يخاف أكثر من ذي قبل ..أصبح يخاف حتى من نفسه, كل تلك الذكريات ألهبت ذاكرته أكثر فأكثر.. تذكر كم مرة تم رفضه من شركات عدة بعدما جاوز العشرون عاما ليعمل عملا شريفا .. يتذكر كم الإهانات التى تعرض لها على الدوام سواء فى مقابلات العمل او حتى في الطرقات .. رأى كم الخوف الذي يعتري الكثيرين عندما يرونه .. تذكر ما وجب عليه أن يفعله الآن .. لن يزيد فى خوفه شيء, سيفعلها ولتكن العواقب كما تشاء .. مسح دموعه ليرى الرسالة التى تنتظر الإذن لتعرض محتواها .. ما أن أعطي الإشارة بعقله للشريحة حتى فتحت أمامه ليقرأ ما فيها بكل وضوح ,وقد كانت …..
أخي ( خالد )
لا تعجب أن الرسالة موجهة إليك, فنحن نعلم من أنت .. وندرك ظلمك و قهرك وخوفك الدائم, لا تجزع منا , ان لم ترغب فى إكمال ما سوف يبدأ فابدأ الإلغاء ونعدك أننا لن نزعجك بنا مرة أخرى .. وإن أكملت فاعلم تماما أنه لا مجال للتراجع وقبل أن تحكم على أي شىء, انظر لوثيقتنا واقرأ ما بها جيدا .. و ابني اختيارك

صك الحرية

إن الحرية حق (مشروط) لكل انسان مهما كان لونه او دينه او عرقه, ولكن الحرية التى بلا ضوابط تؤدي الى الهمجية وعدم احترام الذات لذلك و بموجب هذه الوثيقة و بالاقرار بالموافقة على ما بها من تعليمات وتصريحات يصبح حاملها مؤهلا للوصول الي ملاجئنا و الاحتماء بنا للنجاة من الانفجار الكبير, و تلك التعليمات كالآتي :
1- اعلم تماما أننا أخوة وان ما يربطنا أكثر من دم او دين او عرق .. فنحن جميعا أنسان .
2- ليس من الحرية أن تصبح غير مسئول .. يجب ان يكون لك دورا في بناء العالم الجديد
3- سنشكل العالم و نعيده للصفر .. وستكون انت اللبنة الأولي له, فلا تنزعج من ذلك .
4- لك كامل الحرية في معتقداتك .. ولكنها ستخصك وحدك, فلا تطالبنا بها .
5- العدل سيتم تنفيذه مهما كانت الظروف .
6- سنعطيك كل شئ .. مقابل ولائك الكامل لنا .
7- لسنا متعصبين دينيين .. نحن مجرد مفاتيح للعالم الجديد .. فلا تخف .
8- بعد أن توافق علي ان تصبح أخا لنا .. وانك ستبذل كل ما تستطيع لاعادة تشكيل و بناء الارض .. سنضمن لك و لعائلتك وكل من هم من نسلك أن تعيشوا بسعادة, وفقا لقوانين الانسانية.. ومبادئنا .
9- الحرية غالية جدا .. سنبذل فيها حيواتنا ان لزم الأمر .
10- أمر المُعلم الأكبر نافذ دائما, ولا مراجعة فيه .
11- لكل منا دور يقوم به .. كلنا بنفس الأهمية .. لا نريد أن يضيع كل التقدم و العلم الذي وصلنا اليه .. ستساعدنا علي الاستمرار, انت أهم فرد فينا.
12- ان كنت طبيبا او مهندسا او معلما او صاحب اى لغة .. اعلمنا بذلك .
13- ان لم تكن لديك تلك المهن .. فأنت اللبنة الأولى, وستلقب بالبنَاء .
14- الموافقة على هذا الصك تعد بمثابة موافقة فردية إلا لمن هو مسئول عن من لم تتجاوز أعمارهم العشرة سنوات, أما من هم أكبر من ذلك فلهم كامل الإختيار .

و ذٌيلت تلك الوثيقة باختيارين, موافق ..و لا أوافق, ثم وبكل أريحية .. ضغط على زر ما .
10 سبتمبر 2070
الحماس يتزايد .. يرافقه الشك, العالم يتأرجح بين كفتي المصدق و المكذب .. لا أحد يدرك الحقيقة .. كل من وصلته الوثيقة ووافق عليها ساوره الخوف و الشك ..ولكن لن يكون هناك أخوف على الإنسان من حاضر يدمر الإرادة, أو مستقبل مجهول الملامح .. و كل من لم يوقع حتى الأن يشعر انه يفوت حدثا هااما بل و فرصته الأخيرة للنجاة .. المقنع لم يظهر .. لم يقل اى شئ, حسنا .. الأمر محتوم .. ما كان كل ذلك الا لعبة من الحكومات نفسها ليبثوا الرعب في قلوب العالم .. و لكن مهلا .. كيف للحكومات ان تبث رعبا يرافقه الأمل .. وكيف ستتفق حكومات العالم على شيء من الأساس, ما هذا الضباب الذى نعيشه .. ماهذا الأرق .. بالرغم من أنهم يريدون منه الظهور .. الا إنهم يخافون من ظهوره هذا ايضا .. لا أحد يدرك العواقب .. لا أحد .

18 سبتمبر 2070
الكل ما زال يتسائل .. العالم قلق, وفجأة يظهر المقنع بقناعه المعهود, تلك النبتة التى تخطت مكان الأنف ولها زهرة تستحي أن تظهر .. لا أحد يعلم لم كانوا يشعرون انه يبتسم بالرغم من عدم ظهور اي من ملامحه .. حتى تبسموا هم أيضا .. لم يبتسموا فقط .. بل اصبح فرحا عارما .. صيحات تعالت .. تصفيقات وصفير حاد .. يرونه البطل المخلص .. يرونه الأمل .. ثم تكلم قائلا :
آن الاوان يا اخواني .. كل من وافق علي الوثيقة قد حمل معنا مسئولية تجديد هذا العالم, نشكر كل فرد منكم مقدما .. اما هؤلاء المعاندون .. فالآن لا مجال للتراجع .. ولتدركوا تماما انكم السبب في محو الكوكب كله .. و التاريخ سيذكر ذلك جيدا .. فنحن من سيكتب هذا التاريخ الجديد .
اختفي كما هي عادته .. لم يحرك احد ساكنا .. الا انهم جميعا وجدوا رسائلا تصل لشرائحهم .. مفادها واحد ( أرض جديدة .. حياة جديدة .. آخر يوم في ديسمبر .. نهاية العالم )
أصاب الهلع كل الناس فلا أحد يدرك الحقيقة ولا احد يدرك ما سيفعله هذا المقنع .
20 سبتمبر 2070
رسائل نصية تصل على الشرائح الإلكترونية تقول ( لقد تسلمنا وثيقتك .. فلتعد نفسك أنت و من معك ولتجهزوا للرحيل ..انتظرونا ) .
1 أكتوبر 2070
مرت عشرة أيام أخرى دون أن يظهر المقنع, إرادة الناس توجهت صوبه. وتعلقت حبائل آمالهم به فقط, حتى أن بعضهم ظلوا يصلون ويدعون أن يكون سالما و بخير .. و أن يكون حقيقة وليس كذبة أخرى مبتدعة .
إن الأمل عندما تعلقه بشخص ما .. فقد وضعت كل مشاعرك الحبيسة على عاتقه .. لا تستطيع أن تقبل حقيقة فقده .. أو عدم وجوده , أنت فقط تريده بأى شكل . تريده و إن كان محض خيال .
الناس خائفون , الذعر يحفر طريقا لقلوبهم لم يعرفوه من قبل , فمعظم الناس يختفون دون ترك أي أثر , بعد أن وصلت الصكوك لكل الناس و قد اتخذ كل منهم قراره , بدأوا فى الأختفاء , حتى الجيران لا يدركون ولا يعلمون عن جيرانهم غير أنهم استيقظوا ذات صباح فلم يجدوا لهم أثرا , فما كان من الناس الا ان فسروا ذلك الأمر برمته أنه من صنع الحكومة لتقتلع أى بذرة مقاومة فيما بعد .. ولكن لم تكن هناك إجابة شافية, بكل بساطة .. لأن من اختفوا لم يظهر أحد منهم مجددا .. لا أحد .
على المقهى يجلس ( عماد ) .. ينهى مشروبه الذي قد لا يستطيع تمييز طعمه .. هو فقط شيء ساخن, لا أكثر من ذلك ..وصله صك الحرية هو الآخر, محملقا فى فراغ ما وراء عدسة نظارته .. يريد أن يوافق و لكن قلقا ما بداخله يتزايد, يتكلم مع الناس من حوله يريد أن يستشف ردود أفعالهم حول تلك الوثيقة, هو يدرك تماما أنه ليست لديه الشجاعة الكافية ليوافق .. لا يستطيع أن يفعل ذلك .. فدائما ما كان يسير خلف الجموع .. أما رأيه هو معدوم تماما, فهو لم يكن له رأيه الخاص أبدا . لا يستطيع بكل بساطة أن يتخذ قرارا .. إرادته المسسلوبة تجعله فريسة لهزائم نفسية عديدة, حتى أنه من جرائها ترك نفسه لتسير به الدنيا و تفعل ما تفعل .. أنهى مشروبه اللامعروف ذلك لينتصب قائما رافعا صوته لكل من حوله وهو يقول ..

  • حسنا .. لقد وافقت, إن كان من فعل ذلك هم الحكومة نفسها فليأخذونى من هنا, و إن كان من فعلها هو المقنع فأنا على الطريق الصواب, ولتعلموا جميعا أننى وافقت, لتدركوا اختياري و لتشاهدوا مصيري .. فمهما كان .. فهو اختياري الذى لم أختره منذ زمن طويل ..ومهما حدث , سأكون سعيدا به .
    لم يتحدث أحد .. و لم ينبس أحد بحرف واحد , فالكل كان يعيش حالة الذعر نفسها .. ولكن ( عماد ) هو الوحيد الذى أخبر من حوله باختياره الذي من المفترض أنه يخصه وحده, الخوف مازال يسيطر على الناس من أثر كل ما عانوه قبلا, ومع ذلك يتطلعون و يحرقهم الشغف .. ليعلموا ماذا سيحل بـ ( عماد) فيما بعد .
    صباح اليوم التالي كان رواد الأمس هم نفس الرواد ذلك اليوم .. فقط بدافع الفضول كانوا موجودين , يتآكلون من الداخل, يريدون أن يعلموا ماذا سيحل بذلك الرجل الذي يجلس هنا دائما, ثم كانت المفاجأة .. وجدوه جالسا, بذاته.. يحتسي نفس المشروب الساخن .. محملقا فى فضاء ما وراء نظارته .. يشعر بتيه ولا يدري ماذا يفعل حياله, يغلفه اللون الرمادى بكآبته, وصمت مطبق لا يخبر بشيء .

10 أكتوبر 2070
ككل صباح قاهري قاتم , وكأن الضوء قد نسي مهمته في تبديد ظلام الليل, فتنظر إلى السماء فلا تدري أهذا الصباح حقا؟ .. أم انه خدعة أخرى, تتسائل أين الشمس بذهبيتها, أين الدفء الذي كانت تنشره كل يوم, و كأن الليل جاثم على صدر الصباح, فالضوء خامل, و الهواء ثقيل, وكل شيء مقيت, لقد كان صباحا آخر, من أصباح القاهرة.
صمت كامل و كأن الزمن ذاته قد توقف, ليظهر المقنع على الشاشات مرة أخرى, ثلاثون ثانية .. وقناعه الذي ظهرت فيه تلك النبتة وقد صعدت على أنفه , الكل مشدوه منتظر لما سيقوله, الكل يود أن يحدث شيء, أي شيء, فأعصابهم لاتحتمل كل هذا التحرق, كل هذا الضغط النفسي و العصبي أصبح لا يطاق, في قرارة أنفسهم يتمنون منه أن يقول شيئا مغايرا, أن يقول شيئا مريحا يجعلهم يصدقون الأمل الذي أعطاهم إياه, صمت الجميع إلى أن نطق قائلا :-

  • أيها الأحرار, وصلتكم وثائقكم, و قد اخترتم ما تريدون بكامل الحرية, نعلم أنكم تتسائلون عن جيرانكم و معارفكم الذين يختفون دون ترك أى أثر, ندرك تماما هلعكم وخوفكم من أن يكون كل ذلك من فعل الحكام و الحكومة ذاتها, اطمئنوا, فنحن لسنا هم, نحن أصحاب كلمة الحرية, ولتدركوا أن من وافق على وثيقته فقد أخذناه نحن دون ترك أي أثر, و من جهر بموافقته ستجدوه مازال بينكم, لا نريد أن يكون بيننا جواسيس, لذلك من نتحصل عليه يبقى لدينا دائما, ولمن أفسد قراره في المرة الأولى ها نحن نعرض عليكم فرصة ثانية, سنرسل صكوك الحرية مرة أخرى وحيدة, مرة واحدة فقط, لتراجعوا قراراتكم التى أتخذتموها قبلا, ولتفكروا مليا فيما يجب أن يحدث, و اعلموا تماما أننا لسنا هم, وإن كنتم لا تصدقون فتذكروا ماكان يدعى .. ببرج القاهرة.
    فجأة قفز إلى بالهم هذا الحدث الذي كان كارثة فى وقتها, عندما تم تدمير برج القاهرة منذ 10 سنوات, و هو الذي كان رمزا للقوة المعمارية بل و أصبح رمزا قويا للنظام ذاته, فقد تم إضافة الكثير و الكثير من الحداثة له ليصبح المسئول الأول و الأداة الأكبر لمراقبة الشعب من قبل الحكومة, و ما أن أفصحت الحكومة عن قوتها تلك و قدرتها فى جلب كل ما يريدونه من أسرار الناس حتى تم تدميره دون معرفة الفاعل, و المقنع الآن ينسب هذا الحادث لنفسه و لجماعته, فإن كان كذلك فعلا فهو أمل جديد, و إن لم يكن .. فما هو إلا غمامة سوداء أخرى حلت على رؤوس الجميع .
    21 أكتوبر 2070
    حالات الإختفاء زادت, الكثيرون بالفعل قد وافقوا, ولكن من رفضوا أول مرة حرموا من سهولة أخذهم من بيوتهم و تم إرسال رسائل إليهم ليكون نصها :-
    ( قبلنا توقيعك, أنت واحد مننا ,استعد بمن وافقوا معك من أهلك على هذا الصك .. و انتظر توجيهاتنا قريبا)
    استقبل ( عماد) تلك الرسالة و قد هم أن يجلس على المقهى كعادته, و لكنه سرعان ما عزف عن تلك الفكرى و سار مسرعا متوجها إلى بيته, حتى لم يلقي السلام على ( عبدالحميد) الموجود دائما على نصبة المشروبات, ولكن تلك المرة كانت مختلفة فـ ( عبدالحميد ) لم يكن موجودا من الأساس .
    الرسالة الثانية التى وصلت للناس كانت مقتضبة للغاية, لا يوجد بها سوى العنوان فقط :
    (تحرك إلى شارع 26 يوليو – ممر بور فؤاد – فندق بارادايس .. بعد 15 دقيقة)
    تلك كانت نص الرسالة التى وصلت إلى ( عماد) ولكنه ما أن نظر من شرفته حتى وجد رجلا قد خرج من بيته و معه أولاده, لقد أدرك تماما أن هذا الأخير فد تسلم رسالته ووقته, و لكن مهلا .. لقد أرسلوا له ميعاد التحرك, فهل يطيعهم و يبقى.. أم يلحق بهذا الرجل, ولكنه آثر أن يطيع, حتى انتهت الدقائق المقصودة, أخذ زوجته التي قد أطاعته بقبول الصك على مضض, ولكن كيف لاتطيعه وقد رأت بنفسها جيرانهم الذين تكلموا بالسوء عن الأخوية و المقنع, ورأوا بيوتهم فارغة, إلا من دماء طازجة.
    نزلت معه و طفليه إلى العنوان المذكور, و هو ما زال لا يدري ما يفعل بعد ذلك.
    21 أكتوبر 2070 – وسط البلد
    العراقة, بل و الأصول التى قد محاها الناس و الزمن من أذهانهم قبل أن تُمحى على الواقع, ترى الناس يسيرون كأنه يوم الحشر, وهنا المحشر .. التجمعات كبيرة, خائفون.. يرتجفون, الكل ينظر إلى الكل .. الرعب هو المسيطر, و الصمت يسود الموقف, يسيرون فى هذا الشارع الذى لطالما ازدحم بالمحال و كثر فيه البيع و الشراء, هذا الشارع الذي يحكي قصصا كثيرة لم يعد هناك وقت ليقصها عليك, لم يعد هناك وقت لأي شيء, تدرك و أنت بين جنباته أنك ستشعر بالحنين, أنك ترى الفراق بأم عينيك الآن, جموع الناس تتحرك .. يسيرون في الشوارع .. ينظرون الى كل ماهو بناية قديمة و شارع وحارة, ينظرون إلى التشوه الذي طال تلك الأرض, وأًصبحت أطلال لماضي بعيد.. تضيق صدورهم .. يتألمون لفراق تلك الأرض .. برغم انهم ظ’لموا فيها .. يدركون تمام الادراك ان الذنب لن يكون على الوطن ذاته .. يعلمون انهم هم من حطموا الاوطان وضيعوا الارض برضوخهم للطغاة .. الدموع تفلتت من المقل, يشعرون ان هذا يحدث فعلا .. انها المرة الاخيرة التى سيرون فيها تلك الارض التي يعرفونها .. المرة الاخيرة التى يحتضنهم فيها الوطن .. قبل أن يصبح رمادا .
    رسالة أخرى وصلت فترى أن المشهد مهيب جدا فالكل قد اطلع عليها من خلال نظارته فى نفس اللحظة لينظر إلى فحوى الرسالة ليجدوا هذا الأمر المباشر ( اذهب للبناية التى أمامك, ادخلها ولا تنظر لسلم الصعود .. ابحث عن سلم النزول .. انزل للأسفل . ابقى هناك .. لا تحاول الخروج .. أبدا )
    الأمر فى مراحله الجدية جدا الآن .. الناس بعضهم بدأ يهمهم بأنه لا يريد ان يفعل ذلك .. لا يريدون أن يظلوا هكذا دون فهم .. ولكن سرعان ما وجدوا ان المقنع قد ظهر على الشاشات المتبقية تعمل .. ثلاثون ثاية .. ثم قال :
    حان وقت الظلام .. ومنه ينبثق النور .. حان وقت الإظلام .. وبدأ عصر الحرية .. اليوم نحن نملك أسلحتكم .. نملك قنابلكم النووية, ايام تفصلنا عن استعمالها .. ولكننا نقولها لكم الآن .. سنمحي الأرض التى تعرفونها .. وبما كسبت أيديكم )
    الرعب يدب في القلوب .. لا مجال للتراجع الآن .. الكل يهرول الى المكان المذكور في رسالته .. يدخلون الي الفندق كاسراب النمل الهارب من خطر داهم, الهرولة كادت أن توقعهم, ضجيج وقع أقدامهم يهز المكان هزا, وما أن وصلوا إلى آخر سلم النزول حتى وجدوا بابا مهيبا, لا يصدقون أنه قد يكون هناك باب بهذا الحجم و خصوصا تحت الفندق العتيق الذى دخلوه, مفتوح على مصراعيه .. دلفوا إليه وهم يسيرون فى ممر تحيط فيه بهم الأنوار من على الجانبين ليبرز لهم الطريق واضحا, يسيرون دون هدى, و دون رجعة, و ما أن دخل آخر شخص من الباب, حتى سمع صوت تحرك الباب لتتقارب بواباته من بعضها و ينغلق تماما, الهلع و الذعر يعتريهم ولم يكن هناك طريق سوى أن يكملوا ما بدأوه, فبدأوا يسيرون فى الممر حتى خرجوا إلى ردهة واسعة, وما أن اكتملوا داخلها حتى أُطفئت أنوار الممر تماما ليغلق الممر باب قد ظهر من العدم ويجدوا أنفسهم فى تلك الردهة التى لا يوجد بها أى مخرج آخر, ردهة بيضاء واسعة دائرية, ثم فجأة بدأت فى التحرك, مهلان إنها تتحرك للأسفل, أهناك أعماق أخرى أبعد من ذلك؟! , بدأت فى النزول بهم رويدا رويدا, ثم ما أن لبثوا حتى بدأت تنقشع تلك القبة التى لم يكونوا على علم بوجودها إلى أن تحركت هى الأخرى ليظهر بدلا منها قبة زجاجية تسمح لهم جميعا بالرؤية, و يا لعجب ما رأوه .
    كانوا يدركون جميعا في قرارة أنفسهم ان المقنع و أخوية المجددين أقوياء جدا, ولكن لم يستطيعوا أن يدركوا هذا الحد من القوة, تلك الردهة المتحرة ما زالت تهبط بهم, ينظرون من خلالها فيرون هذا الاتساع السحيق الذي يحيط بهم, لا يصدقون, أكل هذا تحت الأرض؟ ما زالت تهبط بهم, يرون ممرات عديدة بالأسفل و من على الجوانب أعمدة معدنية طويلة و عريضة و غريبة الشكل و التصاميم, مهلا .. أنهم يرون أناسا أيضا بالأسفل,أنهم يرون أرضا جديدة, يرون ما يشبه الثكنات و المراكز .. الذعر من هذا المكان قد وصل إلى حده حتى أن بعضهم بدأ ينهشه البكاء مما دفع الكثيرون حوله ليفتحوا نوافذ دموعهم لتفيض بما فيها, هم لا يدركون لم يبكون, أهو شعور الفقد أم شعور الخوف, أم صدمة ما يجدوه, أحاسيس متراكبة متداخلة لا يستطيعون تحديدها .. ولكنهم يبكون, و هذا ما يهم الآن .
    رست بهم تلك الردهة المتحركة على الأرض لينسحب بعدها الغلاف الزجاجي و يتلاشى تماما مما يعطيهم حرية الخروج, بدأوا فى الخروج وهم ينظرون إلى الناس الموجودون حولهم, الذين يقابلونهم بابتسامة لا يعرفون مصدرها, و ملابسا تتشابه مع بعضها إن كان فى الشكل أو فى بعض الألوان , الخوف يأكلهم و الصمت يضربهم فى مقتل, حتى خرج من بين الجموع رجل متوسط الطول يرتدى ملابسا باللون الأبيض و قلنسوة بيضاء, وقناعا مألوفا لدى الجميع, قناعا قد رسم عليه انفجارا نوويا عظيما, وبداخله نبته تزهر زهرة لم تتفتح بعد, وتميل لتصل إلى أسفل عينه اليمنى .
    تهللت أساريرهم وفرحوا جميعا, فهاهو البطل المخلص يظهر أمامهم الآن بشحمه و لحمه, حسنا أنها ليست خدعة من خدع الحكومة, ليست وهما, إنها الحقيقة .. الحقيقة المطلقة و المجردة من كل شيء .. هم الآن على حافة نهاية العالم بالفعل .
    ثم بدأ المقنع يتكلم, صوته يشعرهم لوهلة أنه مهما عظم الأمر, فهم فى أمان.. قال مخاطبها إياهم :
  • أهلا بكم أيها الأحرار, أهلا بكم بين عائلتكم وعالمكم الجديدين, لا تجزعوا أو تهابوا ما تروه, قريبا ستستطيعون أن تفهموا كل شيء .. أما الآن فإن إخوانكم الذين قد جئنا بهم مبكرا سيساعدونكم ليذهب كل منكم إلى مسكنه .. تفضلوا, وليحيا العالم الجديد .
    تحركوا جميعا عندما تحرك المقنع ليجدوا خلفه ممرا طويلا ببوابة شفافة يقف عليه اثنان يعطونهم أشياءا ما .. إنها مفاتيح, مفاتيحا قديمة الشكل جداو ولكنها حديثة الصنع, ومليئة بالتكنولوجيا, بل و منقوش عليها أرقام ما, و بنفس الإبتسامة قال لهم الموزعون أن تلك الأرقام ستكون أرقامهم و أرقام حجيراتهم أيضا , دلفوا على اختلاف أحوالهم, فمن له أسرة يحيطهم بذراعيه و هم يتعلقون به, و من هو وحيد يبحث عن مسكنه, استطاع كل من حصل على مفتاح برقم أن يجد حجرته التى تزينت بنفس الرقم ويدخل المفتاح في بابها ليضيء بالأخضر سامحا بالدخول, و يدخل كل واحد منهم إلى مسكنه, الغريب أن من معه أسرة حجرته أوسع من المنفرد, بل إن الأفرشة تختلف فى عددها, فلكل أٍسرة عدد أفرشة بعدد أفراد الأسرة, كل مسكن على يمينه مرحاضا صغيرا يفى بالحاجة, كما تلاحظ فى داخل المسكن فوق الباب مباشرة من الداخل أن هناك شاشة كبيرة تعمل طوال الوقت, خلفيتها بنفس قناع المقنع.
    نظر ( سعيد) بعد أن جلس على أريكته بداخل المسكن الجديد و قد وجد ملابسا على مقاسه بل و كل فرد فى أسرته أيضا, استطاع أن يتأقلم على المكان الجديد منذ أن احضروه, ولكنه ما زال يشعر بالغربة, بالوحدة.. بالحنين لشيء لا يدركه, الوافدون الجدد قد تسلموا مساكنهم هم أيضا و من الواضح أن الأمور ستظهر على حقيقتها قريبا, ولكن مهلا .. إن النبتة الخضراء الظاهرة على وجه المقنع ليست بالإخضرار القوي, يشعر أنها تفقد بعض لونها, يشعر أنها باهتة قليلا, ولكن مهلا.. هؤلاء لا يمزحون, فإن إختلاف القناع فى كل مرة ووجود النبتة فيه كان دليلا على تقدمهم فى خطتهم تلك, هل يكون هذا البهتان من ضمن الخطة أيضا, هل سيصبح هذا الأمل أملا زائفا ولن يجنوا من وراءه خيرا, لا يعلم .. ولكن مهما حدث, فقد اتخذ القرار.. وها هوا الآن يعيش في المسكن الجديد, يعيش تحت الأرض .
    لم يستطع ( خالد) أن ينسى تلك التفصيلة التى على وجه المقنع, هذا اللون الذي صاحب تلك النبتة ليزيدها اخضرارا فوق اخضرارها, هل بهذا يشيرون أن الأرض ستعود خضراء تماما, ستعود كما كانت قبل البشر, و لكن مهلا .. إن عادت الأرض خضراء كما كانت فلن يكون هناك نظام, فقد كانت غابة كبيرة يأكل القوي فيها الضعيف, ويظلم الناس بعضهم, لا يدرك هل هذا ما سيحدث فعلا أم أنه يبالغ فى الأمر, يعتقد داخله أن على خطأ, فقد كانوا صادقين في كل شيء حتى الآن, لا يعتقد أنهم سيتركون الغابة تنموا أكثر مما تستحق, ولكن مهما حدث, فهو يثق تماما بالأمل الذي بين يديه, يثق بالأخوية.. ولقد ألف مسكنه الجديد, يشعر بحرية نسبية .. حسنا الأمور تسير على ما يرام إلى الآن , أما القادم .. فهو مجهول له وللجميع .. مجهول تماما .
    الجميع الآن تأتيهم التوجيهات عبر الشاشة فى سكنهم, فما أن حل وقت النوم ظهر أمامهم على الشاشة ان الوقت الآن فى العاشرة مساءا, وستنطفيء الأضواء بعد ثلاثون دقيقة, ليظهر أمامهم مؤقت به الثلاثون دقيقة ولكن بعد تنازلي, بدأ كل فرد يدخل في فراشه لا يدرك ماذا سيحدث, ولا كيف ستكون الحياة, ولا حتى متى سيستيقظ, الاستسلام الآن هو الأفضل, الاستسلام لكل شيء, حتى للنوم.
    وما أن مضت الثلاثون دقيقة, حتى انطفأت الأنوار, ليسود الظلام, يصاحبه الصمت, و جهل لكل ماهو قادم .
    صوت غريب يصدر من الشاشات ليستيقظ الجميع بعدها, مهلا .. تلك الساعة على يمين الشاشة لم تكن موجودة من قبل. أو أنها قد كانت موجودة و لكن لم يلاحظها أحد, ظهر أحد الأشخاص ليخبر الناس أن الصباح قد حل, و حان وقت الخروج للتعرف على كل شيء جديد, على عالم مغاير تماما لما يعرفونه, خرجوا ليجدوا أن هناك الكثير من الشاشات التى قد ظهر عليها نفس الشخص, يوجهم يمينا و يسارا ولا يكف عن الكلام أبدا, كأن يقول ( إن النظام الذي نتبعه الآن مختلف كليا و سيغير كل شيء), يسيرون قليلا بتوجيهاته ليغير جملته فيقول ( الأخوية تسعى لمجد البشرية كلها ) ظلوا على تلك الحال ليجدوا أنفسهم في قاعة كبيرة مليئة بالطاولات المعدنية المستطيلة و الكراسى على كل جوانب الطاولات الأربع وبها مدخلا يتوافق مع المفاتيح التى تسلموها قبلا, وجدوا أن المتحدث من الشاشة يخبرهم أن يجلسوا ويدخلوا مفاتيحهم في مداخل الكراسي, فاتخذوا مجالسهم أمام الطاولات الفارغة وأدخل كل منهم مفتاحه في مكانه, ثم خرج من وسط كل طاولة مكعبا به فراغات بعدد الكراسى, وبداخل كل فراغ من تلك الفراغات طبقا مستطيلا به بعض الطعام, تحدث الرجل من الشاشة قائلا :-
  • تلك وجبة الصباح, ستأتون هنا دائما فى تمام السابعة, وستأكلون وجباتكم في خلال ثلاثون دقيقة, وبعدها سيبدأ العمل, تفضلوا ابدأوا, و قريبا ستعلمون كل ما تريدون .
    شرع الناس فى التقاط أطباقهم من داخل تلك الفراغات التى احتلت مكانها فى المكعب على الطاولة, ليجدوا أن الطعام عبارة عن خبز وثمرة خيار وشيء هلامي عديم اللون, و زجاجة صغيرة من المياه.
    نظر أحد الجالسين إلى الشيء الهلامي بتقزز, فلاحظ الجالس بجواره ذلك .. فقال له :
  • هل يصيبك هذا الشيء الهلامي بالتقزز لتلك الدرجة؟
    فاجابه المتقزز قائلا:
  • بل أكثر مما تتخيل.
    فرد عليه الرجل الآخر قائلا:
  • حسسنا تخيله أي شيء تشتهيه, هو عديم اللون والطعم والرائحة, لا تنظر له انه سيء, بل تخيله أكثر شيء تشتهيه, واعلم أننا لسنا في رفاهية طلب أصناف الطعام يا صديقي.
    نظر إليه المتقزز وهو ينقل بصره بينه وبين الشيء الهلامي ثم فكر قليلا, فوجد أن الجالس بجواره يتكلم بمنطق صحيح, فلا توجد رفاهية إختيار الطعام هنا .. بدأ في تخيل هذا الهلام أنه شيء ما, ثم حمل منه ما استطاعت ملعقته أن تحمله, ودسه في فمه .. دون إعتراض.
    أكل الجميع فى نهم, أنهوا وجبتهم ليظهر نفس الرجل على الشاشة مرة أخرى موجها إياهم لمكان آخر, دون اعتراض سار الجمع حسب التوجيهات, يسيرون على أرضية رخامية تارة, ثم يجدونها طينية تارة أخرى, جنبات المكان تتغير ما بين الطينية والحجرية, رائحة المكان نفسه وكانما السماء قد امطرت هنا منذ قليل, ثم يتبدل لجو خانق شديد الرطوبة لا تقدر على التنفس فيه, وقد نعالهم يتبدل كلما تبدلت الأرضية التى يسيرون عليها, فتارة يشعرون أنهم جيش عرمرم من إثر سيرهم على الأرضية الرخامية, وتارة يشعرون أن أعدادهم مهما كثرت فهي ضئيلة جدا, ظلوا يسيرون إلى أن وصلوا إلى مكان واسع فسيح جدا, وبه بالأعلى شاشات عملاقة معلقة و ثم وجدوا أن هناك أماكنا أخرى يتوافد منها الناس, حتى أصبحت أعدادهم مهولة, ثم فجأة, ظهر المقنع على الشاشات العملاقة, ظهر وسط تهليل و تصفير شديدين, ما لبثت حتى انتهت ثم تحدث بعدها قائلا:
  • أدرك أنكم إلى الآن لا تفهمون من نحن أو لماذا نفعل ذلك, بل و تستعجبون من قوة ما بنيناه أو التقدم الذي نعيش فيه هنا, حسنا, فقبل أي شيء أنتم الآن أعضاء فى أخوية المجددين, ويجب أن تعلموا كيف نشأت الأخوية و من مؤسسها .
    ثم استطرد قائلا بصوته الرخيم :-
  • عندما استطاع الاحتلال البريطانى أن يتمكن و يسيطر على مصر فى عام 1882, لم تكن هناك قوة تستطيع أن تزيح تلك الغمة, بل إن المصالح قد تشاركت ليستطيع كل جانب أن يأخذ ما يتمكن منه من تلك الأرض .. كان السوط قويا شديدا على الناس مما جعلهم لا يستطيعون المطالبة حتى بحقوقهم, وكل من طالب او استطاع أن يثور وقتها كان يعدم أو فى أضعف الأحوال يتم نفيه ولا يعود إلى مصر أبدا, إلى أن جاء المهندس ( علام ) بالفكرة التي نعيش أثرها الآن، ولقوة عائلته وقتها وثرائها كان له نصيب كبير من الأموال والأرباح التي تدرها شركاتهم، بل و أراضيه الزراعية، فتزامن بناء هذا المكان وتجهيزه مع بناء منطقة وسط البلد نفسها، ولكنه أدرك أن السلام لن يتحقق لمجموعة واحدة من الناس، كما أنه احتاج تمويلا كبيرا ليكمل ما بدأه، فذهب إلى معظم بلدان العالم مسافرا و مجمعا للأعضاء، كان الأمر سريا تماما.. ولكن فكرته لاقت استحسان الكثير من الشرفاء، أولا من أصدقاؤه خارج مصر ومن معارفهم .. ثم توالت الانضمامات لمهندسين و أطباء و كيميائيين بل وعلماء أيضا في كل المجالات, هذا لأن الظلم لا يرضاه أنقياء القلوب .. الأمر دائما كان بيد المهندس ( علام ) ولم يكن يراجعه أحد في قراراته، غلى الرغم من صعوبة هذا الأمر إلا أن الجميع قد آمنوا بفكرته حد اليقين، فقلدوه منصب المعلم الأكبر لذكائه وقدرته الفائقة على الإقناع, لا تعتقدوا أننا أجبرنا أحدا على اتباعنا او الانضمام إلينا، فكل من ترونهم هنا قد جاؤوا طواعية دون إكراه، واعلموا تماما أن الذي سيحدث في الأيام القادمة سيغير وجه العالم، للأبد .
    ما أن قال تلك لكلمات حتى ألجم الذهول كل الحاضرين، وأرسل الخوف جنوده ليبثوا القشعريرة داخل أبدانهم، لا يستطيعون الرجوع، وما زالوا غير واعين تماما لما يحدث .. الوضع صعب، ويبدوا أن المستحيلات .. أصبحت ممكنة .

أكمل قائلا :
الآن نحن آخر من سيبقى من البشرية، كل من هم هنا بالأسفل .. ستلاحظون أن هناك جنسيات أخرى يعيشون معنا، وستتعايشون معا كما خططنا نحن ووافقتم انتم على ذلك، تعارفوا لأنكم لن تستطيعوا أن تجدوا حضارات أخرى تذهبوا إليها، فما سيحدث سيزيل صفحة العالم التي تعرفونها، نحن لا نسعى للتدمير أو الخراب، وستجدون الأدلة على ذلك بعد وقت قليل .

اختفى المقنع ليظهر بعدها رجلا قد تسارع الشيب ليغزوا جانبي رأسه، يرتدي نظارة طبية و معطفا ابيضا، يبدوا أنه طبيب ما ولكن إلى الآن لا يدرك أحد ما مهمته، لحظات وتحدث بعدها قائلا

  • مرحبا إخواني، أنا الطبيب ( عليم ) لن أطيل الحديث .. هيا بنا ، اتبعوا الشاشات.
    ظهر على الشاشات المتراصة بجوار بعضها بطول الممرات اسهما توضح الاتجاهات للجموع، اتبعوها ليدخلوا اماكنا في نفس الاتساع المهيب، ويخرجوا من اماكن اخري تماما، يصعدوا مصاعدا وينزلوا سراديبا، حني توقفت الارشادات، ليظهر لهم هذا الطبيب مرة أخرى قائلا :
  • مرحبا مرة أخرى .. تتساءلون عن سبب هذه المسيرة الطويلة أليس كذلك، حسنا انه الوقت لتدركوا حجم ما سيحدث، ستدركون حجم الدمار الذي سيصيب العالم، فور رؤيتكم لما صنعنا .
    و إذ فجأة تنفتح أمامهم بوابة حديدية ضخمة اعتقدوا في بادئ الأمر أنها جدارا، ليظهر خلفها قاعة كبيرة يتوسطها مكعب ضخم، و تقسمت خاناته بمربعات زجاجية متساوية في الحجم، مملوءة بسائل تتصاعد فيه فقاعات ما، هذا المكعب لم يكن الوحيد، بل كان هناك الكثير من أمثاله، حتى أن الناظر إليه يظن أن أعداد تلك المكعبات الكبيرة تمتد إلى ما لا نهاية, الذهول سيد الموقف ولا احد يدرك ما الذي يحدث، حتى نطق الطبيب من الشاشة قائلا :
  • أعرفكم بأكبر خطوات المستقبل .. مشروع (نوح) .
    جحظت العيون عندما سمعوا هذا الاسم، فهم يدركون على اختلاف دياناتهم و معتقداهم قصة الطوفان الكبير، اذا كان الكلام صحيحا، فتلك المكعبات ما هي الا محاكاة لسفينة نوح النبي، وقد استطاعوا ان يجمعوا فيها الكائنات كلها، ولكن مهلا .. هل جمعوا كل شيء بالفعل ؟
    نطق الطبيب قائلا:
  • ان ما يعتريكم الآن من دهشة قد كانت حلما لنا من قبل، وهاهو قد تحقق، فالصرح الذي ترونه قد تجمعت فيها بويضات مخصبة وخلايا ذاتية الانقسام في حالاتها النشطة و الصحية، فبعد ما سيحدث سيباد كل شيء، نحن هنا لنصلح ما فسد، استطعنا تجميع وتلقيح كل ما عرفه الانسان يوما، وجمعناه هنا في مشروع (نوح) لتكون نواة العالم الجديد نحو الحياة النقية، أظن انكم علمتم مدى جدية الأمر، فاستعدوا.. لكل ما هو قادم .
    قال كلماته تلك و اختفى ، لتظهر بعدها الاشارات الموجهة مرة أخرى، يسيرون على حسب التوجيهات لتفضي بهم إلى قاعة الطعام مرة أخرى، لم يصدقوا أنهم قد قضوا كل هذا الوقت في التعرف على بيتهم الجديد هذا، ظهر على الشاشة رجل يتكلم ويأمرهم ان يجلسوا في اماكنهم ليتناولوا وجبة الغداء، جلس الجميع على الطاولات وأدخلوا مفاتيحهم ثم خرج موزع الطعام بفراغاته المملوءة بصحائف الطعام، ليجدوا أن الطعام قد اختلف، فهو قطعة من اللحم و بعض الارز وثمرة فاكهة وثمرة خضراء وزجاجة مياه، يستحسنون هذا النظام الجديد، فالكل على وجهه علامات الرضا، ولكن الرضا لا يمنع وجود بعض القلق الممزوج بالخوف من المجهول .
    انتهوا من وجبة الغداء ليظهر لهم رجلا على الشاشات الكبيرة، قائلا :
  • حسنا .. انهيتم طعامكم، حان الوقت لتعلموا كيف يأتيكم الطعام بهذا الشكل، اتبعوا الاسهم رجاءا .
    ظهرت بعض الاسهم التي تشير لاتجاه مغاير للذي سلكوه قبلا، ليبدأوا في تتبعه، ما أن ينتهي حتى يجدوا سهما آخر، وهكذا إلى أن وجدوا أنفسهم أمام بوابة معدنية أخرى، بل و كبيرة أيضا، ليظهر بعدها على شاشات تجاورها نفس الرجل قائلا:
  • ها قد وصلتم وجهتكم، أهلا بكم في مركز إنبات الطعام .
    انفتحت البوابة بسهولة وسلاسة ليظهر خلفها منظر مهيب، يرون ضوء الشمس مسلط على حقول مزروعة على مساحات شاسعة، ذهلوا من المنظر لدرجة أنهم نظروا إلى الأعلى متسائلين كيف تصل الشمس هنا، فإذا بهم يروا ألواحا زجاجية عملاقة معلقة بالأعلى يخرج منها ضوء الشمس ذاك، اتسعت الحدقات من فرط الإبهار، حتى تكلم الرجل الذي ما زال موجودا على الشاشة قائلا :
  • أرى أن المنظر قد أعجبكم، دعوني أفسر كل ما ترونه أمامكم، إن تلك الحقول تتشابه تماما مع حقول ظهر الأرض، غير أننا قد عالجنا التربة هنا لتصبح أفضل و أسرع في الانبات، ولا يستطيع النبات أن يكثر و يثمر إلا بتوافر الضوء و الماء كعاملين رئيسيين، لذلك قد استطعنا اختراع تلك الأعمدة التي ترونها حولكم ..
    نظر الجميع لا إراديا حولهم ليجدوا أشكال مربعة عملاقة تخرج من وسطها اعمدة تكاد تكون تخترق الأرض ذاتها من الأعلى، ولوحظ أنهم مختلفون في بعض التفاصيل التي تغير تركيبهم الكامل، ثم استطرد الرجل على الشاشة قائلا:
  • إن ما ترونه أمامكم هو ثورة علمية، فإن الأعمدة التي ترونها تلك والتى نطلق عليها اسم (الصواري) ستجدونها في كل مكان هنا، هي المسئولة عن توفير كافة احتياجاتنا من الضوء والماء و الهواء، فنحن نطلق صواري الضوء لينطلق للأعلى مخترقا قشرة الكرة الاولية للأرض ومنها إلى أعلى نقطة في طبقات الغلاف الجوي، ليبدأ بعدها بتجميع ضوء الشمس و إبصاله إلينا عن طريق ألياف ضوئية اخترعناها داخله تبث لنا الضوء دائما، و صواري الهواء تفعل المثل تماما، ولكنها تسحب الأكسجين ويطرد ثاني أكسيد الكربون، أما صواري الماء فهناك منها إصدارين، أحدهم مشابه لأخويه ولكنه يختلف بتوليد ذرات هيدروجين لتتحد مع الأكسجين ويأتينا بالماء النقي، و الإصدار الثاني يستخلص المياه الجوفية من باطن الأرض، نحن نضمن لكم الحياة هنا بكل أشكالها، فقط اتبعوا النظام، وستصبح الحياة أفضل.
    الرهبة تسود الجميع، و الانبهار بتلك التكنولوجيا وهذا التقدم يعطي الأمل، أمل في حياة افضل .
    اكمل المتحدث على الشاشة كلامه قائلا :
  • أما بالحديث عن دورة الطعام الذي يصل إليكم جاهزا، فحرصا من الأخوية على حفظ الجنس البشري تم تقديم موزع الطعام الذي ترونه في قاعة الطعام، وطاولات الطعام متصل بها أنابيب التغذية، التي تأخذ الغذاء مطهوا من مركز الإطعام الكبير، وهو بدوره يتلقى الحبوب و الخضروات من مخزن الطعام المتواجد خلف كل حقل.
    نظر البعض للحقول ليجدوا خلفها ما يشبه البيت المعدني وله عدة مداخل مقسمة على حسب نوع الحبوب أو الخضروات، ليسمعوا بعدها كلمات الرجل من الشاشة قائلا :
  • ها قد فهمتم الآن كيف يأتيكم الطعام و الهواء و الماء، لديكم معظم الأساسيات، غدا ستبدأون في استلام مهامكم، ان الملابس التي ترتدونها تحدد هوياتكم، فاللون الأحمر هو للبنائين، الازرق للمهندسين، الأصفر للأطباء، والبرتقالي للمزارعين، واللون الأخضر هو لكبار أعضاء الأخوية، وسوف تتخلون عن أسمائكم وتستبدلون بدلا منها الأرقام و الرموز التى على المفاتيح, هذا لضمان عدم التحيز لعرق أو لدين أو لطائفة ما, ستستبدلونها في أي معاملات داخل الاخوية، وستبقون عليها فيما بينكم، اشكركم على الاستماع و التفهم، اذهبوا للعشاء، فغدا ينتظركم يوم جديد .

الشاشات في الأرض الجديدة بدأت تعرض الاحداث فوق الأرض، الشوارع شبه فارغة .. المقاهي قل روادها .. حتي الأسواق الكبيرة فقدت الكثير من زبائنها و بائعينها ايضا .. الوضع مزر جدا .. كل شيء في طريقه للاضمحلال، كل شيء جامد .. ساكن .. قميء .

1 نوفمبر – القاهرة
(خالد) .. لم يجد في نفسه ضيقا من المكان الجديد، رغم رهبته .. ولكنه يشعر أنه الآن قادر على الاندماج بين الجموع، قادر على العيش، فلم يعارضه أحد بسبب منظره .. لم يجد الا تحية بالابتسامة و ايماءة بسيطة، من كل من قابلوه، هو يدرك انه قادر على التكيف، وسعيدا بموطنه و بيته، سعيدا بما حصل عليه حتى الآن .

الشاشات تومض بشكل متتابع، ثم تتوقف ليتوسطها المقنع، بنبتته التي قاربت الوصول لعينه اليمنى، ثلاثون ثانية، ليبدأ بعدها قائلا :

( إلى العالم، والأرض التي نعيش عليها، إلى الماء الذي سيصبح سما، وإلى الهواء الذي لن يهب الحياة بعد ذلك، إلى كل مخلوق، إلى كل ذرة، نقدم لكم جميعا أسفنا، اعتذاراتنا، فمن تلك اللحظة .. لا عودة، فقد بدأ العد التنازلي .. للفناء )

(خالد) ينظر إلى الشاشة .. مذهولا .. رغم أنه يعلم مسبقا بعواقب الأمر، ولكن شعور الفقد يسيطر عليه، تذكر أمه ولمساتها الحانية .. تذكر بسماتها ونظراتها .. حتى في قسوتها اللينة التي كانت بغرض تقويمه، فرت من عينيه دموعا حارة .. تساقطت دون حتى أن يدري أنها تتساقط، في لحظة واحدة كأن الذاكرة كلها قد عادت إليه، كأنها كانت منسية من الأساس، تذكر الحضن الذي احتواه دائما، تذكر الوطن .. الذي كان يلفظه نهارا و يحنوا عليه ليلا في جوانب الطرقات، تذكر الفقد مرة اخرى .. مرة جعلت البكاء يشق طريقا على وجنتيه .

وسائل الاعلام و المحطات على الشاشات ما زالت تحاول بث الأمل في من تبقوا من الناس, ولكن الخوف قد سكن كل العيون بلا منازع, كل من كان يدب على وجه الأرض, شعر أن هناك خطر داهم سيقضي على كل شيء, الشاشات فى الأرض الجديدة توضح الأمر تماما, توضح ما يحدث بالأعلى, كما أنها كانت عينا على كل من هم بالأسفل, فقد رأوا أن هناك مشاهدا تعرض لأناس يتشاجرون في بعض أماكن العمل, و كل ذلك كان يتم بثه عبر الشاشات, وكل ذلك تم التصدي له, دون معرفة أي أحد بالكيفية, و لكن الأهم أن الأمور كلها كانت تسير على ما يرام هناك في الأسفل .
(عبدالحميد) لم يدرك أنه ذو قيمة كبيرة إلا عندما حصل على عمل بصواري النور, شعر أن له دورا مهما في الحفاظ على هذا المجتمع, فتلك الصواري هي سبل النجاة التى ستمدهم بكل الاحتياجات الى أن يستطيعوا العودة الى الأرض مرة أخرى, ولكن .. جال في خاطره شيء, سؤال ألح على بنيات عقله .. هل سنعود يوما؟ .. هل سنصعد مرة أخرى؟ أم أننا تحت الأرض الآن كما الأموات ..هو يدرك أن من ينزل تحت الأرض لا يعود, ولكن ها هو يحاول, عسى أن يكون له أثرا يتذكرونه به فيما بعد .

10 نوفمبر – القاهرة
سكان الأرض الأخرى يشعرون بالغرابة و عدم التصديق إلى الأن, ( سعيد) هذا الموظف الذي شعر بدماء الشباب تجري في عروقه بعد كل ما حدث, يشعر بفخر لا يدري مصدره, هل لأنه ولأول مرة في حياته يعارض النظام؟ ولكن مهلا .. إن كان قد عارض نظاما فهو الآن يتبع نظاما آخر لا يدري وجهه الحقيقي, ولكن, لقد نفذ الأمر .. و أصبح كل شيء الآن بدون رجعة.. يبتسم .. يعطي الأمل, حتى و إن كان زائفا, ولكنه لا يريد التخلي عن ذلك الزيف .. لا يريد التخلى بعد الآن .

15 ديسمبر – القاهرة
اضطرابات فوق الأرض بين كل شيء, الحرب أوشكت على النشوب بين الدول .. ظنا منهم أن كل دولة تحاول السيطرة على الأخرى .. التوتر أصبح واضحا في حدة كلام السياسيين و كل مسئول على الشاشة .. كل شيء مربك مريب, الباقون فوق الأرض لا يريدون التصديق, لا يريدون الخنوع أو الخضوع لأمر شخص لا يعلمونه, متمسكين بأنه ان كانت تلك هي النهاية .. فلتكن, فلا مجال للمزيد من البدايات.

ودون مقدمات .. ظهر المقنع .. بشكل غير ذي قبل .. بقناع يكسوه الرمادي, ومرسوم فيه بالأسود أثر انفجار نووي عظيم .. ومن داخله نبتت زهرة مكتملة النمو .. بألوان زاهية, ليضيف استغرابا لكل من بقوا فوق الأرض .. ولمن هم بالأسفل أيضا, فالشاشات تعرض كل شيء, ثلاثون ثانية .. ليبدأ بالكلام قائلا :
( تفصلنا عنكم أيام قليلة .. ستسمعون كلمتنا للمرة الأخيرة, لن يهرب احد, لا ملجأ منا .. لا مهرب .. فنحن أسياد العالم وحكامه, ان ظننتم أنكم محصنون ضدنا, فأنتم واهمون, أسلحتكم بحوزتنا, برموزكم السرية .. بكامل التحكم في كل شيء, روسيا .. الصين .. فرنسا .. المملكة المتحدة .. الولايات المتحدة .. إيران.. اليابان .. كوريا الشمالية .. الهند .. اسرائيل .. ألمانيا ..تركيا .. بلجيكا .. السويد, نملك أسلحتكم, وعصر الإظلام الأخير .. قد بدأ )

قاله ليسود الأسود كل الشاشت .. الا من ساعة توقيتية تعد ما بها تنازليا , تظهر للجميع الوقت المتبقى على الدمار .. خمسة عشر يوما .. و ثلاثة وعشرون ساعة .. و تسعة وخمسون دقيقة .. وبعض الثواني التى توشك على الانتهاء .

20 ديسمبر – القاهرة
حرائق .. دمار .. دماء متناثرة .. أشلاء على الطرقات, الوحشية ظهرت في أخلاق الناس .. الخوف يدفعهم للسرقة و النزاع ثم القتل و الفتك بالآخر إن لزم الأمر .. حتى و إن لم يلزم . الأمر سيء .. سيء إلى أبعد حد .

25 ديسمبر – القاهرة
لافتات تظهر في الشوارع بين الجموع .. يناشدون المقنع بالسماح لهم بالهروب إلى الملاجيء, ولكن لا اجابة .. الحكومة ترسل عناصر فض الشغب و التجمعات الى الميادين .. ليسيل بحر من الدماء, دون أن يفوز أحد الطرفين, الفزع يسيطر .. الكل خائف, وما زال العد التنازلي يعمل .

القاهرة – 31 ديسمبر 2070 – الحادية عشر مساءا و خمسون دقيقة

يظهر المقنع على الشاشات مرة أخيرة, بنفس الرداء و نفس القناع, لم ينتظر تلك الثلاثون ثانية هذه المرة .. فقط ظهر ليقول كلمات قليلة .. الكلمات الأخيرة
( إلى من شككوا بنا و لم يصدقونا .. إلى من سخروا من الانسان وطوعوه لاحتياجاتهم الشخصية .. ها نحن اليوم نملك زمام الأمور, سنحرقكم بكل ما صنعتم, ها قد انتصرت الارادة .. لقد انتصر العالم عليكم .. المجد للأخوية )

لحظات وظهر المقنع مرة أخرى لمن هم تحت الأرض قائلا

( اليوم ننتصر على كل من أهانوا الانسان, اليوم سنكتب التاريخ بأيدينا, لا تهلعوا مما سيحدث, اصمدوا للساعات القادمة, فالكوكب كله سيحترق تماما, لا تفزعوا, ولتعلموا أن الأخوية قد فعلت كل ذلك من أجلكم أنتم .. أنتم الأمل, ونحن أذرع القدر )

قالها ليختفي تماما .. وليظهر المؤقت على الشاشات وبه كل خانات الأرقام قد آلت إلى الصفر إلا مربع الثواني الذي ما زال مصرا على الهبوط

9
8
7
6
5
4
3
2
1
0

الشاشات التى بالأسفل كلها تعرض منصات مختلفة لصواريخ برؤوس نووية من كل بلدان العالم وقد أخذت أمر الانطلاق, وتصحبها صفارات الاطلاق المهيبة .. منها ما يخرج من قلب الجبال ومنها ما يخرج من جوف الأرض و أخرى من أعماق البحار, تتطاير كلها من الشرق إلى الغرب, و من الغرب للشرق, من الشمال للجنوب , ومن الجنوب للشمال, الشاشات تصور المشهد كانه مشهد سينيمائي, أدوات التصوير تظهر الأرض من الأعلى .. يكاد يكون من الفضاء الخارجي, فترى المشهد مهيبا فظيعا مروعا .. الصواريخ بدأت في ملامسة الأرض بالفعل .. مهلا .. ان ذلك لم يكن مزحة . انه الدمار الأخير, يوم قيامة إن صح التعبير .. تلامس الصواريخ الأرض لينطلق الانفجار على شكل فطر الغراب ناشرا النيران في كل مكان .. الصواريخ تتلاحق .. تصطدم .. تدمر .. الشاشات ترصد معاقل الجيوش, مطارات مدنية .. مخازن للأسلحة, مصانع, كل شيء تحول إلى كتلة نار في لحظة .. كل شيء أصبح غير ما كان, و من هم تحت الأرض الآن يشعرون بالهزات من فوق رؤوسهم .. يصرخون .. يهرعون .. لا أحد يدري ما يفعل, البحار تأججت بالنيران .. الجبال نسفت, كل مظاهر العمران محيت تماما, الأرض تشتعل .. كل شبر فيها يشتعل ..الأرض كلها أصبحت جحيما كاملة نيرانه, العيون الباقية على الشاشات لا تصدق, تبكي في فزع وخوف, ترتجف في هلع مقيت .. الأرض قد دمرت تماما, ليتطاير بعدها غبارا يصعد إلى سماء الأرض, فتحجب قدرة الشاشات على التقاط المشاهد تماما .. وتسقط الأرض في الظلام, إلى وقت غير معلوم .
سكون تمام .. سكون حقيقى تلك المرة, الأرض كلها قد فنيت تماما .. لا أحياء .. لا أنفاس .. الهواء نفسه المانح للحياة, سُلبت منه الحياة, ليصبح بلا هدف, و بلا وجود .
البحار يغطيها السواد .. وبعض الأشلاء التى بقت .. لا أحد يعلم حجم الخسائر, ولكنها واضحة تماما .. الخسائر هنا, أنه لم يبقى أحد على سطح الأرض ليحسبها .. لا أحد تماما .
ينظر (سعيد) محملقا في الشاشة دون أن يتفوه بكلمة .. فاغرا فاه, يبكي .. تتساقط منه الدموع, يتشنج .. يتنفس بصعوبة .. يدرك في قرارة نفسه .. أنه ساهم في هذه المذبحة بمجرد الموافقة على الصك من الأساس .. ولكنه يعلم, أنه لو لم يوافق لكان من ضمن هؤلاء الممحيون .. يحاول أن يقنع نفسه أنه قد فعل ذلك لأنه الخيار الأصوب و أنه لم يملك خيارا آخر .. لكن قلبه يعتصر كل ذرات جسده .. ألم الفقد ذاته يقتله .. أن يفقد الأرض و الهوية, أن يفقد الوطن ..لم يعلم قبل اليوم أنه يحب هذا الوطن الذي كان سببا في تدمير أحلامه كل هذا الحب, لقد فقد كل شيء .. حتى نفسه .. تهدأ دموعه, تهدأ أنفاسه .. تقل نبضات قلبه ..تقل تدريجيا .. يسقط على الأرض, ولا يقوم بعدها أبدا .
( خالد) لم يصدق ما حدث .. يرى بعينه أن الأرض مُحيت تماما .. شعر أن هذا الأمر سيء, ولكنه ليس بسوء ما كان قبل ذلك .. يعلم أن القادم أصعب, ولكنه الأمل الأسمى و الأزهى لتبقى البشرية و تصير إلى العدالة .. هو يدرك ذلك تماما .. و سينفذه مهما كان الأمر .
(عبدالحميد) لم تمنعه عرجته من أن يزاحم الناس أمام الشاشات ليرى الكارثة .. كما كان دائما, بطيء في حسم الأمور .. ولكنه تلك المرة لم يبالى بأي شيء سوى أن الأخوية قد حققوا ما قالوه .. اذا فكل ما هو قادم سيكون أجمل .. و أخيرا سيرى النصر الإنساني الذي حلم به يوما .. ولكن متى ؟! .. هو لايعلم بعد, ولكنه متأكد من ذلك تماما .
1 يناير – 2071 – تحت الأرض
يظهر على كل الشاشات التحت أرضية دون سابق إنذار, يروه بكامل زيه المعتاد, ولكن الوردة التى على وجهه قد زات تفتحتا لتسطع بألوان زاهية عن آخر مرة قبل الدمار العظيم, ردائه الأبيض, قلنسوته البيضاء, قناعه الأبيض .. كل شيء كما هو لم يتغير .. وينتظر ثلاثون ثانية ليتحدث بعدها قائلا :
( اليوم ..أول أيام النجاة, ها قد نفذنا وعدنا, والآن دوركم في الوفاء بشروط صك الحرية الذي قبلتموه سلفا, اعلموا أنه لا حياة الآن على الأرض .. لا شيء فوقها سوى الخراب والدمار, وهذا يعني أننا لن نعود للأعلى قريبا, سنظل هنا قرونا, نعيش في هذه الأرض الجديدة, إلى أن تصلح الأرض العليا نفسها مرة أخرى, لن تشاهدوا أنتم التغيير, بل سيلامسها تماما من هم من نسلكم, أقول لكم أنكم لستم النجاة الوحيدون, هناك الكثير ممن نجوا من كل أنحاء العالم, في أراضٍ أخرى كتلك التى تعيشون فيها, قد لا تشاهدونهم إطلاقا أو لاتعرفون عنهم شيئا إلى أن تموتوا, ولكن أخبروا أبنائكم,وليخبروا أبنائهم, وأحفادهم .. بأن هناك أناسا يعيشون على الجانب الآخر من الأرض .. ويوما ما سنتمكن من مصافحة بعضنا فوق الأرض مرة أخرى .. يوما ما سنتعانق تحت آشعة الشمس الحقيقية .. يوما ما, سنعود للعالم .. تكاثروا , تزاوجوا .. فلا أمل لبقاء جنسنا من دون أطفال, سنحرص على تعليمكم كل ما وصلنا إليه من علم, سنستخدم التكنولوجيا التى بحوزتنا و سنطورها و سنحافظ عليها, أنتم الأمل دائما, ولاتنسوا ما نص عليه الصك أبدا .. المجد للجميع, المجد لأخوية المجددين )

2072 – ما كان يدعى بالقاهرة
البشر ودودين, خصوصا في وقت الصعاب .. ويظلوا ودودين ما دام هناك وفرة في الموارد, وفرة في الغذاء و الماء و الهواء.. ولكن هذا لا ينفى وجود الحاقدين والكاذبين والمخادعين وأصحاب المصالح والسيئون وكل هؤلاء .. فقط نحن لن نلوث هذا العالم الجديد بطرح تلك الصفات الآن .. فلنقل فقط أنهم ودودين .. ودودين إلى أبعد حد .
2075 – ما كان يدعى بالقاهرة
لكى تحافظ على النظام يجب أن يكون لديك قوة رادعة .. والأخوية يدركون ذلك تماما, لذا كانت لديهم فرق من الجوالين المسلحون يجوبون المناطق و الأقسام ليحافظوا على النظام, اليوم وجدت إحدى تلك الفرق جثة لرجل في غرفة الطعام, رأسه مهشمة تماما, لا يرون أحدا بجواره ولم يبلغ عن تلك الحادثة أي شخص, حملوه إلى مدفن الجثث ليدفنوه هناك .. بعد أن تعرفوا عليه من خلال مفتاح حياته, تم الدفن ولا أحد يعلم من القاتل حتى الآن, أو ربما لا أحد من العامة يعلم .. أما الأخوية, فهم يعلمون .. يعلمون كل شيء .
2112 – ما كان يدعى بالقاهرة
السلام و الهدوء هما العاملان الأساسيان في تلك الأرض الجديدة .. رغم أن العمل لا ينقطع, لأنهم ان توقفوا عن العمل قد تتوقف الحياة تماما, لكن السلام النسبي الذي حظى به المجتمع جعله مجتمعا جيدا,حرا نسبيا .. لذلك اقترح البعض على المراكز العليا أن يعيدوا تسمية الأرض .. فليطلقوا على تلك الأرض القاهرة مرة أخرى .. تلك التى قهرت الطغيان بإرادة شعبها الحر .. وقد كان ذلك رأي شباب الجيل الثالث, لتتم الموافقة على تسمية تلك الأرض بالقاهرة مرة أخرى .. قاهرة جديدة, لكل ما هو قادم .
18 أغسطس -2212 – القاهرة الحديثة
صواري الهواء بدأت في التهالك, وتليها صواري الضوء, فما كان من المجددون إلا أن انتقوا بعضا من أكفأ البنائيين و المهندسين و الأطباء, ليصعدوا على ظهر الأرض .. ليصلحوا ما فسد من تلك الصواري .. حسنا إنها المرة الأولى التى سيرون فيها الأرض الأم .. هم قد سمعوا حكايات فقط , رأوا بعض الصور الوثائقية عن ما كانت عليه تلك البيئة التى عاش فيها أسلافهم .. سيخرجون إليها بعد أكثر من مائة و أربعون سنة .. الأمر أشبه بأول من صعد على سطح القمر قديما, بالرغم من أن البعض لا يصدقون فكرة الصعود للقمر تلك, ولكن الأمر مثير تماما .. وقد بدأوا جديا في الإعداد له .
القسم العلمى للأخوية كان متقدما جدا .. حتى أنه وضع احتمالية الصعود على ظهر الأرض فصنع بذلات قادرة على تحمل الإشعاع النووي المتبقى من آثار الإنفجار الكبير .. بذلات قادرة على توفير الأكسجين من خلال اسطوانات صغيرة تشبه الأقلام ولكنها اكثر سمكا .. بدأت تلك البذلات في الظهور الآن, و قد أصابت الجميع بالدهشة .. وجعلت إيمانهم بالأخوية أقوى , وترسخ لديهم مبدأ أن الأخوية يعملون لمصلحتنا دائما .. دائما و أبدا .
لم يكن هناك أي أحد يعلم أن الصوارى نفسها بها مصاعد من الداخل تحسبا لمثل هذه الأعطال, ولكنها لم تستخدم من قبل .. لذلك فالأمر مخيف و مريب, فكيف تضمن أن تعمل تلك المصاعد بكفاءة رغم كل تلك السنين و بعد الانفجار العظيم الذي دمر الأرض نفسها .. لذلك قامت فرقة استطلاعية قادرة على اصلاح الأعطال الطفيفة مكونة من ثلاثة أفراد بالمخاطرة واستخدام المصعد الأول .. الأمور أشبه بإلقاء النفس في الهاوية, ولكن لابد منه .. خطوا داخل قمرة المصعد و أغلق الباب عليهم, حسنا الأنظمة إلى الآن تعمل بكفاءة .. المصعد معدني بالكامل, دائري و به لوحة تحكم كبيرة بها أزرار للصعود والهبوط, حتى أنه قد ألحق به ازرارا لزيادة السرعة أو تقليلها أيضا, كان مثاليا .. مثاليا بحق.
ضغط كبير فرقة الاستطلاع على الأزرار الآمرة بالصعود .. ليهتز المصعد اهتزازا عنيفا قبل أن يتحرك للأعلى بضعة سنتيمترات .. ويهبط مرة أخرى ساقطا مرتطما بالأرض, حاول كبيرهم مرة ثانية فاستجاب المصعد للأمر .. وبدأ يصعد إلى الأعلى .. بدأت سرعته تزيد, هم لا يرون أي شيء ولكنهم يشعرون بالسرعة المتزايدة, ظل المصعد في الصعود لأكثر من 15 دقيقة لتبدأ سرعته بالهبوط تدريجيا .. إلى أن توقف تماما, لتفتح الأبواب .. وتلامس أقدامهم الأرض الأولى .
18 أغسطس – تحت الأرض
بدأت الشاشات تعرض مشاهدا لما يدور بالأعلى من خلال كاميرات مع الثلاثة المخاطرين, الكل متلهف ليرى الأرض التى كان يتحدث عنها الجميع, تشعر أن الصمت مطبق, الناس أصبحوا لا يتكلمون غالبا .. لا يستطيعون النطق كثيرا, فمنذ مائة عام وجدوا أن بعض الناس قد أصابهم الإشعاع النووي ليسبب تشوها صاحب العديدين, سبب ضمور في ( منطقة بروكا) المسئولة عن الكلام وتكوين الجمل, وبعد الإفصاح عن تلك المشكلة كان الكثيرون بالفعل قد أصيبوا بل وتزاوجوا ليولد لهم أطفال بكما تماما .. لا يتكلمون من الأساس .. فمحافظة على شعورهم منعت الأخوية الكلام مطلقا في أي مكان به تجمع, وتم استبدال طريقة التواصل الكلامية وأصبحت طريقة تواصل مكتوبة .. قاموا بصنع جيبا داخل كل الملابس ليحتوى مفكرة وقلما, تتواصل بهم مع كل من هم حولك, حسنا هذا الأمر قد عزز اللغة بألا تُنسى حروفها أو طريقة كتابتها ولكنه قد حد من نطقها, مما قتلها من زاوية أخرى.
الأخوية وعدوا الجميع بإيجاد حل لتلك المشكلة التى على حد قولهم تهدد الجنس البشري كله, هم يحاولون ولكن لم يجدوا حلا بعد .. تنظر للمشهد المهيب لتجد الناس يمسكون بالأوراق والأقلام مستعدون تماما للكتابة وتدوين ما سيرونه بالأعلى .. الكلام كان مخصصا للرؤساء مُعطين الأوامر ومن هم في مهام رسمية كتلك التى يرونها .. كل الخلايا متحفزة, تنتظر أن يفتح باب المصعد, وها قد بدأ بالانفراج .
18 أغسطس – فوق الأرض
لم يستطع أي أحد من الثلاثة ألا يبدي وجهه هذا القدر من الدهشة .. لم يستطيعوا أن يخفوا تحفزهم لما يرونه الآن ولا فرحتهم به .
يرسل رئيس المجموعة عبر خوذته تقريرا بما يرى

  • المصاعد تعمل بكفاءة وها نحن قد خرجنا, إن كنت ترون ما تنقله لكم كاميراتنا فأخبرونا
    ليأتيه الرد من قمرة القيادة – التى لا يدري أحد أين هي بالضبط – قائلا :
  • نرى بكل وضوح, ولكن دعنا نرى أكثر.
    لم يستطع رئيس البعثة أن يخفى دهشته أمام مساعديه .. بل إن ما رآه لم يكن يتوقعه أبدا, فقد وجد أن الخراب قد طاح بالمعالم كلها, لم يبقى سوى الأطلال من كل شيء, أطلال الأرض .. أطلال المحال و البيوت وحتى الطرقات, أطلال من وطن مفقود .. هذا الرماد الأسود المتطاير, مازال يتطاير بخفة مستبيحا لكل متر في الأرض.. برغم كل تلك السنون وكل ما حدث, إلا أنه ما زال يتساقط ..و كأن الدمار قد حدث منذ ساعتين فقط.
    ينظر إلى جهاز مثبت على ساعده الأيسر, فيرى أن الخريطة التى تشير إلى موقعه .. كانت قديما تدعى منطقة (وسط البلد), ينظر يمينه فيجد الصاري بطوله الذي يشق السحاب الأسود مخترقا تلك الطبقة الكثيفة .. يلتفت يمينه و يساره فيجد أن الصواري تمتد عن يمينه وشماله بل أنه يقف في ما يشبه بالحقل .. يستطيع الآن أن يفهم لماذا لم تتدمر الصواري هي الأخري .. فقد كانت بعيدة كل البعد عن المراكز المستهدفة .. يتحرك خطوات للأمام ليشاركه في تلك الخطوات مساعديه, يتحدث عبر الخوذة قائلا :
  • تحركنا شرقا .. نحاول أن نجد زاوية رؤية أفضل, مازلنا نبحث عن أثر الضرر على الصاري.
    ليجيبه الصوت قائلا :
  • مفهوم .. أكمل بحثك, لا تبتعد.
    يبتعد قليلا ثم يتسلق أحد تلك الأطلال الذى ما زال قائما, ينظر حوله, السواد يغطى الأرض .. الشمس ما زالت مستحية لاتشرق, لكن مؤشر درجة حرارته يقول بأن درجة الحرارة تجاوزت الثمانون درجة مئوية .. يدرك أنه لولا بذلته تلك لذاب من الحرارة .. أو الاسرع لاختنق من قلة الأكسجين, ينظر إلى الصاري من على أحد جوانبه فلا يري أي شيء, يضغط زرا في خوذته فتُقرب إليه الصورة على زجاج الخوذة أكثر .. يبحث بدقة .. ينظر .. فلا يجد شيء, يدور حوله من زوايا أخرى, لاشيء .. ثم يرسل تقريرا آخر قائلا :
  • لا أستطيع تحديد مصدر العطل, الحاسوب لا يستطيع اكتشافه, نحتاج لأن نصعد أكثر من ذلك, فالسحابة السوداء تحجب عنا رؤية الجزء العلوي.
    فتجيبه القيادة :
  • المصعد يستطيع الوصول لنهاية الصاري, فقط كن حذرا.
    يعود بظهره إلى باب المصعد, ولكن عينه ما زالت معلقة بالأرض, يتسائل, كيف كان الحال هنا .. كيف كانوا يعيشون .. وألف كيف تدور فى رأسه, ولكن لا مجال الآن للأسئلة, فالواجب أولى من كل شيء, يعود أدراجه إلى المصعد, يضغط الأزرار فيغلق الباب تدريجيا, يغلق منهيا هذا المشهد المأساوي الذي يراه أمامه.
    يتخذ المصعد طريقه مرة أخرى للأعلى, اهتزازات عنيفة تلك المرة, ولكن المصعد لا يتوقف, وكأنه يقاوم, يتشبثون جميعا بمقابضا فولاذية داخل المصعد, تزداد السرعة أكثر حتى يغلبهم شعور أنهم سيلتصقون بالأرض من فرط السرعة, ثم بدأ في الهدوء .. هدأ تماما, إلى أن توقف, و فتح الباب مرة أخرى, ويا لهول ما رأوا تلك المرة .
    نحن دائما نسمع عن أشياء كثيرة, ولكن هل شاهدت نفسك يوما عندما رأيت شيئا سمعت عنه؟! ..الأمر مختلف تماما .. يصيبك الذهول في كل أركانك .. فى كل جوانبك .. قد يطعن حتى في الثوابت التى لديك .. لذلك فإن المستطلعون الثلاثة قد ألجموا تماما عندما نظروا إليها أول مرة .. عندما رأوا السماء .
    إنهم في نصف طبقات الغلاف الجوي الآن تقريبا, يرون سحابة الرماد الأسود من أسفلهم, و أيضا يرون السواد من أعلاهم, ولكن شتان .. شتان بين سواد تضيئه النجوم و تزينه الأنوار, وسواد صنعه البشر بأيديهم, فقط ليحافظوا على ما تبقى منهم, دار رئيس البعثة حول الصاري مذهولا بشكل النجوم في السواد الحالك, لا يستطيع أن يبعد ناظريه عن المشهد .. بل تمنى أن يبقى هنا طيلة حياته الباقية .. ولكن على عاتقه مهمة كبيرة .. فحياة من هم بالأسفل تتوقف عليه الآن .. إن لم يستطع إيجاد الأعطال والتبليغ بها وإصلاح البسيطة منها فستتوالى المصائب و ينهار كل شيء, هذا المعنى الذي جال بخاطره كان كفيلا بأن يجعله يدور على الممشي الدائري باحثا عن العطل, إلى أن التقط زجاج خوذته الحاسوبي عطلا بالأعلى في محولات ضوء الشمس المسئولة عن توصيل الضوء للأسفل, أوصل بذلته بقابس عمودي به حامل معدني مثبت بموتور داخل الصاري نفسه, ثبت بذلته بالحلقة المعدنية و رفع معصمه ليبدأ التحكم بهذا الموتور من خلال الحاسوب في يده, ضغط زر الصعود لتحمله الحلقة المعدنيه وتصعد به إلى أعلي نقاط الصاري, الصاري كان مليئا بالممرات الطولية و العرضية التى تمكنه من بلوغ أي مكان به, استطاع الوصول للعطل ولكنه لم يستطع إصلاحه, فهم يحتاجون معدات أكثر, ويحتاجون المهندسين و البنائين, نزل مرة أخرى آمرا مساعديه بالدخول إلى المصعد ليهبط بهم مرة أخرى إلى الأسفل, إلى الأرض السحيقة .

18 أغسطس – القاهرة الحديثة
عادت البعثة إلى الأسفل ومنظر الأرض الأم لا يفارقهم, لوهلة شعر رئيس البعثة بحنين غير مفهوم, شعر بالأسى تجاه كل من مات .. ولكن الترحاب الذي قوبل به كان مفاجئا مما جعله ينسي لدقائق تلك الحالة التى أسرته, ليجد الناس مهللين له و مهنئين على أنه أول رجل يصعد للأرض بعد الانفجار العظيم, ثم تفاجأ بوجود البعثة الثانية و قد تجهزوا تماما للصعود .. بخوذاتهم و بذلاتهم و حتى تقسيم الأفراد على كل طاقم والمعدات اللازمة .. وفي تلك اللحظة بدأت الشاشات تومض سريعا, ليلتفت الناس إليها, ويظهر هو .. بقلنسوته البيضاء التى تخفي وجهه بالكامل, وسترته البيضاء .. كانت تلك هي طريقة ظهور المقنع من بعد الانفجار العظيم, أصبحت الشاشات تومض بشكل متتالي وسريع فينتبه الناس إليها و يستمعوا منه ما يريد, ظهر كعادته صامتا.. لا يتحدث, إلا بعد ثلاثون ثانية .. ثم قال :
( مرحبا بعودتكم يا أبطال, لقد مُنحتم فرصة يتمناها الجميع, فهنيئا لكم هذا المجد, فملامستكم للأرض العليا كانت الأولى منذ الانفجار العظيم, حسنا .. فلتستريحوا أنتم, فالإحداثيات التى استطعنا جمعها من خلال رحلتكم ستكون بوابتنا لإصلاح الأضرار التى حدثت على مر السنين في صوارينا, و من اليوم قد أصبح لدينا قسم مفعل للصيانة فوق الأرض, وسيعمل على مدار اليوم و بعدد ساعات العمل المقررة, لنتفادى أي كوارث قريبة, نحن نسعى لسلامتكم, المجد للأخوية )
أنهى خطابه وفرحة قد تسللت بين الناس لمجرد فكرة أنهم سيصعدون على ظهر الأرض, وبدأت الأوامر بالفعل تأتي على الشرائح المزروعة برؤوسهم, لينطلق كل منهم إلى عمله ومكانه, أما الفرق المجهزة فبدأت في التحرك كل إلى مكان صعوده, كان الفريق يتكون من ثلاثة بنائين ومهندسين و طبيب, فمنهم من صعد في صواري الضوء و آخرون صعدوا في صواري الهواء و آخرون بدأوا في ترميم صواري الماء , بدأت الأقدام تدب مرة أخرى على ظهر الأرض, شعروا أن الأرض نفسها قد فرحت بعودتهم, كانت لهم مطلق الحرية في أن يتجولوا عندما يصعدون على ظهر الأرض ولكن لا يبتعدوا عن مصاعد الصواري تحسبا لأي شيء, فمهما كان, ما زالت تلك الأرض غريبة عليهم .. لا يعلمون عنها أي شيء.
1 سبتمبر 2212 – فوق الأرض
عمليات الإصلاح تتم, بل وزادت أعداد البشر الذين صعدوا على سطح الأرض, تم بناء بعد المخازن البسيطة لتصبح أقرب لتجهيز فرق العمل بالمعدات اللازمة, الحماس للإصلاح جعل الناس لا يريدون التوقف عن العمل, بل دعنا نقول, الحماس للوجود على سطح الأرض.
بعد انتهاء العمل نزل الجميع إلى أماكنهم, ولكن قبل أن يذهبوا لتناول وجباتهم ومضت الشاشات لتسترعي انتباه الحاضرين فينظر الجميع نحوها قبل أن يظهر المقنع, ليأتي هو بزيه المعتاد, ولكن وجهه ما زال تغطيه قلنسوته البيضاء, ثلاثون ثانية, ثم قال :
( إخوتي, حان وقت النهضة, حان وقت التغلب على كل ما فات, بعد أن تنتهي إصلاحاتنا, سنرسل فريقا طبيا ليحدد مستوي الإشعاع على سطح الأرض, فإن أصبحت الأرض آمنة سنبدأ في البناء, و إن كانت غير ذلك, فسنبقى هنا إلى أن تستطيع الأرض احتضاننا مرة أخرى .. فإن كل ما فعلناه كان من أجل تلك اللحظة, أن يسيطر الأحرار على العالم, الأخوية تفي بوعودها دائما, المجد للأخوية )
أنهى خطابه وقد تعالت الصيحات التى تنم عن فرح شديد بهذا القرار, السعادة تغمر الجميع, فلكم تمنوا تلك اللحظة التي يصعدون فيها فوق سطح الأرض, تلك اللحظة التى أخبرهم عنها أجدادهم الأحرار الأوائل, إنهم على وشك تحقيق ما أراده الأقدمون دائما, الحرية العادلة المتساوية, يدركون أن الأخوية صادقة, فقد عملت دائما من أجلهم بل ما زالت تعمل إلى الآن, الأخوية صادقة .. المجد للأخوية .
25 سبتمبر 2212 – القاهرة الحديثة
أرسلت الأخوية فريقا متخصصا إلى سطح الأرض ليحددوا مستوى الإشعاع الذي نتج من الإنفجار العظيم, وعلى أثر تقريرهم سيكون القرار مصيريا, إما البقاء تحت الأرض لفترة أطول, و إما الصعود لتشييد العالم من جديد.
منذ أكثر من عشرون يوما و الفريق البحثي يجوب الأرض مستكشفا معظم أماكنها لتحديد أقل نسب الإشعاع, واليوم هو اليوم الأخير لعرض التقرير الخاص بهم, الناس يعلمون ذلك, لهذا هم متلهفون بشوق لمعرفة الخبر, معظم من صعدوا إلى سطح الأرض يؤكدون تمام أن الأرض أصبحت صالحة للحياة, فهم قد رأوا بعض النباتات التى نمت هنا و هناك, استطاعوا أن يروا بعضا من آشعة الشمس تلامس وجه الأرض, بل شعروا بدفءها دون أن يلمسهم حتى, هم موقنون و كلهم أمل في أن يأتى التقرير متمما لتلك الفرحة, وبداية عصر جديد.
بعد أن تناول الجميع الغداء في مركز الإطعام, إذا بهم يجدوا الشاشات تومض ومضات متتالية سريعة, فانتبهوا جميعا ليظهر بعدها هو في كامل زيه, ثلاثون ثانية, ثم تكلم قائلا:
( إلى كل من عاش بيننا مؤمنا بقضيتنا, لكم منا كل السلام, تعلمون جميعا أن الأخوية على مدار أكثر من مائة و أربعون عاما لم تكن لها مطامعا شخصية, بل سعت لتحقيق العدل والمساواة و الحرية لكل من آمنوا بالقضية, فما فعلناه منذ زمن لم يكن إلا من أجلكم, وما نفعله حتى اليوم هو من أجلكم أيضا, وقد قمنا بإرسال فريق بحثي ليوافينا بمدى خطورة الإشعاع فوق السطح, وقد جاءتنا النتائج منذ دقائق قليلة و ستعرض الآن )
ومع آخر كلمة قالها المقنع, بدأ التركيز مع كلماته يزيد, والحماس يتصاعد, دقات القلوب تستطيع سماعها من على بعد أمتار, الكل ينتظر الأمر بالصعود, فالأمل أصبح وشيكا, وسينتهي عصر الإختباء بعد قليل, وسيشهد العالم ميلادا جديدا للبشرية.
أكمل المقنع قائلا:
(إن الفريق البحثي لم يدخر جهدا في هذا الأمر, وتقريرهم كان كالأتي :
مستوى الإشعاع على سطح الأرض ما زال كبيرا, قاتلا, الأرض ليست جاهزة لإستقبالنا بعد.
نعلم أنكم قد علقتم آمالا كثيرة, ولكن ما زال أمامنا وقت طويل, تأكدوا تماما أن العالم يتهيأ لنا, وسننتظره حتى يكتمل, المجد للأخوية, دائما )
اختفى من على الشاشات, مخلفا وراءه حزنا عظيما, الكل يعلم أن الأخوية تسعى لتحقيق كل ما هو جيد لهم, ولو استطاعوا أن يقللوا الإشعاع لفعلوا ولكن, هذا أمر ليس بأيديهم, هم يفعلون كل ماهو ممكن من اجلهم, ولكن من الواضح أن الوقت سيد لا يقبل المنازعة, وسيبقى الجميع تحت رحمته هو, حتى يأذن بأن يعود كل شيء كما كان .. ودون شعور وجدوا نفسهم يرددون, المجد للأخوية .. دائما.

2215 – القاهرة الحديثة
العمل يتزايد, وذلك بعد اضافة قسم الإصلاحات التى فوق الأرض, والذي لا يكف عن العمل أبدا, لذلك أمرت الأخوية بإنشاء أول مصنع يكفي إحتياجات التصليح اللازمة فالأدوات والقطع المطلوبة أوشكا على الانتهاء, وما زالت هناك الكثير من الإصلاحات, وفي خلال شهر واحد, تم إنشاء أول مصنع فوق الأرض, لقد تم تشييد البناء فقط, ثم وجد البناءون و كل من كان يعمل في هذا الشأن أن الحراس قد جاءوا بصناديق معدنية زرقاء قاتمة, بها مقبضين للحمل و باب الصندوق به لوحة لإدخال رقم سري, كانت أحجامها كبيرة, فأثارت الدهشة و الفضول في آن واحد, برز من بين الحراس رجلا قصيرا يرتدي عوينات دقيقة, أشار لهم بأن يفتحوا تلك الصناديق, فنفذوا الأمر في سرعة .. ليصاب الجميع بالانبهار مما يرون, فقد رأوا معدات قابلة للتجميع لتصبح ماكينات تصنيع عملاقة, أخرج صاحب العوينات بعض الورقات المكتوبة الجاهزة من جيبه وبدأ في توزيعها على أشخاص يختارهم هو, هو بذلك قد عين مسئولين عن تجميع تلك اللآلات و أخبرهم أيضا بفريق العمل داخل تلك الورقة, ثم تركهم ومضى .. وبقى الحراس وما زال هناك منهم من يخرج بصناديق مثل التى جاءت من قبل, بدأ الناس في الشروع في العمل, تغمرهم سعادة أنهم محظوظون للعمل فوق سطح الأرض, ولكن ما زال الأمر مقلقا, أين كانت تلك الآلات؟ وهل ما زال هناك آلات أخرى غيرها؟ ثم كيف تم تصنيعها من الأساس؟ عموما .. كل ذلك لا يهم, فالأخوية تعمل لمصلحة الجميع أولا, المجد للأخوية .
2218- القاهرة الحديثة
حالات اختفاء كثيرة و مريبة بدأت في الظهور, وخصوصا الأعمار من بين الثامنة عشر و الخامسة والعشرون, لا أحد يعلم أين ذهبوا ولكنهم فجأة .. يختفون, الحراس يبحثون دائما, ولكن الأهالي يأكلهم القلق, فكل من اختفوا كانوا من عمال المصنع, القلق ينخر في عقول وقلوب الناس, ولكن إلى الآن لا إجابة لكل تلك الأسئلة, هم يثقون أن المقنع سيجيب يوما ما, يثقون بالأخوية ثقة عمياء, حتى أنهم في تلك اللحظات كانوا يرددون عبارة واحدة, المجد للأخوية .. دائما.
2220- القاهرة الحديثة
حالات الاختقاء ما زالت في ازدياد, ولا أحد يعلم ما الذي يحدث, بل و دب الرعب بين الناس, فالبعض لا يريد الذهاب لعمله خوفا من أن يختفي, فمنهم من يقرر البقاء مع أسرته, ومنهم من يقرر البقاء وحيدا, ولكنهم جميعا يتشاركون في نقطة, أن من يخرج إلى العمل سيختفي يوما ما, فآثروا البقاء .. ولم يخرجوا طيلة يومين كاملين, إلا من أجل الطعام فقط .
وفي نهاية اليوم الثاني بدأت الشاشات تومض ومضاتها السريعة كالعادة, ليظهر المقنع في كامل زيه المعهود و لكن لأول مرة لم ينتظر مهلة الثلاثون ثانية, بل شرع في الحديث مباشرة قائلا:
(سنعطيك كل شئ .. مقابل ولائك الكامل لنا
العدل سيتم تنفيذه مهما كانت الظروف
الحرية غالية جدا .. سنبذل فيها حيواتنا ان لزم الأمر
كانت تلك بنودا من بنود صك الحرية الذي وافق عليه أسلافكم, و اليوم أنتم تخرقون تلك البنود, فمهما حدث لا يمكن أن تعطلوا حركة سير الحياة هنا, انتم المسئولون عن حياتنا و أنتم من بيدكم هلاكنا جميعا, نحن نعلم مدى انزعاجكم, لكننا كنا نبحث طويلا في امر الاختفاء ذلك, ووجدنا أن كل من اختفوا قد ذهبوا بمحض إرادتهم خارج أسوار المصنع ليستكشفوا الأرض, ووجدنا أيضا أنهم قد أزالوا وسائل التتبع من بذلاتهم حتى لا نعلم أنهم تركوا المنطقة الآمنة,وبذلك عرضوا أنفسهم للإشعاع القاتل الذي فتك بحياتهم.
(ثم بدأ فى عرض صورا لبعض الشباب المتوفين في منطقة ما على سطح الأرض, و قد تم انتشال الجثث وتجميعها كلها في مكان واحد, الكل يشعر بالذهول, بالشفقة, بغصة في القلب على كل من مات, ثم بدأ البكاء يعلوا في القاعة, فقد وصل لكل رب أسرة لديه فقيد, خبر على نظارته يفيد بأنهم عثروا على ابنه, أو لنكون دقيقين, عثروا على جثته )
ندرك تماما مدى الألم الذي يعتصر قلوبكم الآن, ولكن الخطأ كان ممن عصى اوامرنا و تعليماتنا, نحن نحرص على حيواتكم, فلا تضيعوها هباءا, غدا سيذهب كل منكم إلى عمله, وسنتغاضى عن ماحدث, وستكون تلك مرتنا الأولى والأخيرة في التغاضي, نحن دائما نعمل من أجلكم, الأخوية تعمل من أجلكم, المجد للأخوية .. دائما)
2243- القاهرة الحديثة
الوقت يمر, السنين تجري, والعمر يذهب دون جديد, الناس يشعرون أنهم في دوامة لا يخرجون منها, وكأنه أمل زائف زائل, هل سيأتي يوم يصعدون فيه إلى الأرض الحقيقية, إلى الدفء الذي يستمدونه من سويعات يعملونها داخل المصنع الكبير, هل سيجدون يوما هذا الوطن المنشود, الأرض التى ينتمون لها و تنتمي إليهم, أسئلة كثيرة تجول في الخواطر, في بعض الأحيان يتم عرض أفلام من عصر ما قبل الانفجار, من باب الترفيه وقتل الملل و وأيضا من باب الحفاظ على ما تبقى من الوطن, حتى و إن كان يتجسد في وردة متفتحة يبهر لونها الناظرين, يسمعون عن الحب, ولكن أين هو, فالتناسل و التكاثر والزواج أصبح فرضا بل وعبئا ثقيلا, فهو لم يعد شعورا جميلا كما كان, أو كما كانوا يسمعون, بل الأمر أصبح ميكانيكي بحت, فهم لا يمارسون الجنس إلا من اجل الإنجاب فقط, ولا شيء آخر, أن يختلي الرجل بامرأة- أيا كانت- لهو امر شائع هنا, ولا يجرمه أي قانون- إلا بعض المحافظين على ما تبقى من آثار ما كان يسمى بالدين قديما- فقط يجب أن تخبر الام عند الولادة من هو والد الطفل, ولا شيء آخر, بعضهم يكون عائلات و البعض يرى أن يكون وحيدا لهو أفضل بمراحل, ولكنهم جميعا يتشاركون في افتقادهم للمتعة, الحياة بشكل ما, أصبحت بلا طعم, أن تعيش لمجرد أنك تتنفس, دون هدف, دون أمل, ان تعيش لانك من المفترض ان تعيش, ولا شيء آخر .. ولكن, الأخوية قد وعدت أنهم سيصعدون يوما إلى سطح الأرض.
الكل يدرك أن الأخوية دائما تفي بوعودها مهما كانت مستحيلة, ولكن الأمر يتطلب وقت, بل وربما الكثير من الوقت, عموما .. الأخوية دائما تعمل, تدير كل شيء بأفضل الصور, قد لا يعيشون ليروا هذا الوقت الذي ينعمون فيه بالانتصار الموعود, ولكن يوما ما, سيذوقون طعم الانتصار, وطعم الحرية .. ودون شعور أصبحوا يرددون دائما .. المجد للأخوية.
2340- القاهرة الحديثة
إن الأرض التي تربى فيها الإنسان, قد يخشى يوما أن يفارقها, لهذا نجد الحنين للأماكن التى تربطنا بها ذكريات ما.
الأرض الجديدة التى يعيش عليها البشر الآن يشعرون فيها بالأمان, حتى أن بعض الناس قد آثروا العمل تحت الأرض, فهم لا يريدون الصعود للعمل بالأعلى, يرون أن المكان هنا مريح وآمن, بعيدا عن صخب الأرض ورياحها و حرارتها وكل ذلك, هم يحبونها تماما, ولكنهم لا يريدون أن تكون هي مسكنهم, فهم قد ولدوا في هذا المكان و بين تلك الجدران, لذلك قد قرروا أن يموتوا فيها, فتقديرا للمكان الذي احتواهم وقت الولادة, أن يقضوا أعمارهم فيه إلى نهايتها, وتلك كانت وجهة نظر البعض, ولكن ليس كل ما نريده نجده.
فقد سمع الجميع بالبعثة الثانية التى ستحدد مدي تشبع الأرض بالاشعاع وهل ستصلح للحياة الآن أم سينتظرون وقتا أطول, الأمر كان ذا أهمية للبعض, والباقون قد رضوا بتلك الحياة كما هي, دون حتى التفكير في أي قادم, أو حتى في أي مما مضى, هم فقط يعيشون, ولا شيء آخر.
ومضت الشاشات ومضاتها السريعة ليظهر بعدها المقنع كما علمه الناس, بزيه الأبيض ورداءه المعهود,انتظر ثلاثون ثانية ثم قال:
( إلى الذين أرادوا الحرية في كل لحظة, و إلى الذين عملوا بكد لنواصل مسيرتنا العظيمة وطريقنا الصعب نحو الاستقلال, أحييكم جميعا, الأمل بدأ يظهر في الأفق, تقارير الباحثين تخبرنا أن الأرض قد تعافت مما حدث, وهي الآن جاهزة لاستقبالنا, استعدوا .. فقضيتنا أتت ثمارها أخيرا, سنبدأ التعمير و البناء من اليوم, لنعد إلى أرضنا الأم, ونكلل انتصارنا القديم بالحديث, الأخوية تفي بوعودها دائما, المجد كل المجد .. للأخوية)
هلل الجميع في فرح غير مسبوق, فإن ما عاشوا له قديما بدأ في التحقق, أخيرا سيطئوا الأرض بأقدامهم دون خوف, ستبدأ الحياة بين أيديهم تلك المرة, المجد للأخوية .. كل المجد لها .
في صباح اليوم التالي بدأت مهام جديدة في التوزيع على الناس, وكلها كانت عبارة عن بناء حوائط و أسوارا, وعلى مسافات شاسعة, لم يعلم الكثيرون لما كل هذا البعد بين الحوائط التى يبنوها, و الغريب في الأمر أنهم كانوا يتلقون أمرا بأن يبنوا حائطا في مكان ما, حائط واحد فقط, في أماكن متفرقة, بدأوا بالصعود إلى الأعلى والحماس يلهب أجسادهم, فأخيرا سيتم البناء, وستكون الحياة الحقيقية.
هناك الكثير ممن لم يروا سطح الأرض من قبل, لذلك كانوا مشدوهين لكل شبر يكتشفونه بأعينهم, ارتدائهم البذلات كان من أجل الحماية ثم بدأ التعود على الضغط ودرجات الحرارة, كل التحكم بالبذلات كان يتم إدارته من داخل مركز القادة- فالأخوية تعرف أكثر, وتعمل لمصلحة الجميع- بدأوا في السير من خلال الخرائط المثبتة على معاصمهم بالبذلة, ومعهم أدوات البناء وكل ما يحتاجونه في حاملة لتلك الأغراض يسمونها (موجول) تشبه الناقلات الكبيرة ولكنها على شكل أصغر يوضع داخلها المعدات كلها داخل صندوقها الواسع المكشوف من الأعلى بلا سطح والذي يتوسطها تماما, وما أن يتم ملأها بالمعدات و الأدوات حتى يخرج من جانبيها اثنا عشر مقعدا ليجلس عليه الأفراد, وللأمان فإن المقاعد تغلق واجهتها بقبة زجاجية مقاومة للكسر مما تتيح الرؤية للراكب والحفاظ عليه.
ال(موجول) يقودها سائق محترف, فقد صممت بشكل يجعلها تشق طريقها وسط أي شيء ولا يوقفها شيء, فمقدمتها المعدنية المثلثة الشكل قادرة على فرق أي شيء أمامها إلى نصفين, كما أنها تسير بستة عجلات كبيرة قادرة على تخطى الطرق الوعرة, ومحرك دافع قوي مما يجعلها قوية في أي موقف, ال(موجول) لم تكن تستخدم تحت الأرض, فهي صممت خصيصا للسير فوق الأرض, وها هي تعمل بكفاءة.
كل مجموعة كان لها قائد يجلس بجوار سائق ال(موجول) يوجهه على حسب خريطته, ولكن الغريب في الأمر أن الناس كانوا يذهبون لموقع ويبدأون العمل فعلا, ثم يفاجئوا أن العمل كان عبارة عن تشييد حائط وحيد في مسافة شاسعة, يذهبون للمهمة التالية فيجدوها مشابهة لمهمتهم الأولى وهكذا, حتى أن بعض المهمات النى يذهبون إليها كانوا يجدون مبنى كاملا قد تم تشييده, ولكنه ينتظر حائطا أو سقفا أو حتى باب, هم لا يدركون لم يحدث هذا ولكنهم يثقون تماما بالأخوية, و من المؤكد أن هذا هو القرار السليم فالأخوية أوصلتنا إلى هنا, المجد للأخوية, كل المجد لها.
2357 – القاهرة الحديثة
معالم البناء بدأت إلى حد كبير فى الظهور, ولكن انتقال الناس الكامل لم يتم بعد, فقد تم إحاطة منطقة كبيرة بأسوار عالية شاهقة, وتم بناء مستشفي كبيرة جدا وقد اطلقوا عليها اسم (المصحة) استحوذت المستشفى على ثلثى المساحة داخل الأسوار, ففيها يتم تعقيم الطعام وتصنيفه, والمشروبات كذلك أيضا, كما أن هناك قسما كبيرا للتجارب العلمية و استخراج الأدوية للأمراض الجديدة التى ظهرت, وبها غرفا للعمليات بأحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا, وقد كرست (المصحة) بأطباءها معظم المجهود لمعالجة المشكلة الكبرى التى تواجه الجنس البشري كله, ألا وهي معضلة ( منطقة بروكا) الجزء في الدماغ المسئول عن الكلام وتكوين الجمل, فإلى الآن ما زال الكلام محرما, وبرغم التقدم التكنولوجي الموجود, إلا أن التكنولوجيا كانت متاحة لكن ليست للجميع وليست لكل شيء, فما زال هناك من يتعاملون بالمفكرات والأقلام إلى الآن.
ثم في نصف الثلث المتبقى من إجمالي المساحة تم بناء ألف وحدة سكنية شاهقة الارتفاع, تصل الواحدة فيها إلى ثلاثون طابقا, وبكل طابق خمسة شقق, معقولة المساحات وتوفر الكثير من الراحة, الشوارع بين الوحدات رائعة, و ينصف كل شارع طوليا خطا طويلا من النباتات المختلفة بمنظرها الخلاب,و كان يتم توزيع الوحدات توزيعا عادلا, فيتم اعطاء الوحدة لفرد من كبار أعضاء الأخوية, ثم يليه فرد من البنائين, ثم يليه المهندس, و بعده المزارع, ثم الطبيب, وكان يتم مراعاة التوزيع على أساس الأسر أيضا, فرب الأسرة له الأولوية عن المنفرد بحاله, وهكذا تم التوزيع, كانت هناك خطط لبناء المزيد من الوحدات السكنية وقد بدأوا في تنفيذها, ولكن خارج أسوار تلك المدينة.
المتبقي من المساحة كان عبارة عن مركز كبير للتسوق يستطيع الفرد أن يأخذ منه ما يريد بنظام المرتب, فقد أصبح الناس يتقاضون أجرا الآن, ولكن الأجور لم تكن نقودا يمسكونها بين أيديهم, بل أصبحت عملات رقمية يحتفظون بها داخل شرائحهم الإلكترونية مما يزيدها امنا, كما أن بجوار مركز التسوق تم بناء ناد للترفيه و مقهى لبيع المشروبات ومطعما, لتلك المدينة باب واحد كبير, شاهق, لا يفتح إلا مرتين في اليوم, وفي المرتين كانت تدخله مركبات ال(موجول) محملة إما بالمعدات و العاملين بها, أو بالمؤن التى تزود المدينة بكل ما تحتاجه من طعام ومشروبات ودواء وملابس, دائما كانت الحراسة مشددة على الباب, لا أحد يدري لما هناك حراسة, فمن عديم العقل الذي يترك كل هذا الترف و يذهب إلى الخارج.
وفوق هذا الباب العريض حُفر فوقه بخط عربي عريض جدا من الداخل والخارج كلمة أصبحت اسما و عنوانا لهذه المدينة .. كتب فوقه ( القاهرة 1030) .

2367- القاهرة 1030
عمليات نقل الناس من الأسفل للأعلى كانت مرهقة جدا, بل وصعبة, ولكن الكثيرين استطاعوا أن يتأقلموا على تلك الحياة الجديدة بل و ألفوها تماما, السعادة بدأت في شق طريقها إلى البشر مرة اخرى, ولكن مهلا .. هل كانت هناك سعادة قبل ذلك؟
استيقظ الدكتور( حازم) من نومه في تمام الثامنة, يقوم مترنحا مجهدا, يدرك أهمية عمله لذلك استيقظ, جلس على فراشه المربع ذو المرتبة المائية التى توفر له الراحة التامة أثناء النوم, وهي أيضا توفر له الكثير من الكوابيس والأحلام المزعجة, حسنا من الواضح أنه لا توجد راحة تامة من الأساس.
يقوم ممسكا بجهازه اللوحي الذي يحوي بيانات مرضاه وجداول سير العمل, يتفقده فلا يجد جديدا, الأمور اليوم ستكون كالمعتاد إذا, قام من سريره إلى حوض الماء ليزيل عنه أثار النوم, ولكنه متعب ويريد الخلود للنوم مرة أخرى ولكن لا يستطيع, يحاول أن يزيد من جرعة الماء على وجهه حتى يستيقظ تماما, يخرج من المرحاض متجها إلى حجرة ملابسه ليرتدي ملابس العمل ويبدأ يومه كالمعتاد.
نزل من مسكنه في الطابق العشرون عبر المصعد الفائق السرعة والذي قد طورته الأخوية جدا, واتجه إلى وسيلة نقله و التى كانت سيارة ولكن بمقعد واحد يتوسطها مما جعلها صغيرة الحجم, الناس هنا يشترون السيارات على عدد أشخاص الأسرة, وبما أنه كان وحيدا, فلم يحتاج أن يحظى بكرسي آخر, فهو وحده وكفى.
يتجه إلى المطعم ليتناول فطوره ثم إلى المقهى ليحتسي بعض القهوة التى تساعده على اتمام يومه, وبعدها يذهب إلى المصحة ليباشر العمل.
قفز بخطوات رشيقة صاعدا سلالم باب المصحة, عبر من الباب محييا فرد الحراسة بإيماءة من رأسه دون كلام, يسير في الممر ليجد لافتة عن يمينه
( الكلام ممنوع, لراحة المرضى)
ينعطف بعدها يمينا ليجد لافتة أخرى
( الحديث يخل بنفسية من لايستطيعون الكلام, استخدموا المفكرات)
يعبر جوارها متجها إلى مكتبه, يدلف إليه سريعا, الهدوء و السكينة يغلفانه, يجلس خلف المكتب مريحا جسده قليلا, أمامه لوحة شفافة مكتوب عليها دكتور ( حازم مراد).
يبدأ فى مراجعة مهام عمله للمرة الثانية لهذا اليوم, يفتح درجا فى المكتب ويزيح مصباحا صغير وسكينا صغيرة ليأخذ بعض الحاجيات و يضعها في جيب معطفه ثم يخرج متوجها لفحص المرضى.
منذا الانفجار العظيم و قد حل بالبشرية الكثير من الأمراض, لحسن الحظ أن الأخوية قد استطاعت ان تنقذ الكثير من المركبات الدوائية التى ساهمت بشكل كبير فى الحفاظ على الجنس البشري قويا و خاليا من معظم الامراض الى الآن, ولكن المرض العضال الذي لم يعلموا بوجوده إلا بعد فوات الأوان, هو ضمور منطقة بروكا تلك, و الذي يعانون بسببه حتى الآن, ولكن الأخوية ما زالت تقوم بالفحوصات والتجارب لحل هذه المشكلة و القضاء على المرض, حتى أن هناك الكثير من المتطوعين الذين يعانون من هذا المرض والذين قد وهبوا أنفسهم للمصحة لإجراء العلاجات الجديدة عليهم, إنهم يتأذون نفسيا جدا, فقدرتهم على السماع لم تضمر, يستطيعون سماع كل شيء, ولكنهم لا يستطيعون قول كلمة واحدة, وهذا أمر مؤلم بحق.
يبدأ الدكتور (حازم) يومه بأول فحص, يدخل إلى غرفة المريض الأول, لم تكن غرفة كبيرة جدا, ولكنها كانت كافية لتحمل فراشا و بعض الأجهزة الطبية وكاميرتين مثبتتان في زاويتان من زوايا الغرفة, فقط لمتابعة المرضى و متابعة نشاطهم, كما تم تزويد الفراش بجهاز لوحي على طرفه موضح عليه كل ما مر به هذا المريض و عدد الأيام التى قضاها في المصحة, ينظر إلى تقرير حالته من خلال الجهاز اللوحي, يعلم عدد الأيام التى قضاها و الفحوصات التى خاضها فيقرر أن يعطيه الجرعة الدوائية (لاكس), يسحب الدواء بالمحقن ثم يضعها داخل جهاز مثبت بذراع المريض لينتقل المركب إلى جسده بسرعة, يبتسم للمريض ابتسامة عريضة ثم يخرج من الغرفة, و يذهب إلى المريض الثاني, و هكذا يكون يومه.
ان الدكتور (حازم) في معظم الأحيان لا يرى أطباء كُثر داخل المصحة, لا يقابلهم, إلا فى أضيق الحدود, ماعدا مدير المصحة الدكتور (عمار), الذي كان مرجعا لكل ما يريده (حازم), ينهي يومه, يعود إلى مكتبه, يلملم أشياءه ثم يخرج, يستقل وسيلة انتقاله و يمر على المطعم ليتناول وجبة غداءه والتى تحتوى دائما على البازلاء, هو يكره البازلاء لذلك يفرغها في كيس صغير, ثم يلقى بها في اقرب صندوق مهملات, ان الأخوية قد فرضت قانونا اسمه قانون الاهدار, فلا يجب على أي مواطن أن يهدر ولو جزء صغير من طعامه والا تعرض للعقوبة, لذلك هو يخفي كرهه للبازلاء, حتى لا يعاقبوه على اهداره.
ثم يشرب بعض القهوة و بعدها يصعد إلى منزله, تلك حياته, ولا شيء آخر, كان يحاول أن يملأ هذا الفراغ دائما, ولكنه لم يجد ما يملأ فراغه, ففي بعض الأحيان يفكر, ماذا كان قبل كل ذلك, ينظر من شرفته فيجد صورة كبيرة للمقنع الذي لم يظهر منذ زمن, مكتوب تحتها ( الأخوية تحميكم دائما).
لا يفهم لماذا من المفترض أن تحمينا الأخوية, ثم و من ماذا تحمينا وقد قضوا على كل ما كان شريرا يوما ما, نحن نعيش في سلام مطلق, سمعوا قبل ذلك عن الحروب في عهد البشر القديم, بل كان هناك يوما أسبوعيا يجلس كل شخص أمام شاشته ليشاهد بعض الوثائقيات التى أنقذها الأخوية, ليدركوا كيف كان حال الأرض, الجميع يعلمون أنه لا يراهم أحد, ولا يراقبهم أحدو ولكنهم كانوا ينتظرون هذا اليوم أسبوعيا فقط للحصول على بعض من ما مضى, (حازم) كان يجلس ليبحث, هو لا يدرى عن ماذا يبحث, ولكنه يبحث, يبحث عن هوية, عن وطن, عن أي شيء, كان دائم التفكير بلا انقطاع, يفكر حتى فى الأدوية التى يعطيها للمرضى, هو موكل بنوعين فقط من الدواء, (لاكس) و (روكس) الأول للمرضى الذين لم يقضوا أربعة عشر يوما في المصحة, و الثانى لمن أتم الأربعة عشر يوما.
خطر على باله سؤال آخر, كيف لم يلاحظ أن المرضى لا يبقون اكثر من أربعة عشر يوما, نعم .. فبعد تلك المدة يتبدلون تماما, يأتي مرضى آخرون, بأشكال أخرى, بأعمار مختلفة.
لقد سأل يوما الدكتور(عمار) عن هذا السبب فكان الرد مقنعا, أن هؤلاء قد أكملوا فترة علاجهم هنا وتلك فترة تجهيزية, ليتلقوا علاجا أفضل و أقوى, حتى أنه أراد أن يشارك في المرحلة الثانية من العلاج ولكن الدكتور(عمار) أخبره أنه يحتاجه هنا أكثر, ويوما ما سينتقل إلى مراحل أخرى من العلاج, بل أنه هكذا يساعد الناس بشكل أفضل, تركه (حازم) وهو يرى أن الدكتور (عمار) يقف في طريق نجاحاته لا أكثر, ولكن كيف سيفعل ذلك و قد كان الوحيد الذي يهتم بكل شئونه, هو لايعلم أحدا غيره, بل وهو الوحيد الذي يسمح له بالتحدث خلسة دون اللجوء للكتابة, فيعيد توازن عقله ويخبر نفسه أن الدكتور(عمار) يعلم أكثر و يدرك ما الصالح دائما, فهو قلما ما يخطيء.
(حازم) لا يتذكر الستة وثلاثون عاما التى مضت من عمره, هو يدرك أنه يبلغ هذا السن الآن, ولكن لا يتذكر سوى أنه ولد هنا, و عاش هنا, وتلقى تعليمه هنا, الآن يعمل بالمصحة كطبيب, تسائل يوما, ألم تكن له زوجة, أولاد, أب, أم .. أي شخص يعرفه, يشعر بحنين لأشخاص ليسوا هنا, يشعر بالوحدة الدائمة, الوحدة فقط, ولا يدري كيف يقتلها, يذهب إلى فراشه, يتدثر جيدا, ويغط في شبه نوم, معاندا لكل الأفكار, مستسلما لواقع لا يعلم عنه شيء.
صباح اليوم التالي يقوم(حازم) من نومه – كالعادة- يرتدي ملابسه ويكرر ما يفعله يوميا إلى ان يذهب إلى المصحة, يدخل إلى مكتبه ليأخذ بعض من مركبات (لاكس) و(روكس)و يدسها في جيب معطفه ويبدأ العمل ككل يوم, و بينما هو في الممر تقابله ممرضة تسير عكس اتجاهه بعربة طعام, يحييها بابتسامة و إيماءة فتحييه بالمثل, يلقي نظرة على الطعام الذي يقدم للمرضى فيرى أن معظمه من الخضروات, يبتسم لرؤيته هذا الاهتمام من المصحة بالناس, يشكر الأخوية في سره من أجل ذلك, ويكمل طريقه, يدخل إلى المرضى, يتابع حالاتهم, ويبدأ في اعطائهم الحقن, يدخل إلى غرفة من الغرف, فيجد من بداخلها امرأة, للحظة شعر بشء غريب نحوها, شعر أنه يعرفها ولكن لا يتذكر التفاصيل, هل ضياع التفاصيل بسبب شحوبها, أم رأسها الحليق؟ .. لا يدري, هو فقط يشعر أنه يعرفها حق المعرفة.
نظر لها محييا إياها بابتسامة وإيماءة ولكنها لم تردهما بأي شكل, لم يخفى ابتسامته بل تقدم إليها لينظر إلى حالتها عبر الجهاز اللوحي, فيجد أن اليوم هو الرابع عشر لها, يتعجب لذلك, كيف يكون اليوم هو الرابع عشر لها وهو يراها لأول مرة, حسنا, قد تكون مريضة خاصة بطبيب آخر و أسند إليه اليوم متابعتها, يخرج من معطفه مركب ال(روكس)و يسحبه بالمحقن ويدفعه بالجهاز المثبت بذراعها ليبتلعه الجهاز موصلا إياه إلى ذراعها في لحظات, يسحب المحقن ثم يدير ظهره لها ويتجه للباب.

  • شكرا لك يا دكتور (حازم)
    يتسمر مكانه .. يشعر بشعور غريب, فوقع اسمه على مسامعه له زهو يشعر به أول مرة, لقد سمعه من قبل, ولكنه لا يدري أين.. يندهش .. تختفي الابتسامة .. يستدير إليها في بطء
  • أرجوك قف مكانك, تقدم خطوتين ولاصق الباب ثم استدر, حتى تخرج عن مجال رؤية الكاميرات.
    تصيبه الدهشة مرة أخرى, كيف لها أن تعلم كل تلك المعلومات, ثم كيف لها أن تتحدث من الأساس, إنها من المصابين بضمور منطقة بروكا كيف لها أن تتحدث.
    ينفذ ما تقول, ثم يستدير إليها .. قائلا:
  • كيف؟ .. كيف تسطيعين التحدث؟ .. بل كيف تعرفين اسمي؟
  • أنا أعلم أكثر مما تظن يا دكتور(حازم)
  • ومن أين لك بكل تلك المعرفة؟ .. أنا حتى لا أضع شارة مكتوب عليها اسمي أو ما شابه, أنا مجهول الهوية بالنسة لك.
    فتجيبه قائلة :
  • بكل بساطة .. فإن لي بك صلة وثيقة .. فأنا .. زوجتك .
    يضرب الذهول عقله ليقول لنفسه.. ماذا تقول تلك المجنونة, ثم كيف تكون زوجتي و انا لا أعلمها أصلا, من المؤكد أن بعقلها خرف, ولكن كيف تخرف وهى قد علمت اسمي دون أن أنطق به حتى, لا تخرف فهي تعلم أن الكاميرات هنا للمراقبة فقط ولا يوجد بها ميكروفونات, هناك شيء غريب حول تلك المرأة, شيء عظيم.
  • ماذا؟ .. زوجتي؟ كيف تكونين و أنا لا أعرفك حتى؟
  • أنت لا تعرفني ولكني اعرفك تماما يا دكتور (حازم مراد) و كلنا نعرفك, قد لا تصدق ولكن لدي دليلا سيجعلك تصدقنى تماما
    فيجيب في لهفة من يريد التصديق ولكنه في نفس الوقت لا يريده
  • ماهو؟ ماذا لديكِ؟
  • لن تجدني هنا بعد اليوم.
    يحادثها مندهشا, فهو لا يدري من أين علمت أنها لن تكون هنا بعد ذلك فيقول
  • لماذا لن تكوني هنا بعد اليوم, أنتِ تتلقين علاجك و أصبحت أنا الطبيب المسئول عنك لذلك سأراكِ يوميا
    فتبتسم ابتسامة تهكمية ثم تقول
  • لن تراني أبدا, فاليوم .. آخر أيام حياتي .
    يا لهول ما يسمع, ضربات قلبه تتزايد, لا يدرك مايحدث له, تلك المرأة بها شيء غريب يجعله يصدقها, بل .. وبدون شعور, يشعر أنه على حافة الفقد, لا يدري أمن حقه ان يشعر هذا الشعور مع امرأة لم يعرفها الا منذ دقائق معدودة لكنه يشعر بشيء نحوها, فيكمل وقد تهدج صوته قائلا:
  • كيف علمتِ ذلك, إن مؤشراتك الحيوية تقول بان صحتك جيدة.
  • حتى و إن كانت, فحقنتك قد حكمت علي بذلك.
    تضرب عقله بكلماتها مرة أخرى, يندهش و تخرج من عينه دمعة لا يعلم بوجودها إلا عندما تدغدغ خده في طريقها للهبوط و يتذوقها بفمه المفتوح من الدهشة قائلا
  • أنا؟! .. حقنتي؟! لا لا يمكن, أنا استخدمها للعلاج و ليست للقتل.
  • أنت تعتقد ذلك, ولكن الحقيقة مغايرة دائما يا زوجي العزيز.
    الدموع بدأت في التلاحق ماذا يفعل الآن, حتى و ان كانت تكذب فتلك الملامح الهادئة والعينان الحانيتان و الابتسامة التى تحولت لعذوبة يلمسها, لا تكذب .. كل ذلك لا يكذب, يحاول أن يقنع نفسه أنها مريضة وتلك مجرد ترهات تنطق بها, فيبدأ في تمالك نفسه ثم يقول:
  • أنا لا أصدق
    لتنطق هي قائلة
  • وتلك عادتك دائما, لا تصدق حتى تلمس الحقيقة بيدك.
    يدير ظهره لها ثم يهم بفتح الباب فتنادي عليه قائلة:
  • (حازم) .. لا تترك معطفك اليوم في المكتب, خذه معك و تمعن ما فيه.
    لم يستدر لها, بل فتح الباب و خرج, وقبل أن يغلقه نظر إليها من الانفراجة البسيطة, ليري وجهها وترتسم عليه تلك الابتسامة التى تزين هذا الوجه, فأغلق الباب, ومضى في طريقه.
    يعود (حازم) إلى بيته منهكا,يدلف من باب الشقة ويلقي بحاجياته على كرسي قريب, قلبه به غصة .. تلك المرأة التى رآها لم تكن عادية, بل ولم يشعر أنها كاذبة, شعر نحوها بقرب غريب, شعر بألفة لا يدرك مصدرها, عقله لا يكف عن التفكير فيها, تذكر كلماتها
    ( لا تترك معطفك اليوم في المكتب, خذه معك و تمعن ما فيه)
    عاد الى الكرسي الذي ترك عليه أشياءه و أخذ المعطف من بينهم, يفتش في جيبه الأيمن, فلم يجد شيء, الأيسر .. وجد داخله شيء ما, أمسك بذاك الشيء وأخرجه فإذا هي ورقة مطوية بعناية, من الواضح أنها قد كتبت منذ فترة , وكأن تلك المرأة تجهزت لمثل هذا اللقاء, فتح طياتها ببطء من يسير لأول مرة و يخشى السقوط, حتى أصبحت أمامه واضحة كاملة ليقرأ ما جاء بها:
    زوجي الحبيب, (حازم)
    وددت أن أراك قبل ذلك, بحثت عنك كثيرا, كلنا بحثنا عنك, ولم نستطع أن نجدك إلا منذ أيام قليلة, ان كنت ما زلت تهتم لأمري فسامحنى على دخولي بتلك الطريقة إلى مكان عملك, لم يكن من المفروض أن نتقابل هكذا, ولكنهم أمسكوا بي أيضا ووضعوني أمامك, يختبرون قدرتهم على كل ما فعلوا, من الواضح أنهم قد نجحوا في ذلك, جعلوك تراني بشكل غير مباشر في كثير من المرات, ولكنك لم تتعرف إلي, لم أستطع أن ألفت انتباهك في أي من تلك المرات, فقد كان دائما هناك من يراقب, كنت أخشى عليك, وما زلت أخشى عليك, إن كنت تقرأ تلك الرسالة فمن المؤكد أنك قد حقنتني بمركب ال (روكس) القاتل, أعلم أنك مندهش, بل و ما زلت غير مصدق, إن أردت لمس الحقيقة كما تفضل دائما, فاذهب للخارج, إلى خارج الأسوار ..
    هنا لمعت عيناه, تلك الفكرة لم تخطر على باله قط, إن كل ما يعلمه عن ماهو خارج الأسوار أنه تم نقل المصنع الكبير بعيدا, ولكن ما زالت هناك مناطقا مميتة من أثر إشعاع الانفجار العظيم, لذلك هم لايخرجون أبدا, و قوات الحراسة تستخدم عربات ال(موجول) للتنقل و الحصول على ما يستطيعون من مؤن و خامات صالحة للبناء و إعادة الإعمار, ولكن فكرة الخروج نفسها دغدغت عقله وحفزت داخله شيئا ما, شيئا لم يشعر به قبل اليوم .. أكمل قرائته لنص الرسالة التى تقول :
    إلى خارج الأسوار .. اتبع السور الأيمن حتى نهايته, و ستعلم أنت الطريق وحدك عندها, ولا تنسى اخفاء كيس البازلاء الذي لا تفضلها دائما في وجبة الغداء, اعتن بنفسك عزيزي, وليكن طريقك مملوء بنا .
    المحِبة دائما
    زوجتك
    انتهت رسالتها, و هو لا يصدث كيف علمت كل ذلك, حتى طعامه الذي لا يحبه, تلك المرأة ليست عادية, عيناه تسيل منها دموعا لا يعلم مصدرها, لا يعلم ماذا يفعل, ماذا يقرر, أيتبع حدسه الذي ينبئه أن ما تقوله تلك المرأة صحيحا, أم يعيش بسلام كما اعتاد أن يعيش, لا يعلم ماذا يفعل, لأول مرة يشعر أنه غير قادر على اتخاذ قرار, ولكن .. منذ متى و هو يتخذ قرار أصلا, هو لم يقرر أن يعمل هنا, هم لم يقرر أن يسكن حتى في هذا الدور المرتفع, لم يقرر شيئا من قبل, قام من غرفته متجها إلى مطبخه ليتفاجأ أنه لا يملك مطبخا, مجرد مساحة خالية.
  • ما هذا ؟
    يسأل نفسه :
  • هل أعيش هنا دون مطبخ؟
    يتذكر الآن أنه لم يحتاج إلى وجود مطبخ إطلاقا, فدائما هو يأكل في المطعم و يأخذ مشروباته التى عادة ما تكون القهوة من مقهى المشروبات, ثم يعود لبيته لينام, هو لم يحتج مطبخا أصلا.
    الدهشة تغلف اليوم, يرتدي ملابسه ثم يخرج من مسكنه متوجها للأسفل, ولكن يلفت انتباهه تلك الصورة الموضوعة على الحائط أمام باب شقته تماما, صورة المقنع وقد كتب تحتها ..
    ( نحن نراك .. الأخوية تعلم كل شيء)
  • مريب
    هذا ما قاله قبل أن ينزل إلى الأسفل مستقلا المصعد, خرج من البناية مستقلا وسيلة انتقاله ومتجها إلى المقهى, وما أن وصل حتى قابله النادل بابتسامته المعهودة ثم قبل أن يطلب شيئا وجد أن النادل قد جاءه بقهوته المعتادة, جلس قليلا يفكر في كل ماحدث اليوم, ارتشف رشفات قليلة من القهوة وهو ما زال يفكر, تذكر صوتها عندما نادته, تذكر تلك الابتسامة التى يشعر في قرارة نفسه أنه يعرفها, ولكن من تكون حقيقة؟ يجب أن يتضح كل شيء, سيعلم ان كانت كاذبة أم لا في الصباح, سيذهب إلى غرفتها ليرى إن كانت مازالت موجودة أم لا, سيفعل ذلك صباحا قبل أن يقوم بأي عمل, قام من المقهى مستقلا وسيلة انتقاله متجها إلى المنزل, صعد البناية متجها إلى شقته, دلف إليها متجها إلى حجرة نومه, ألقى جسده على فراشه بعد أن خلع ملابسه, أغمض عينه, وغط في نوم عميق.
    صباح اليوم التالي, قام من نومه متثاقلا, يشعر أن جسده وكأنما دهسته أحد سيارات ال(موجول), يقوم ليجهز نفسه للعمل, يتانق كعادته ثم يأخد معطفه و حقيبته و يخرج من باب مسكنه, المصعد أمامه, ولكنه أراد أن يجرب شيئا جديدا هذه المرة, لم لا يستخدم السلالم؟, يريد أن يخلق تغييرا لذلك الروتين اليومي, فيتقافز على السلالم برشاقة لم يكن يدرك أنه يملكها من الأساس, وفي كل دور كان يجد صورة للمقنع, تحمل نفس الكلمات
    (نحن نراك .. الأخوية تعلم كل شيء)
    لم يعلم لم أصابه تكرار تلك الصور في كل دور بانقباض في قلبه, لوهلة شعر بالخوف, شعر أن المقنع في الصورة ينظر إليه, ينظر إلى عينه تماما, فقرر أن يغير الخطة, ويستقل المصعد, فلا يريد أن يتأخر على عمله.
    خرج من البناية مستقلا وسية انتقاله الى المطعم و منه الى المقهى ثم الى المصحة, دخل الى المصحة وذهب الى مكتبه ليزود نفسه ببعض من مركبات ال (لاكس) و ال(روكس) ليبدأ العمل.
    ولكن مهلا, لقد تذكر تلك المرأة, كيف له أن ينسى من الأساس, تذكر فاهتاجت مشاعره مرة أخرى, خرج دون أخذ شيء من مكتبه و ذهب مسرعا في خطواته وهو يأمل أن يراها, أو أن تكون كاذبة, يأمل أن تظل موجودة, فبوجودها سيزيل كل هذا التوتر الذي فى رأسه, اقترب من حجرتها فدخلها مسرعا ودون ابتسامته المعتادة, ليجدها أمامه .. بدأ يرتاح وجهه قليلا, ذهب الى الجهاز اللوحي متصنعا تلك الأفعال ليلفت انتباهها, فالتفتت إليه بعد أن كانت توليه ظهرها ليجدها مريضة أخرى, امرأة أخرى غير التى يعلمها.
    بدأ عقله فى الترنح, مما أثر على جسده كله, ليبدأ في الترنح هو الآخر, يقول لنفسه والدهشة تملؤه:
    مهلا.. أكل ما قالته تلك المرأة حقيقيا؟! كيف ذلك؟ ان لم يكن حقيقيا فأين هي؟! و إن كان حقيقيا فهذا يعني أني قد قتلتها.
    فكرة القتل نفسها تدمر بقايا ثباته, أمن المعقول أن يكون قد قتلها, بل مهلا, أمن المعقول أن يكون قد قتل كل هؤلاء الذين كان يحقنهم بمركب ال(روكس)؟! كيف يكون شريكا في جريمة كتلك؟!
    يقرر أن يذهب إلى الدكتور(عمار), ليخبره عن كل ما يجول في خاطره و يهرول إلي مكتبه تاركا كل ما يتعلق بعمل اليوم, هو يريد إجابات, ولا أحد يستطيع أن يجيبه سوى هذا الرجل.
    ذهب إلى مكتبه وطرق الباب ثم دخل, وجد الدكتور(عمار) مطالعا لكتاب ما, فيقوم من على مكتبه محييا له:
  • (حازم), تفضل بالجلوس
    يجلس (حازم) و في عينيه مئات الأسئلة ثم يتحدث قائلا
  • دكتور(عمار) أنا أعلم أنك لن تكذب, أنت الوحيد الذي أثق به في هذا العالم, بل أنت الوحيد الذي أعرفه, أرجوك أخبرني ماذا تفعل مركباتنا بالمرضى, أو تحديدا المركبات التى أعطيها انا إياهم .
  • ماذا حدث يا (حازم) ؟ هل هناك مشكلة؟
  • أرجوك أجبني يا دكتور, الأمر في غاية الخطورة
  • حسنا .. اهدأ ان مركباتنا ماهي الا علاجات من التى تم انقاذها, فإن مركب ال(لاكس) ماهو الا مهديء اسمه في الحقيقة سيليكوكسيب, و مركب ال(روكس) ماهو الا مهديء آخر اسمه روفيكوكسيب, مجرد مهدئات للمرضى لتهدئة حالتهم النفسية و التى تنتج عن عدم قدرتهم على الكلام تلك, أنا لا اعلم لها اي اثار جانبية سوي أنها قد تسبب بعض الهلوسات وهذا ان سببته من الأساس, الآن و قد أجبتك عن ما تريد, أخبرني .. ما الأمر؟
    هنا كان (حازم) على وشك أن يخبره بما حدث, ولكنه لوهلة شعر أنه يجب أن يحتفظ بهذا الأمر سرا وألا يخبر به أحد, فرد عليه قائلا:
  • مجرد سؤال يا دكتور, فقد شعرت ببعض الاضرابات للمرضى وخفت أن اكون سببا في ذلك
  • لا تقلق يا صديقي, قد تكون مجرد هلوسات فلا تخف من ذلك, وأكمل عملك.
  • حاضر يا دكتور.. سأكمله على أكمل وجه
    خرج (حازم) من عند الدكتور(عمار) وهو يشعر بصدق كلامه, ولكن .. أين ذهبت تلك المرأة اذا, ان كان ما يقوله حقيقي, فمن المفترض أن تكون ما زالت موجودة في حجرتها ولكنها غير موجودة, هناك أمر ما .. شيء مريب, سيحاول أن يبحث عنها داخل قواعد البيانات التى لديه صلاحية الولوج إليها, ذهب إلى مكتبه و أمسك بجهازه اللوحي وبدأ في البحث, هو يتذكر رقم حالتها لذا سيبحث عن ذلك الرقم, وبالفعل بدأ في ادخال الأرقام على شاشة جهازه ويأمر بالبحث, لتظهر له صورتها .. يخفق قلبه, يخفق بشدة, لم يكن يدرك ملامحها تماما حتى الآن, يتلمس وجهها على الشاشة, هذا الوجه الذي حمل نفس الابتسامة التى ارتسمت عليها عند اخر مرة رآها فيه, حتى رغم أنها كانت حليقة الرأس الا أنه تلمس فيها جمالا أخاذا, وهاهو الآن يراها أمامه, يقرأ تفاصيل المرض فيجد أنها مصابة بضمور منطقة بروكا هي الأخرى .. ولكن مهلا, كيف تحدثت إذا إن كانت مصابة بهذا المرض.. يكمل البحث و القراءة فيجد أنها أخذت كل جرعاتها السابقة من مركب ال(لاكس) وعلى مدى ثلاثة عشر يوما, و أن الجرعة الأخيرة كانت من مركب ال(روكس) و بيده هو, لوهلة شعر أنه ارتكب خطأ ما, أكمل بحثه ولكنه لم يجد شيئا بعد ذلك, وكأن التقرير قد توقف عند اليوم الذي أعطاها فيه الدواء, هناك شيئا ما, ويجب أن يعرف ماهو.
    أنهى عمله لهذا اليوم, وقد اعتمل داخله سؤالا واحدا .. أين ذهبت؟ لذلك أخذ قرارا بالبحث, سيبحث عنها داخل المصحة نفسها, ولكن أين يبحث, فالمصحة كبيرة جدا و مساحتها شاسعة, فأين يجب أن يبحث؟ ومن أين يبدأ؟ لم يعلم كيف يجيب على تلك الأسئلة ولكنه قرر المجازفة بالبحث عن تلك المراة, كان يعلم أن المرضى الذين يكملون أسبوعين تحت ملاحظته يتم ترحيلهم إلى مكان آخر لتلقي العلاج, أذا فنقطة بحثه الآن أن يبحث عن هذا القسم, ارتدى معطفه وخرج من مكتبه متجها إلى آخر الممر الذي لم يذهب إلى أخره يوما, فقد كانت الحجرات دائما على جانبي الممر, وهو له عدد حجرات معينة يتابعها ثم ينتهي عمله إلى هذا الحد فيعود على مكتبه, لذلك قرر أن يكمل الممر في تلك المرة, وليرى إلى أين سيفضي به.
    سار في طريقه متجاوزا كل الحجرات التى دخلها اليوم وأكمل إلى أن وجد باب بعرض الممر مكتوب عليه
    ( المرحلة الثانية)
    أراد أن يدخل ولكن وجد أن الباب يتطلب منه تصريح دخول, فوضع شارته التى أخذها من مكتبه مؤخرا على الباب ففتح, دلف منه ليرى نفس الممر مرة أخرى, ولكن الحجرات تغيرت أشكالها بأن أصبح لها نوافذا زجاجية تستطيع أن ترى المرضى منها دون ان تدخل, سار ببطء متفحصا فيهم, فهو أول مرة يدخل هنا, وجدهم جميعا يعطون ظهورهم للنوافذ الزجاجية, وكأنهم أمروا بذلك, وعلى رؤوسهم الحليقة من الخلف ضمادات كثيرة, مهلا, من الواضح أن هؤلاء أجريت لهم عملية زراعة منطقة بروكا, سار في طريقه ليجد بابا آخر بعرض الممر ولكن لا توجد لافتة تدل عليه, فلم يكتب عليه شيء, حاول الدخول ولكنه يتطلب تصريحا للدخول هو الآخر, حاول بشارته ولكنه لم يفتح, حاول مرة ثانية وثالثة, وما زال الباب مغلقا, كيف يستطيع أن يدخل, هذا الباب يثير فضوله, حسنا .. سيجد طريقة ما .. أما الآن فهو سيعود أدراجه ليفكر في حل, عاد من حيث أتى إلى أن وصل إلى باب (المرحلة الثانية) وقبل أن يفتحه لاحظ بعض الخيالات من أسفل الباب, يا للهول .. شخص ما قادم إلى هنا, نظر يمينا ويسارا يفكر في مخرج فلم يجد أمامه إلا غرف المرضى, هرع إلى باب وفتحه ليدلف إليه في سرعة, وفي نفس اللحظة التى أغلق الباب فيها كان باب الممر قد فُتح, ساعدته إضاءة الحجرة الخافتة على متابعة الوافدين من خلال النافذة الزجاجية, فوجد أن من دخلوا هم ممرضتين و طبيب شاب و الدكتور(عمر), وقد كانوا يمضون مسرعين في طريقهم إلى الباب الأخير في الممر, تابعهم بعينه حتى وصلوا إلى الباب, أخرجت إحدى الممرضات شارتها ووضعتها أمام الباب ليفتح ويدخلوا جميعا إليه, عيب تلك الأبواب أن الإغلاق الأتوماتيكي لم يكن سريعا بما فيه الكفاية, فحتى تلك اللحظة لم يكن باب (المرحلة الثانية) قد أغلق بعد, وقد فطن (حازم) إلى ذلك, خرج من الحجرة مسرعا ولكنه ما أن خطا ناحية باب (المرحلة الثانية) حتى توقف برهة, واستدار مسرعا ليلحق بالباب الثالث بالممر و المفتوح منذ لحظات, استطاع أن يمسكه قبل أن يغلق تماما, ظل ممسكا به قليلا حتى يطمئن أن من دخلوا قبله قد ابتعدوا, نظر بطرف عينه فوجدهم ساروا إلى باب آخر بالممر و دخلوا منه و أغلقوه خلفهم, ففتح (حازم) الباب رويدا حتى أتسع له, دخل ولكنه خشى أن يغلق الباب ولا يستطيع الخروج, فوضع على مزلاج الباب محقنه يشكل أفقي ليمنعه من الإنغلاق ويظهر للناظر من بعيد أن الباب مغلق, استدار ليجد على جانبي الممر غرفا مغلقة تماما, لا توجد بها نوافذا زجاجية, مصمتة تماما, قرر أن يدلف إلى واحدة منهم ليري ما بها, فتح الباب بروية, ودخل إلى الحجرة, ضوء خافت يغلفها, وبمنتصفها فراشا يرقد عليه شخص ما, يرقد على بطنه وظهره للأعلى, مهلا, هذه تشبه حجرة عمليات, اقترب بروية من المسجي أمامه ليجد رأسه مفحورة من الخلف, تحديدا في مكان منطقة بروكا, وقد انتزع منه هذا الجزء تماما مهلا , أن دمائه ما زالت تسيل, هذا الشخص على قيد الحياة, يحاول أن يوقف النزيف ولكن كيف, يمسك ببعض الأقطان يدسها فى رأسه ولكن لا فائدة, حاول أن يقيمه ولكنه وجد أن ذراعيه مقيدتان إلى السرير بل و قدميه أيضا, بدأت الدموع تحفر طريقها إليه, هو بكل الطرق لا يستطيع أن ينقذ هذا الشخص في الوقت المناسب, حل وثاقه و أراد أن يقيمه ولكن بلا جدوي, نظر إلى وجهه الذي خلا من كل علامات الحياة, يبدوا أنه فارقها من وقت ليس بطويل, احتضنه(حازم), احتضنه دون أن يعلم من هو أو من أهله أو حتى تربطه به أي صلة, احتضنه فهو لأول مرة يري أنسانا يُعذب ويُقتل بتلك البشاعة, أعاده على الفراش كما كان, وجد أنه من الأفضل أن يقيده كما وجده, أن يزيل أي أثر يدل على وجوده, تأبى يداه وكل جسده أن يفعلا ذلك ولكنه مضطر, أعاد ربط وثاقه وهم بالخروج, ففتح من الباب شيئا بسيطا يستطيع من خلاله النظر للخارج, اطمأن أنه لا أحد بالجوار, أكمل فتح الباب وخرج مسرعا إلى باب الممر ليجد محقنه ما زال في مكانه, فتح الباب و أزال المحقن هرول مسرعا, اجتاز الباب الذي يليه ثم إلى باب مكتبه, أخذ حقيبته وعاد إلى منزله, لم يذهب للمطعم كي يأكل, لم يأخذ قهوته, لم يفعل أي شيء سوى أنه عاد إلى المنزل, عاد و الدموع قد شقت طريقها عبر عينيه, لا يفهم ما الداعي لكل تلك البشاعة, عاد وبدل ملابسه وعزم على أن يعلم كل شيء, بحث عن الورقة التى أعطتها له المرأة التى قابلها قبل يومين, تطلع إلى رسالتها مرة ثانية, قُبض قلبه عندما تخيل صوتها وعيناه تجري على كلمة زوجي, مر على كل الكلام مرة أخرى مسرعا, حتى أكد معلومة المكان الذي يجب أن يذهب إليه, يمين السور, ومن بعدها سيعلم الطريق وحده.
    لا يدري كيف سيفعلها ولكنه عزم على أن يخرج, نزل من مسكنه ولم يستقل وسيلة نقله, ظل ينتقي الأماكن التى تفتقر إلى الضوء ويسير فيها حتى اقترب من البوابة الكبيرة, كانت الأضواء حولها تشبه ضوء الشمس وقت الظهيرة, من المستحيل أن يخرج, يحتاج إلى حيلة ما, يحتاج أن يفعل شيئا .. ولكن ماهو, اقترب أكثر, فوجد مركبات ال(موجول) المهيبة تدخل و تخرج من البوابات بعد تفتيش دقيق, لما تحمله ولكامل الأفراد بها, اذا فهو هكذا لن يستطيع انتحال شخصية أي فرد فيها, خطرت على باله فكرة, مركبات ال(موجول) تذهب إلى المصحة يوميا, تزودهم بالمؤن و تضع الأغذية في منطقة الاختبارات, اذا فالمكان الأنسب ليستقل ال(موجول) سيكون من داخل المصحة نفسها, لذا سيؤجل ما يريد فعله حتى الصباح, عاد إلى بيته كما جاء, صعد إلى مسكنه وهو يفكر في كل ما يحدث, بل في كل ما سيحدث, ولا يدرك هل ما يفعله صواب أم خطأ, هو يشعر أنه على وشك أن يحدث تغييرا كبيرا, ولكنه لا يدري ماهو .. لا يدري .
    صباح اليوم التالى, لم يذق(حازم) طعم النوم, فطيلة الليل يفكر فيما سيفعله, وقد رسم خطة تحركه, سيذهب الى المطعم كعادته, ويشرب قهوته كعادته, ثم يذهب إلى العمل كعادته, و لكنه لن يستقل وسيلة تنقله فلا يريد أن يدرك أحد انه دخل المصحة ولم يخرج, ثم سيذهب إلى قسم المؤن ويبقى فيه حتى تأتي مركبات ال(موجول) فيستقلها, وسيرتجل ما سيحدث بعد ذلك.
    قام ونزل إلى العمل بعدما فعل كل ما رسمه في رأسه, دخل إلى المصحة مترجلا ومنها إلى مكتبه, أخذ بعض الأشياء التى قد يحتاجها ودسها في جيبه, سكينا وقداحة ومصباح يدوي وقلما و مفكرة, كما أخذ معه جهازه اللوحي وترك شارته بالمكتب, قام بعمله كالمعتاد, وعندما أنهى العمل و هم بالانصراف غير مساره ليذهب إلى منطقة المؤن, وكانت تلك مرته الأولى, فمنطقة المؤن كانت ساحة كبيرة شبه خالية, ولكنها كانت بها أبوابا تفضي إلى أقسام المصحة, أو إلى معظمها فهو لا يعلم كل الأقسام, اختبأ خلف بعض الصناديق الكبيرة و التى تلونت بلون أزرق, ومن ضخامتها فقد اختفى تماما خلفها, وظل هكذا حتى حل الظلام.
    جاء الليل وجاءت معه مركبات ال(موجول), تلك النقطة كانت مناسبة تماما لاستقلال المركبة, فان الحراسة هنا تكاد تكون منعدمة, فلا يوجد سوى السائق وشخص آخر معه ينزلون ما لديهم ويأخذون صناديقا من الفارغة, خطرت على باله فكرة, أنه ربما يختبيء في أحد تلك الصناديق ولكنه كان يراهم وهم يحملون الصناديق بسهولة نسبية, و من المؤكد أن وزنه سيزيد وزن الصناديق مما قد يجعلهم يشكون في الأمر فيلقوا نظرة داخل الصندوق, و ان فعلوا ذلك فسينتهى أمره تماما, لذلك آثر أن يصعد الى المركبة بعد أن ينتهوا من تحميلها تماما و يختبئ داخل الصناديق الموجودة بالمركبة, وما أن تخرج ال(موجول) من المدينة فسيتركها هو ويقفز, فان المركبة مفتوحة تماما ولن تغلق عليه, ارتاح لتلك الفكرة ولكنه لم يكن يدري كيف ينفذها حتى الآن, ثم سمع قائد ال(موجول) وهو يحدث زميله ويقول له:
  • علينا أن ننهي عملنا هنا سريعا, فاليوم سينقلون الصناديق الكبيرة
    فيرد زميله قائلا بدهشة :
  • الصناديق الكبيرة ؟ .. اليوم؟!
  • نعم .. فلننتهي سريعا
  • هل تعلم أننا سعداء الحظ اننا لن نكون مسئولين عن ذلك؟
  • نعم أعلم .. ولذلك أريد أن اخرج قبل أن نفقد هذا الحظ, فإن رأونا قد يجعلونا نخرجها معهم
    سمع (حازم) ما دار بين الرجلين مما جعله يفكر .. ما الذي داخل تلك الصناديق الكبيرة؟ .. اذا سيبقى .. سيبقى حتى يعلم ما بداخلها, وسيخرج معها.
    دقائق مرت و الرجلين يحاولان بأقصى جهدهما أن يملئا مركبتهما بالصناديق الفارغة حتى جاءهم أحد الحراس آمرا إياهم بالمكوث قليلا, فهم سيحتاجونهم عما قريب ..بُهت الاثنان على مرأى من (حازم) المختبيء خلف أحد الصناديق المملوءة بالمؤن, وما هي إلا دقائق حتى جاءت مركبتين أخريتين من مراكب ال(موجول) ووقفتا في الساحة الكبيرة ونزل من كل مركبة فردين بجوار الحارس الواقف, دقائق حتى رأى (حازم) بابا كبيرا ينفتح بالسحب على الجانبين ليخرج منه خطاف كبير يسير في ممر معلق بالسقف حاملا أربعة صناديق كبيرة في حجم الحجرات, ووضع الصناديق الأربعة على مركبة (موجول) فارغة, ثم استقلها سائقها ومساعده و خرجا, لياتي خطاف آخر يحمل أربعة صناديق أخري و يضعها على المركبة الفارغة الثانية, وكما حدث بالأولى استقلها سائقها ومساعده و خرجوا, ثم جاء الخطاف بحجرتين ووضعهم على المركبة الثالثة النصف ممتلئة, في تلك الأثناء استغل (حازم) انشغال الجميع بما يحدث, زحف على بطنه مستترا بالصناديق حتى وصل إلى مركبة ال(موجول) النصف ممتلئة, صعد إليها بهدوء وفتح أحد الصناديق ودخل فيه و أغلق غطاءه عليه ولكن ليس اغلاقا كاملا حتى يستطيع التنفس و أيضا حتى يستطيع الهروب, فالصناديق تفتح من الخارج فقط, وبينما هو في الصندوق و امامه مساحة فارغة على متن المركبة اذ وجد أن الصناديق الكبيرة تهبط أمامه وتسد كل مجالات الرؤية إلا من فرجة بسيطة بينهما تظهر له الطريق, شعر أن السائق ومساعده قد صعدا من اهتزازات ال(موجول) المتتالية, بدأت ال(موجول) في التحرك, هو يشعر باهتزازاتها وبدورانها داخل الفناء الواسع ذاك, واجهت ال(موجول) بوابة منطقة المؤن وخرجت منها متجهة إلى البوابة الكبيرة.
    (حازم) ينظر إلى الطريق من الخلف, لا يريد أن يقوم بأي حركات مفاجئة, فلا يريد أن يُفضح أمره, توقفت المركبة فجأة, ثم سمع همهمات من الخارج, ما زال نظره مثبتا على الفرجة بين الصندوقين الكبيرين يحاول أن يستنتج أي شيء مما يقال, ولكن الصوت كان ضعيفا ولا يصله, فجأة وجد اثنين من الحراس يصعدان على متن المركبة ينظران فيها ويفتشاها, يرى أقدامهم, وخيوط النور المنسلة من مصابيح يدهم, فتشوا قليلا ثم نزلا وسمع بعض الطرقات على جسم ال(موجول) فتحركت وكأنما كان ذلك هو الأمر بالتحرك, خرجت المركبة وعبرت البوابة الكبيرة, يشعر برهبة وخوف شديدين, فهي أول مرة له يترك فيها المصحة, أول مرة في فعل كل شيء, أول مرة يغاير واقعه الرتيب, ويطلق العنان لجموح لا يدري إلى أين سيصل به, ينظر من خلال الفرجة بين الصندوقين الكبيرين ليجد أمامه البوابة الكبيرة تظهر بكامل بهائها, تبتعد شيئا فشيئا لتكتمل أمام عينه , ويرى المحفور فوقها تماما .. القاهرة 1030.
    اطمأن (حازم) ان المركبة خرجت من البوابة الكبيرة, ففتح باب الصندوق بهدوء, وخرج منه وأغلق غطاءه وجلس فوقه, شعر بالهواء البارد يلتف حوله, بل أنفاسه صارت مرئية له من رؤيته لبخار الماء, يسأل نفسه :
  • ما هذا ؟! مالذي يحدث ؟
    لم يألف أبدا شكل البرودة, فقد كان الجو داخل القاهرة ربيعي دائما, لم يعتد هذا الوخز البارد الذي يطرق كل أنحاء جسده, نفخ في يديه يبث فيهما بعض الدفء, نظر يمينا و يسارا عله يجد شيئا يزيد من حرارته, علم وقتها أن السائقون يعلمون طبيعة الجو, فقد وجد معطفا ثقيلا في ركن من أركان ال(موجول) هرع إليه و ارتداه على الفور,الآن يدرك أن البرد يتخلى عنه, بدأ المعطف في تزويده بالدفء, يشعر أن المركبة تستدير ناحية اليمين, حسنا .. هذا جيد تماما, سيعطيه وقتا ليكتشف ما بداخل الصناديق الكبيرة, كانوا يسيرون في عتمة الليل وضوء القمر, أخرج مصباحه اليدوى وبدأ في تشغيل ضوءه الخافت, هذا بالتأكيد لن يظهر لأي شخص حتى و إن كان على بعد ثلاثة امتار من المركبة, بدأ في توجيهه إلى الصناديق وهو يدور حولها, حتى وجد أن بها جانبا زجاجيا يكشف ما بها, ويا لهول ما رأى .. فالجوانب الزجاجية ملطخة بالدماء, حاول أن يسلط الضوء داخل الصندوق نفسه لتصطدم عينه بأجساد عارية, محفورة رؤوسهم من الخلف, اقشعر بدنه من المنظر, حاول أن يجد إشارة لأي حي منهم, ولكن لا أمل, ذهب الى الصندوق الثاني ناظرا من جانبه الزجاجي ليجد الدم الملطخ مرة أخرى, ويجدها بداخله , قد كان يبحث عنها و ها هي الآن أمامه.. تسمر مكانه, فغر فاه, فقد وجد وجهها ملاصقا للجانب الزجاجي, وكأنها معروضة أمامه ليراها, بكى, بكى بحرقة لا يعلم مصدرها, في تلك اللحظة شعر أنها قريبة منه, هناك ألم يعتصر قلبه, دموع عينه تحرق وجنتيه, يحاول أن يصرخ بصمت, يشعر أنه المسئول عن موتها, يدقق النظر فيها, فيرى أثارا لتعذيب جسدي كبير تحملته تلك المسكينة, المركبة تميل يمينا ويسارا, فتسقط هي على أرض الصندوق ليظهر له ظهرها المشوه من أثر ضربات بشيء حاد , بل وطعنات أيضا, ورأسها الحليقة محفورة هي الأخرى, لا يدري ماذا يفعل, لا يدري كيف ينتقم حتى, لا يدري أي شيء, ولا يستطيع سوى أن يتبع ما قالته هي له, يتذكر صوتها, يتذكر بسمتها الأخيرة التى لازمتها حتى في وقت الموت, يقبل الزجاج عسى أن تصلها قبلته, يشعر بالمركبة تستدير مرة أخرى, فيقوم وعينه معلقة على الصندوق, بل عليها هي, تلك التى لا يعرف اسمها حتى .. يسير إلى حافة المركبة ثم يلقى نظرة أخيرة عليها .. ويقفز.
    كان يعتقد أن ال(موجول) بطيئة نسبيا, ولكنه لم يكن يدرك تلك السرعة التي تسير بها إلا عندما سقط, تدحرج ليصطدم بصخور ناتئة من الأرض في جانب جسده, تؤلمه, يشعر أن هناك ضلعا قد تهشم, يتحسس مكان الصدمة فيدرك أنه ما زال سليما, ولكن الألم لا يحتمل, نهض على قدميه وهو ينظر الى السور الذي انتهى جانبه الأيمن كما أخبرته المرأة, الآن حان وقت السير, ويجب عليه أن يعلم أين يذهب, أو سيضيع بدون رجعة .. حدد وجهته وبدأ السير, يغوص في قلب الظلام على ضوء مصباحه اليدوي, يذهب إلى المجهول, ولا يدري أين الطريق.

تلك الليلة- داخل القاهرة 1030
” إن المحافظة على النظام هو ما ميزنا إلى الآن, بل و جعل جنسنا يستمر حتى تلك اللحظة “
كانت تلك الكلمات و قد بُثت كتابةً على الشاشات التى لا تكف عن بث مثل تلك الجمل من خلال مركز القيادة- الغير معلوم مكانه- ولذلك كان من دواعي الحفاظ على النظام هو حساب الزيادة السكانية و تقنينها بما يتوافق مع الموارد الموجودة.
وجد مسئول الحراس (وليد) وخزا طفيفا في مؤخر رأسه, مما يفيد أن شريحته الإلكترونية تستقبل أوامرا جديدة, ارتدى نظارته التى خلعها للتو فور دخوله إلى المنزل, ثم أعطى الأمر لتفتح الرسالة, ليجد مهمة جديدة للبحث عن شخص مختفي.
كم يكره تلك الأوامر التى لا يعرف مصدرها, يشعر أنه وُجد من العدم ليطيع الأوامر, يشعر دائما أن هناك حلقة ناقصة في كل شيء, ولا يدري ما هي, وها هو الآن عليه أن يعاود العمل للبحث عن هذا المختفي, عله يجد شيئا.
يرتدي (وليد) الذي خطى عقده الثالث بعامين زيه ليذهب إلى عمله مرة أخرى, هو يشعر بالضيق جراء عمله هذا, ولكنه يدرك أن لولاه هو و من هم مثله لضاع النظام الذي وضعته الأخوية و نقلوا البشرية كلها به, فبفضل الأخوية هم الآن يعيشون بسلام, زوجته و وولديه يعيشون بسعادة, رغم أنه لا يراهما كثيرا لكثرة عمله, ولكن ما أن يعود إلى البيت ويراهم يشعر بالسعادة و الفخر, فقد كان سببا للأمان وحفظ النظام.
ينزل (وليد) من مسكنه ليذهب إلى نقطة مراقبة ثانوية, تلك النقطة يطلقون عليها اسم ( كودا) ويلي هذا الإسم رقما يوضح مكانه بالضبط, فـ (وليد) كان مسئول نقطة (كودا 12), وفي نقاط المراقبة تلك يتجمع الحراس مع المسئولين, وبما أنه مسئول تلك المنطقة فقد أتاه الأمر بأن يبحث عن هذا المختفي.
يركب وسيلة مواصلاته التى تحتوى على اماكن لأربعة أفراد تكفيه هو وزوجته وولديه, يدخل إلى نقطة المراقبة ليجد حارسين جالسين أمام بعض الشاشات, يخرج (وليد) مفكرته و يكتب فيها بعض الكلام ثم يقطع تلك الورقة ليعطيها لأحد الحارسيين, الذي يقرأها ثم يمررها لزميله, يوافقان على ما كتب (وليد) و يومئان برأسهما بالموافقة ثم يخرجا سريعا من نقطة المراقبة, لم يفعل الكثير, لقد كتب فقط في تلك الورقة أنهم يبحثون عن شخص مختفى داخل حدود القطاع (12) وزودهم باسمه و أوصافه .. يدرك تماما أنهم لن يجدوه كما حدث سابقا مع كل من اختفوا, بل و بعد التقرير الذي سيرفعه لمقر القيادة سيتم صرف النظر عن هذا الأمر كله, ولكن ما كان يشغل باله أمر آخر .. وهو كيف علمت القيادة باختفاء شخص ما, الأدهى من ذلك أنهم علموا اسمه أيضا, ثم كيف لهذا المختفي أن يترك كل هذا النعيم و السلام و يهرب, كيف يهرب و هو مجرد طبيب لا يقوم بعمل شاق ولا يفعل شيء سوى متابعة بعض المرضى, كيف لو كان مسئولا عن الحراس والحراسة مثلا هو الآخر, هل كان سيهرب؟ .. هذا رجل غير مسئول, وسيعاقب إن وجدوه بالتأكيد.
يجلس (وليد) على مكتبه في زاوية النقطة الصغيرة تلك, و أمامه الشاشات التي تراقب القطاع (12) و عن يمينه الباب, يحدق في الشاشات باحثا عن أي دليل, فلم يجد إلا عناصر الحراسة تتحرك جيئة وذهابا, بدأ عقله في الاشتعال .. كيف سيهرب هذا الرجل دون أن يراه أي أحد, فلقد تفادوا كل النقط العمياء للقطاع, لا أحد يستطيع الدخول أو الخروج دون أن نراه على شاشاتنا أو يراه أحد الحراس .. في تلك اللحظة يشعر أنه يريد معلومات أكثر, فيتصل من خلال شريحته عبر رئيسه الأكبر ويسأله:

  • سيدي .. هل هذا المختفي مشتبه به في شيء ؟
    ليأتيه الرد على عدسات نظارته قائلا:
  • لا .. أخبرني أين وصلت .. هل وجدتموه؟
  • ما زلنا نبحث .. ولكن أريد أن أعلم كيف علمتم اسمه, أليس هو مجرد شخص آخر مثل من اختفوا من قبل؟
  • سأخبرك .. لقد طورنا عدادا الكترونيا على باب مدخل كل وحدة سكنية, يطلق اشعة ليزرية غير مرئية للشخص, ولكن عندما يمر من خلالها عابرا نحو المسكن يزيد هذا في العداد رقما, و العكس عندما يخرج ينقص من العداد رقما, ونحن نعلم عدد القاطنين داخل الوحدات كلهم, لذلك علمنا بعدم وجود فرد ما.
    ذهل (وليد) مما سمع, فلم يكن يعلم أن القسم التكنولوجي بالأخوية ما زال يطور معدات أو اي شيء, بل ظن أن نشاطهم أصبح محدودا في أشياء أخرى لتوفير مصادر أكبر و أفضل, ولكن الرئيس لم يجب عن سؤاله, فأرسل له قائلا :
  • هذا عظيم يا سيدي, من الرائع معرفة أن الأخوية تسعي دائما للحفاظ على الجنس البشري ولكن, كيف علمتم أن المختفي هو الدكتور( حازم مراد) بالذات ؟
    تمر الثواني كالساعات, ينتظر الرد على أحر من الجمر, يشعر أن رئيسه – الذي لا يعلم اسمه ولم يقابله ولو مرة- لا يريد أن يخبره تلك المعلومات, شعر بالأسف على نفسه لاندفاعه في سؤاله هذا, لكن ما أن لبث حتى وجد رسالة من رئيسه يقول له فيها:
  • أيها الحارس (وليد) أنت تسأل أسئلة كثيرة .. هل هناك ما يقلقك؟
    ارتجف ( وليد) رجفة تنبأه أنه قد أخطأ, هو يعلم أن في سلك الحراس هذا لا مجال للأسئلة الكثيرة .. فرد قائلا :
  • لا ياسيدي .. ولكني أحب أن أنبهر بكل ما تفعله الأخوية من أجلنا عامة .. ومن أجلي خاصة
    شعر أن تلك كانت الطريقة المثالية في الرد, حتى لا يشعر رئيسه أنه متشكك في شيء ما لتأتيه رسالة منه بقول فيها :
  • أنت ماكر يا (وليد) .. أعجبني ردك الحيادي, حسنا سأخبرك .. ان الأخوية قد طورت نفس فكرة العداد الالكترونية ولكن على باب كل مسكن, وبذلك عندما يدخل الشخص يعطى العداد إشارة بعدد الأفراد الذين مروا من خلاله, وبما أن الدكتور كان وحيدا, فبمجرد عدم دخوله لمنزله من بعد ساعات العمل علمنا أنه اختفى, و ايضا البلاغ الوارد من المطعم و محل المشروبات أن الدكتور لم يأخذ غدائه أو قهوته بعد العمل, فتأكدنا أنه اختفى منذ ذلك الحين.
    سعد (وليد) بكشف كل تلك الحقائق أمامه, أيقن أكثر أن الأخوية لن تسمح أن تصيب الأرض لعنات بشرية أخرى, يشعر أن بينه وبين رئيسه هذا الذي لم يراه ولا يعلم اسمه أصلا صلة وثيقة, بل و أحيانا يشعر أنه يسمع صوته داخل أذنيه, ولكن .. الصوت ؟ ماهو هذا لشيء الذي أسموه بالصوت, هو لا يعرفه من الأساس, فاصابته بمنطقة بروكا منعت عنه تلك الميزة, وحل بدلا منه الصمت .. الصمت ولا شيء آخر .
    استلم (وليد) رسالة على رقاقته ليعرضها أمامه فيجدها تقريرا من الحراس المسئولين عن القطاع (12) يخبروه فيها أنهم لم يجدوا شيئا الى الآن, و أن الأوامر وصلت الى باقي عناصر حراس القطاع (12) وجاري البحث.
    حينها أمر (وليد) اثنان منهما بالعودة إلى المقر, فهو سيخرج لعملية البحث تلك بنفسه, فالأمر تلك المرة مختلف, فالمختفي قد خرج وترك المصحة كلها عن عمد وقصد, أو أنه تم اختطافه, لذلك سيفعلها كما لم يفعلها من قبل.
    وصل فردي الحراسة ليحيوا (وليد) ويرد التحية بدوره, ثم يعطيهما ورقة قد كتب فيها أن يبقوا أمام الشاشات ولا يتحركوا و يرسلوا إليه بأي مستجدات يجدونها ثم تركهم و خرج مغلقا الباب الحديدي للنقطة خلفه.
    خرج (وليد) و صعد على متن مركبة ال(باج)- وهي سيارات عالية تعمل بالدفع الرباعي قادرة على السير بسرعة و في المناطق الوعرة وخصصت فقط لعناصر الحراسة – وانطلق نحو منزل الدكتور (حازم) .
    ما أن وصل حتى وجد مركبة (حازم) الأحادية ساكنة أمام البناية مما يعني وجوده و أنه قد عاد من عمله ويغط الآن في نوم عميق, ولكن حقيقة اختفاؤه تقول غير ذلك, مر من باب البناية و هو ينظر إلى أركانه يريد أن يرى أين العداد الالكتروني, جال بنظره حتى وجده في منتصف بوابة الدخول بالأعلى, مجرد علبة صغيرة بلون البناية نفسها لا تكشفها الا عدسة دقيقة يحسبها الناظر إليها أنها بقعة من جراء أي شيء, ولكن (وليد) لعلمه المسبق بها علم مكان وجودها تماما, دخل و صعد إلى البناية مستخدما المصعد, لاحظ شيئا ما, لاحظ أن كل دور مكتوب بجانبه أسماء قاطنيه, أي أنه لن يحتاج أن يسأل أين يسكن الدكتور فاسمه موجود عند الطابق العشرين.
    وصل (وليد) إلى الطابق العشرين وفُتح باب المصعد, خطا خطوتين ليجد نفسه أمام باب شقة دكتور (حازم) ووجد لافتة صغيرة مكتوب عليها
    دكتور / حازم مراد
    وضع يده امام باب المسكن ليسمع صوت انزلاق المزلاج مما ينبيء بفتح الباب, فرؤساء قطاعات الحراس يملكون صلاحية دخول أي منزل داخل حدود القطاع, دلف إلى المنزل و أغلق الباب خلفه .. يمينا وجد حماما صغيرا تسبقه مساحة واسعة كانت من المفترض أنها مطبخ ولكنها فارغة تماما, أمامه صالة واسعة بأثاث أنيق بسيط ينم عن ذوق بسيط لساكن هذا المكان, و من خلال الصالة شرفة تطل على المدينة كلها .. خطا (وليد) إليها و فتح باباها الزجاجيان ودلف إليها ليشعر بنسيم عليل يضرب وجهه بلطف, نظر جانبه فوجد الكثير من البنايات التى تشبه تلك البناية, ثم نظر امامه ليجد البوابة الكبيرة تظهر له من هنا, بل و الأحرف الكبيرة واضحة من هنا أيضا .. استطاع قرائتها بكل وضوح .. ( القاهرة 1030) .
    عاد إلى الخلف بظهره و هو ما زال يتأمل في روعة المشهد و رهبته في آن واحد, ثم استدار ليدخل إلى الصالة مرة أخرى, ليجد عن يمينه غرفة نوم وحيدة, و كأن ذلك المسكن قد صمم لشخص واحد فقط, أو شخصين على الأكثر, خطا خطوات حذرة نحو غرفة النوم يتفحصها ليجد بها فراشا متوسطا و كومود موضع عليه بعد الأغراض و خزانة ملابس, لا شيء أكثر من ذلك, اقترب من خزانة الملابس وفتحها ولكن لم يجد شيئا غير اعتيادي, بل حتى وجدها فقيرة في الملابس التى بداخلها, لا صناديق .. لا أدراج .. مجرد بعد الملابس المعلقة, أكمل طريقه ليصل إلى الكومود ليجد عليه صورة للدكتور( حازم ) وهو يضحك ملء شدقيه, و كأن السعادة تغمره تماما, ثم يسأل نفسه سؤالا :
  • لماذا رجل بكل تلك السعادة .. يرحل عن القاهرة 1030 .. هناك شيء ما ليس منطقيا .
    يفتح الأدراج فلا يجد الا بعض الأقلام و المفكرات و أقراص أدوية, ثم يجد علبة طولية سوداء, سكن تماما قبل أن يقترب منها, ثم مد يده يستخرجها ببطء و كأنما وجد كنزا دفينا, فتحها لينظر ما بها ثم ابتسم, فقد كانت تلك نظارة .. نظارة عرض شرائح خاصة بالدكتور (حازم ), هو بذلك يستطيع أن يري ما يراه و يقرأ ما يأتيه, بل الأكثر من ذلك, يستطيع معرفة مكانه .. تماما.

نفس الليلة – خارج الأسوار
يسير (حازم) داخل الظلام, لا يتذكر أنه رأى الظلام قبلا, يحاول أن يبدد وجوده بشعاع مصباحه اليدوي الضعيف .. يمر بين أغصان الأشجار المترامية على الجانبين, يخطوا فوق وريقاتها الساقطة الجافة, فتحدث صوت تحطم يحطمه كليا, يسمع بعض الأصوات من حوله ولكنه لا يدرك ماهي, يوجه المصباح ناحية تلك الهمهمات ولكنه لا يرى شيئا, يعيد المصباح أمامه وهو ما زال على نفس الطريق, ثم بدأ يسمع صوت حفيف الأشجار خلفه .. استدار سريعا ليوجه المصباح الى مصدر الصوت فلم يجد شيئا, تملكه الخوف, هل من الممكن أن أحدا يتبعه؟ من عساه يكون في أثره؟ هل رآه أحد ما؟ واذا به يجل الحل الأمثل لمثل هذا الأمر .. هو الجري بلا توقف, استدار مرة أخرى ليواجه طريقه و بدأ في الهرولة, يسمع حفيف الأشجار يزداد .. يزيد من سرعته, فيسمع من خلفه سرعته تزيد .. يسمع عرك الخشب يتحطم تحت قدمى أحد يتبعه, بل الأدهى, أنها ليست قدمين فقط .. بل أكثر من ذلك بكثير, يزيد في هلعه, جسده يفرز الأدرينالين بكثرة فتصبح سرعته جنونية .. ولكنه يسمع وقع تلك الأقدام على جانبي الطريق أيضا مختفية وراء الأشجار, يزيد في سرعته حد الجنون.. يحاول أن يصرخ ولكن خوفه ألجمه, من فرط سرعته سقط المصباح من يده فأصبح يجري في عتمة الظلام ولا يرى شيئا إلا ما جاد القمر به عليه من نور طفيف, تعثر في صخرة ليسقط على وجهه سقطة كاد أن يتهشم منها قفصه الصدري, يقوم مسرعا و يكمل جريه, ثم يشعر أن الأقدام التى تطارده قد خف وقعها, بدأ في التخفيف من سرعته, ينظر إلى الخلف .. فلا يجد شيئا .. ولا حتى على جانبي الطريق, يعود إلى طريقه ويكمل سيره وهو يلتقط أنفاسه اللاهثة, يستند إلى شجرة عن يمينه ثم يسمع صوتا من خلفها, يحاول الجري مرة أخرى ولكن يخرج من خلف تلك الشجرة رجلا عظيم الجثه فيضربه بهراوة على مقدم رأسه ليسقط على الأرض, يحاول النهوض, ينقلب على بطنه ويستند على يديه وركبتيه فيعاجله الرجل بضربة على مؤخر رأسه .. ليسقط بعدها على الأرض مرة أخرى .. مغشيا عليه.
****
القاهرة – داخل الأسوار
يعود (وليد) إلى مكتبه وهو يشعر بالسعادة لما وجده في شقة (حازم), جلس على المكتب ثم خلع نظارته و ارتدى نظارة (حازم) و بدأ في الانتظار, فمن المؤكد أن حازم سيفعل أي شيء من خلال شريحته, مما سيعطي اشارة للنظارة بالعمل, وقتها قد يستطيع (وليد) أن يعرف أي معلومة تدل على مكان وجوده, حتى و إن مات, فإن الشريحة تبدأ في إرسال رسائل بتحديد الموقع اوتوماتيكيا إن لم يقم مضيفها باستخدامها لمدة اثنان وسبعون ساعة, وذلك لأن نظارات الأسرة تترابط معا في تحديد المواقع لمعرفة أماكن بعضهم وسهولة الوصول, إذا .. فوجب عليه أن يدرك أي معلومة قبل ان تمر ثلاثة أيام .. جلس (وليد) محدقا في الفراغ خلف النظارة .. ينتظر أي شيء, حتى غلبه النعاس.
مكان ما – خارج الأسوار
الألم .. هذا الشعور المصاحب لكل حالات الحزن, لكل حالات الإيذاء, فمهما يكن ما بعده, فأنت لن تنسى الألم .. لن تنساه أبدا.
يبدأ (حازم) في استعادة وعيه شيئا فشيئا, كل شيء مشوش, الرؤية, الأحداث, حتى ذاكرته .. كل شيء وكأنه انقطع عنه الإرسال, تدريجيا تبدأ التفاصيل بالظهور, تفرض نفسها عليه ليدرك حقيقتها.
فتح عينيه ببطء, أثر الضربة مازال يؤلمه, و كأنه تذكره للتو, يرفع رأسه قليلا و يضع يده على رأسه من الخلف فيجدها مضمدة ببعض القماش, يحاول أن يفهم وضعه الحالي فيدرك أنه ممدد على فراش, ليس مريحا تماما, يقوم ببطء ليجلس على الفراش وهو يشعر ان رأسه تزن طنا, يعتدل و ينظر حوله, فيجد نفسه في حجرة صغيرة, حوائطها تتشكل من أعمدة خشبية طولية متراصة بجوار بعضها البعض, و السقف من زعف النخيل, مصدر الضوء مصباح صغير يعمل بالنار, لا يوجد أي مصدر للكهرباء هنا, يحاول أن يقوم ولكن رأسه الغير متزنة ما زالت تفرض عليه الإرهاق و التعب, يقاوم ويحاول الوقوف, ما أن انتصب جسده حتى شعر بدوار يعصف به, وسقط على الأرض مرتطما بها.
سمع أقداما تتسارع ناحيته, يحاول النظر ولكنه لا يستطيع, الضباب الذي حل برأسه مرة أخرى قتل كل الوضوح أمام عينيه, وجد انه محمولا بين الأيادي ووضعوه على السرير مرة أخرى, وفي نفس اللحظات بدأ الاتزان يشق طريقا ناحيته, فبدأ يستعيد رؤيته و قليلا من كل شيء آخر, نظر عن يمينه فإذا به يرى أناسا يرتدون معاطفا ثقيلة, يبدوا انها صنعت من جلود الذئاب, ألوانها بنية ورمادية, ومن الواضح أن من هم داخل الغرفة ليسوا بالقليل, قام مرة أخرى ليجلس على السرير وينظر إلى وجوه هؤلاء, وما أن لاقى نظره أول فرد فيهم حتى تملكه الفزع, حاول النهوض مسرعا ولكنه لا يستطيع, عدم اتزانه كان له كامل الفضل في ذلك, انه يتذكر هذا الشخص, فهو نفس الرجل الذي ضربه على رأسه, حاول أن يقف على قدميه فسقط مرة اخرى ليمسك به الرجل الواقف بجواره, يزيح عنه يديه بسرعة الخائف فهو لا يدري ماذا سيفعل به ثانيا حتى سمع صوتا يقول:

  • اهدأ يا (حازم), لن نؤذيك.
    التفت الى مصدر الصوت ليجد رجلا عريض المنكبين يتمتع بطول واضح وقوة جسدية ملحوظة, خمرية لونه أضفت عليه بعض الرهبة, شعره المعقوص خلف رأسه ولحيته الكثيفة جعلا (حازم) يظنه في العقد الرابع من عمره,ما ان لبث حتى قال له (حازم) :
  • من انت ؟
    ليجيبه الرجل قائلا:
  • من الواضح أنهم آذوك تماما لدرجة أنك لم تتعرف على احد منا .
    فردد ( حازم ) الكلام مرة أخرى :
  • من … أنت ؟
    ليرد عليه قائلا:
  • حسنا يا صديقى, لا تغضب .. أنا (سالم) ولأوفر عليك مشقة الأسئلة فأنت هنا بين أخوتك, من الواضح أن ذاكرتك قد محيت .. لذلك اهدأ قليلا ريثما يعود كل شيء كما كان .
    تلك الكلمات لم تمنع ( حازم ) من طرح مزيد من الأسئلة فقال :
  • أخوتي ؟! كيف ؟! .. وكيف محيت ذاكرتي ؟
    ثم اقترب من (سالم) ناظرا في عينيه و مستكملا لأسئلته :
  • وكيف لي أن أصدقك أصلا؟ .. فإن محيت ذاكرتي فقد تتلاعب بي لدس أفكار ليست ملكي من الأساس .
    ليجيبه (سالم) قائلا:
  • ما يدفعك لتصديقي هو شيء واحد .. أنك هنا بيننا .. و أننا نعرفك حق المعرفة .
    أدار (حازم) ظهره إليه متجها إلى السرير في ركن الغرفة وهو يقول :
  • ما زلت لا أصدقك .. ولا أي مما تقول
    ليجيبه (سالم) قائلا :
  • تلك عادتك دائما يا صديقي .. لا تصدق حتى تلمس الحقيقة بيديك .
    قالها ليرتجف (حازم) و يخفق قلبه, فتلك نفس الكلمات التى قالته له المرأة التى قابلها في المصحة, استدار مواجها (سالم) ثم خطا خطوات ليمسك بتلابيبه وهو لا يستطيع أن يوجه له أي كلام, لا يستطيع حتى أن يسأله كيف علم تلك الكلمات بالذات, ولكن (سالم) أمسك بيديه وأنزلهما ببطء و قال له:
  • أعلم أن تلك كلماتها, والتى دائما كانت تقولها لك
    بدأ الحزن يتغلغل داخل قلب (حازم) .. يتذكر سريعا مشاهده معها, بسمتها ونظرتها إليه, الدماء التى لطختها, الجروح على جسدها, الحفرة في مؤخر رأسها الحليق, تذكر كل ذلك دفعة واحدة لتسيل الدموع من عيناه .. ثم ينظر إلى (سالم) قائلا:
  • أكنت تعرفها؟
    فيجيبه :
  • بل السؤال هنا .. هل عرفتها أنت؟
    ليجيبه (حازم) والدموع على وجنته ما زالت تترقرق
  • عرفتها في وقت متأخر
    تغيرت ملامح (سالم) الجامدة للقلق وهو يقول ل (حازم)
  • اذا أنت تعرف مكانها .. أرجوك أخبرنا أين هي؟
    يجلس (حازم) على طرف السرير ثم ينظر إلى (سالم) المتلهف للإجابة ليقول له:
  • حتى و إن عرفتم مكانها, فمن المستحيل إنقاذها .. فلا نستطيع منح الحياة لمن فقدوها.
    رأى (حازم) رجفة لحظية سرت في جسد( سالم) الذى أنزل وجهه للأرض, وبدأ بكاءا صامتا .. وليس وحده, بل كل من في الغرفة أيضا قد بكوا عليها .. ثم رفع (سالم) رأسه مرة أخرى موجها نظره ل(حازم) قائلا:
  • لقد اختارت أن تواجهك بمحض إرادتها, وضحت بالحياة من أجلك, فلنأمل أنك ما زلت تستحق فعلتها .
    قالها (سالم) واستدار مغادرا الغرفة, وتبعه بعدها كل من كانوا فيها .. ليتركوا (حازم) وحيدا, يبكي في مرارة .. فقد قتل تلك المرأة بيديه, قتل من شعر في نبراتها بشيء غريب عليه .. هو الأن يعترف لنفسه .. لقد قتل زوجته.
    لم يمر وقت طويل حتى خرج (حازم) من غرفته, ليدهش بما رآه, فكثرة الوثائقيات التى كان يشاهدها داخل القاهرة 1030 أعطته تصورا عن ما يكمن خلف الأسوار .. كان يتصور الأرض صحراء قاحلة .. تترامى فيها الرمال الصفراء مدد البصر, ولكن ما يراه الأن ويشاهده ويلمسه بيديه مختلف تماما.
    فهو يرى أشجار عالية خضراء مورقة و مثمرة أيضا, حتى أن رائحة المكان غريبة عليه, ولكن شيئا ما بداخله يخبره أن تلك الروائح موجودة في خلايا عقله وكأنها كانت هنا من قبل, فتلك هي رائحة الطين المبتل, و أخرى يتعرف عليها و تنير في رأسه أنها الياسمين, و ثالثة يدرك أنها البرتقال و الكثير الكثير من زخم العطور الذي دفعه ليستنشق الهواء بقوة من يريد أن يتجرع من كل شيء دفعة واحدة, اكتمل الهواء في صدره, ووصل الأكسجين إلى خلايا مخه, ليقف ثوان قليلة ليشبع من هذا العبق الئي يملأ حواسه فعليا, حتى يبدأ بالزفير, مخرجا معه كل تلوثات فكره السابق.
    يتقدم خطوات قليلة لشجرة راسخة, يتلمسها بأنامله, ثم يقبض عليه بكفه كاملا, ملمس الخشب أعطاه شعورا غريبا بالقوة, قدمه التى تغرس لا إراديا في الأرض وبين أوراق الشجر المتساقطة تشعره أنه ينتمى لهنا, تخبره أن هناك الكثير مما لا يعلمه.
    داخل أسوار القاهرة 1030
    يستيقظ (وليد) من نومه الذي لا يدرك كيف لحق به من الأساس, ينظر من خلال نظارة(حازم) التى لم تدب فيها الحياة بعد .. هو يدرك أنه لم تأتيه أي مراسلات او مخاطبات من مركز القيادة إلى الآن, فهو لم يشعر بأي وخز صادر من شريحته .. يحملق في النظارة اكثر, ثم فجأة .. تظهر نقطة ما على عدسة نظارته, نقطة واحدة فقط .. لتومض ثلاث مرات متتالية, وتختفى مرة أخرى.
    نهض (وليد) مسرعا ليعتدل على مكتبه, ها قد اتت إشارة من (حازم) ولكن ما هي, لم تمر اثنان وسبعون ساعة حتى تعطي الشريحة موقعه, ومع ذلك فعلت .. هل هناك عطب ما بها؟ هو لا يعلم تماما .. لذلك من الأفضل أن يتأكد.
    أمسك بجهازه اللوحي ثم بدأ يعتصر مخه قبل أن يضيع مكان النقطة تلك من رأسه, فعندما تعطي الشريحة تلك الإشارة تتكون صورة باهتة للخريطة خلف النقطة تماما, بها إحداثيات النقطة .. والتى بدأت تتوارد إلى ذهنه ليسرع في كتابتها وليظهر بعضها موقع شريحة الدكتور (حازم) الذي كان مفاجئا لـ (وليد) .. فالموقع خارج الأسوار.
    بالرغم من انه قد توقع وجوده خارج الأسوار إلا أنه لم يكن هناك دليل حتى تلك اللحظات, فمجرد التفكير في الذهاب خارج المصحة يصيب بدنه بقشعريرة تخيفه, فهو يدرك ان الذهاب للخارج لا يكون إلا بأوامر مباشرة من القائد الأعلى للحراس, وهذا يتخطى صلاحيات رئيسه الأكبر, ولكنه بحاجة إلى إذن للخروج.
    ارتدى نظارته وبدأ فى ارسال رسالة إلى رئيسه المباشر قائلا:
  • سيدى .. توصلت لمعلومة حول مكان الدكتور المختفي.
    ليأتيه الرد بعدها بقليل
  • هات ما عندك.
  • حسنا .. لقد بحثت بنفسي داخل مسكنه ووجدت نظارة تخصه, وبقيت معي حتى أعطت إحداثيات اليوم ولاول مرة, وعندما أدخلتها على جهازي اللوحي ليحدد موقعه اكتشفت انه يقبع بعيدا .. خارج الأسوار
    صمت .. صمت لثوان .. ثم لدقائق, شعر (وليد) أن قائده قد صمت لساعات في حين أنه لم يتخطى الدقيقتين, ثم جاءه الرد :
  • أمر مثير للاهتمام, كيف استطاع أن يخرج ولدينا كل تلك الحراسة على الأبواب .. حسنا دع الأمر لي, لقد قمت بواجبك حتى الآن, أرسل الإحداثيات إلي .. وعد إلى مراقبتك المعتادة, فالأمر يأخذ منحنا خارج حدود سلطتك من الآن فصاعدا .
    ذهل (وليد) مما قرأ, كيف له أن يأخذ منه تلك القضية بتلك البساطة, إن ما وصلوا إليه إلى الآن كان بفضله, ليرسل إليه رسالة يقول فيها:
  • سيدي .. أتمنى أن تظل ثقتك في كما هي, فانا أريد أن أكمل العمل على تلك القضية, بل و اطلب الإذن منك للذهاب للخارج بحثا عن الدكتور (حازم).
    ثوان مرت لياتيه الرد من رئيسه قائلا:
  • (وليد) .. أنت تعلم جيدا أن السماح لك بالخروج ليس ضمن سلطتي, كما أننا لا نناقش الاوامر هنا, فانا أعطيتك أمرا مباشرا أيها الحارس, نفذ الأمر و أعطني الإحداثيات الآن وعد إلى عملك وتأكد أن كل شيء بقطاعك يسير على ما يرام.
    هنا بدأ الدم يغلي في عروقه, لماذا يتحدث إليه بتلك اللهجة, لماذا يسرق منه نصره, لم يلبث حتى جائته رسالة أخرى من قائده يقول فيها :
  • (وليد) .. الإحداثيات.
    عيونه تكاد تنفجر في محجريها من الغضب فور رؤيته لتلك الرسالة, ولكنه يدرك أن الأوامر لا تناقش, فأرسل الإحداثيات وهو في قرارة نفسه يلعن كل شيء, ولكنه أرسلها و أنتهى الأمر .. لتأتيه رسالة أخرى من رئيسه يقول فيها:
  • عمل جيد .. الآن سلم الموقع لأحد الحراس وخذ بعض الراحة, فقطعا أن تحتاجها بعد كل هذا المجهود.
  • حسنا سيدي , سأفعل .. شكرا لك.
    يخلع نظارته بعصبية ويلقيها بعيدا, يشعر بالغضب يشتعل في صدره فيصرخ, صراخه لم يهدئه, ولكن غضبه ازداد, فإصابته تمنعه حتى أن يسمع صرخة غضبه, كل شيء حوله ساكن, حتى وإن تهشم وتحول لقطع ككأس الماء الذي كان على مكتبه, لم يسمع له صوت عندما ضربه بيده .. لم يسمع أي شيء, فعاد لسكونه مرة اخرى وهو يلهث, مفكرا فيما سيفعل.
    أرسل أمرا للحارس الذي يليه في السلطة لكي يتولى أمر الحراسة ريثما يعود من فترة راحته, يخرج من مكتبه محتضنا جهازه اللوحي, يركب وسيلة مواصلاته و يعود إلى منزله, يصعد لمسكنه, يدخل من الباب فيجد زوجته و ابنه جالسين يشاهدان فيلما وثائقيا عن الأرض من خلال شاشة بث في صالته, يدخل إلى المرحاض, يخلع ثيابه, ثم يفتح صنبور المياه لتسيل على وجهه بحرارتها لتهدئ من غضبه قليلا, ينساب الماء عليه, ويبدأ فكره في العملو كيف لرئيسه أن يقصيه بتلك السهولة, كيف له أن يقلل من شأنه مجهوده بتلك الطريقة, ينتهي من استحمامه ثم يخرج متجها لفراشه, وهو يحاول أن ينال قسطا من الراحة .. ولكن الراحة لا تاتي لمن يبحث عن الحقيقة.
    عقله يعمل .. يفكر, يريد أن يعرف الحقيقة مهما كلفه الأمر .. ولكن أكثر ما كان يشغله هو(حازم), كيف خرج وسط كل تلك الحراسة, كيف تفادى كل النقاط العمياء دفعة واحدة, خصوصا انه لا يملك مخططا لها أو ما شابه, هناك امورا كثيرة يجب أن يعلمها, وعليه أن يبدأ الآن.
    نهض من فراشه مرتديا ملابسه ثم نزل من مسكنه متجها وهو يفكر قائلا لنفسه:
    إن كان (حازم) قد خرج فهو قد خطط لذلك جيدا, هو جعلنا نعتقد انه خرج بعد أن عاد من عمله, ولكن فحصس لسجلات المطعم و المقهى لذلك اليوم يفيد أن (حازم) لم يأخذ وجبته ولم يشرب مشروبه أيضا, كيف حدث ذلك إذا إن كانت وسيلة نقله أمام مسكنه, إذا هناك حلان فقط, إما أنه عاد بوسيلة نقله ثم نفذ خطته, أوأنه لم يحركها من الأساس .. والطريق ليس بقصير, فوجوده ذلك اليوم داخل المصحة أمر مفروغ منه فقد قام بكل واجبات عمله, فإما أن تكون المصحة قريبة من مكان هروبه, أو تكون هي البوابة للخارج أصلا, في كلا الحالتين .. سأتخذ طريقي نحو المصحة مترجلا, أريد أن أكتشف كيف فعلها, وكيف استطاع أن يهرب من هنا.
    اقترب (وليد) من المصحة وهو ما زال يفكر كيف تكون مخرجا, وهي لا علاقة لها بالدخول أو الخروج من البوابات, ولكن .. مهلا .. ان لها علاقة مباشرة بالدخول والخروج, فالمصحة تأتيها المؤن مباشرة و تخرج منها أيضا, ليقول في قرارة نفسه :
    من المؤكد أنه خرج بتلك الطريقة فلا توجد سواها.
    يتجه (وليد) نحو ساحة المؤن ليجد آثار عجلات مركبات الـ(موجول) ويسمع صوت بعضها قادم نحو الساحة فيتحرك مسرعا ليختبيء خلف بعض الصناديق, ترسوا المركبات بعدها بقليل داخلا لساحة ليهبط منها رجلين, يتكلمان ولكن (وليد) لا يسمع ما يقولان, مرة أخرى يلعن إعاقته تلك,
    يخرج متسللا من خلف الصناديق ليسير بينها متجها الى الـ(موجول), هو لا يأمن أن يصعد على متنها فقد يكشفه أحدهم, فزحف أسفل المركبة ليتشبث بجسمها المعدني ومعلقا قدمه على بعض الاجزاء الأخرى صانعا لنفسه حاملا معدنيا يبعده عن الأرض, لم يمر وقت طويل حتى شعر باهتزازات المركبة تنبأه أنها على وشك التحرك, هو الى تلك اللحظة لا يصدق ما يفعله, ولكن السعي وراء الحقيقة يحركه, ويلتهم بقايا عقله الذي لا يكف عن العمل.
    تسير المركبة متجهة إلى البوابة الكبيرة, (وليد) يدرك وجهتها فهو قد فعل نظام تحديد المواقع على نظارته, ويراقب الآن مسيرها, وصلت المركبة الى البوابة الكبيرة وتوقفت, ليجد (وليد) أقدام الحراس تحيطها من كل جانب, يفتشونها و يراجعون هوية السائق ومساعده كما هي العادة, شعر باهتزازات أخرى تؤكد له أن هناك من صعد على متن المركبة, قليل من الوقت قد مر ثم رآى قدميهما تهبط من الـ(موجول), اهتزازات عنيفة .. لتسير المركبة بعدها, تاركة خلفها تلك المصحة الكبيرة, والمدينة التى تحوي الكثير من الأسرار.
    خرجت الـ(موجول) وهي تحمل في باطنها (وليد) الذي كان كالوليد فعلا, كطفل صغير يتحسس معالم العالم بعيدا عن أمهو و الادهى من ذلك أنه يفتقر إلى أهم أساليب البقاء, فهو لا يسمع, لا يتكلم, ولا يدرك ماذا سيفعل, فقط الحقيقة ستكون شافية له.
    بدأت الاحداثيات على شاشته تتضح شيئا فشيئا, هو يشكر عقله الذي هداه أن يخرج في ذلك التوقيت, فليس هناك الكثير من الوقت قبل أن يعلم رئيسه أن الإحداثيات التى أعطاها له (وليد) مزيفة, هي تشير إلى الخارج, ولكنها أبعد بكثير عن التى ظهرت له على نظارة (حازم), شيئا ما بداخله جعله يفعل تلك الفعلة, واتضح أنه كان على صواب.
    هو في طريقه للاقتراب ثم وبدون سابق إنذار وجد أن المركبة تنحرف عن الطريق, هنا وجد أن ترك الـ(موجول) في تلك اللحظة أسلم حل سيفعله, سيكمل باقي الطريق على قدميه, نظر إلى مؤخر المركبة محاولا ضبط المسافة بينه وبين عجلاتها حتى لا يموت دهسا تحتها, ثم يحرر قدميه وبعدها يترك يديه ليسقط على الأرض محاولا عدم الانحراف لتمر الـ(موجول) من فوقه كوحش عملاق, ليقوم من بعدها واقفا على قدميه ناظرا حوله, ولكن لأول مرة يشعر بوخز الجلد ذاك, يري دخانا يخرج من فمه, يشعر ببرودة لم يعتادها داخل أسوار القاهرة 1030, يحيط ذراعيه بكتفيه محركا إياهما يستجدي منهما دفئا ولو بسيطا, يركز في عدسات نظارته, ويبدأ السير نحو الإحداثيات التى يحوزها, الأرض من تحته قاسية, ومع ذلك لا يشعر فيها بغرابة, يسير ليجد أن الطريق يتجه به نحو أشجار كثيفة, الظلام يحيط كل شيء, هو يخاطر بدخوله لهذا المكان وحده, ولكنه لا يستطيع أن يخبر أحدا, أخرج مسدسه – الذي بحكم عادته ملاصقا له بصفته رئيس الحراس – من جرابه وأنار ضوء المصباح الصغير وبدأ في سبر أغوار تلك الغابة المجهولة, يسير .. ببطء .. محاولا عدم إحداث أي صوت, ولكنه لا يدرك ماهو لاصوت أصلا, هو يحاول تجنب شيء لا يعلمه, ولكنه يتذكر تدريبه على الصمت .. والتحرك برفق, فاستخدم مهارته تلك ليسير محدقا في الظلام دون أن يرى هدفا محددا أمامه, يستدير يمينا ويسارا محاولا كشف أي خطر قبل حدوثه, اعتدل في طريقه ليجد شيئا مريباو فقد وجد من داخل الظلام وعلى بعد اربعة امتار شيئا مخيفا, فقد وجد عينان تنظر إليه .. عينان فقط دون أي شيء آخر, بل وتقترب منه .. تقترب بروية ليظهر أمامه صاحب العينين, بأنيابه .. وشعره الرمادي .. ومخالبه التى ظهرت استعدادا لتلك المذبحة التى على وشك الحدوث.
    (وليد) يتذكر هذا الكائن من الوثائقيات, لقد كانوا يسمونه الذئب, لقد قالوا أن الذئاب كلها قد انقرضت .. ولكنه يرى أحدهم أمامه, كامل النمو تماما, كامل القوة, الإرتعاد الذي أصابه لم يكن له أثر جيد عليه, فزيادة الأدرينالين في جسده تدفعه للهرب, ولكن أين يهرب من هذا الضاري, اتخذ موقفه .. وجه فوهة مسدسه ببطء ناحية الذئب, وقبل أن يضغط على الزناد وجد أن الأخير بدأ في الجري مباشرة نحوه, ليضغط (وليد) على الزناد وقد انطلقت الرصاصة من فوهة مسدسه ولكنها لم تصب المفترس الذي تفاداها برشاقة, هم بإطلاق الرصاصة الثانية ولكنه شعر بوخز في جانب عنقه, ليسقط على الأرض التي تدور في رأسه, ويقع على وجهه لتكون آخر ما يشاهده هي أقدام الذئب التى توقفت عند رأسه, لتظلم الدنيا بعدها تماما.
    نفس الليلة – في مكان ما
    يجلس (حازم) على طرف سريره بعد يوم حافل بكل شيء, قد نقول بعد يوم حافل بالحياة, حياة لم يعتادها ولم يدرك جمالها إلا اليوم .. بدأ يفكر, ما الذي يدفع الأخوية لخلق هذا العالم الذي يعيشون فيه .. وإقناع كل من بداخله أنهم يملكون الدنيا كلها, داخل تلك الأسوار .. و الأرض قد أصبحت مستعدة لاستقبال البشر مرة أخرى .ز فلماذا لا يتركون لنا حرية الإختيار بين العيش معهمو أو الخروج للحياة, لم يجد إجابة شافية, وبينما هو مستغرقا في أفكاره وجد شخصا يطرق على قوائم الغرفة التى تشكل بابها ويقف عندها, ينظر إليه فيجده (سالم), بقامته الممشوقة ونظراته الحادة وعمق عينيه الذي ينبء أنه يعرف الكثير, فقام (حازم) متجها إليه ليقول له :
  • أهلا, (سالم) .. ما الذي جاء بك إلي؟
  • اعتقدت أنه حان الوقت لتعرف ما يجب عليك معرفته.
    ارتجف (حازم), فهو يعلم أن هناك لكثير الذي يريد معرفته فعلا ولكنه لا يدرك الكيفية, فسأله:
  • وكيف سأحوذ تلك المعرفة إذا؟
  • اتبعني .. وعندما نصل ستعلم كل شيء
    سار (سالم) بضع خطوات أمامه ولكن (حازم) لم يحرك ساكنا, ليلتفت إليه (سالم) برأسه قائلا له:
  • لا تخف, فإن أردت قتلك لفعلت ذلك منذ أن وطأت أقدامك هنا, ولكن صدقنى, لا أحد هنا يريد إيذائك.
    لأول مرة يشعر (حازم) أنه يجب عليه الوثوق بهذا الرجل, حتى و إن خالف طريقته في التصديق, وهي أن يمسك الحقيقة بيديه, ولكن .. بعد كل ما رآه, هو لا يدرك أين الحقيقة من الأساس, فتبعه دون أن يتكلم بحرف واحد.
    خرجا الاثنان من تلك الحجرة وانطلقا باتجاه بعض الأشجار, يسير (سالم) وبجواره (حازم) الذي رفض في قرارة نفسه أن يسير خلفه, سارا قليلا حتى سمع (حازم) أغصانا صغيرة تكسر ولكنها ليست من عمل قدمه أو قدم صاحبه, إنها تأتي من خلفه, ومن جانبه, بل يكاد يجزم أنها تأتي من أمامه أيضا, كل ذلك و (سالم) هاديء كما هو, يسير بتؤدة وثبات يحسد عليهما, أما (حازم) فقد بدأ الذعر يتملكه, حتى سمع زمجرة تأتي من خلفه ليلتفت إلى مصدرها فيجد ذئبا ضخما مكشرا عن أنيابه ويهم بالانقضاض عليه, تبادر إلى ذهنه شيء غريب, كيف عرف أن هذا المخلوق ذئب, وهو لم يره قبل ذلك, يركز نظره على الذئب الذي بدأ في الالتفاف حوله ثم استدار لينظر إلى (سالم) الذي وبكل غرابة رآه ينظر إليه و هو مازال ثابتا كما عهده منذ أن جاء إلى هنا, ثابتا .. وقد لاحت على جانب فمه ابتسامة ما.
    اتسعت عيون(حازم) من رد فعل (سالم) هل يعقل أنه جاء به إلى هنا ليكون فريسة لتلك الوحوش, ثم فجأة انقض الذئب على (حازم) ليسقط أرضا وقد وضع الذئب قدميه الأماميتين على ساعدي (حازم) ووجهه في وجهه, يكاد قلبه ينخلع من مكانه, أنياب الذئب وعيونه الغاضبة التى تثبتت أمام ناظريه تخبره أن تلك سيكون آخر ما يراه.
    (حازم) ملقى على الأرض, و(سالم) مازال واقفا مبتسماو ثم وبدون سابق إنذار, لعق الذئب وجه (حازم)وتراجع خطوتين للخلف ليحرر يديه ويجلعه يقف على قدميه مرة أخؤى, في ذهول وهلع من (حازم) الذي لا يستطيع فهم أي شيء مما يجري, فنظر إلى (سالم) مستفهما ليجيبه قبل أن يتفوه بكلمة:
  • هؤلاء حراسنا, وهذا هو ذئبك, لا تخف, فقد عرفك.
    اقترب الذئب من (حازم) الذي ما زال متوجسا منه خيفة ليشم في يديه ويلعقها, فيسحبها (حازم) مسرعا, ويسير خلف (سالم) الذي بدأ في اكمال الطريق, وهو ينظر إلى الذئب الذي بدأ في اتباعه.
    صعد الاثنان تلة صغيرة وسارا بين الأشجار ليهبطا على الجانب الآخر من التلة, توقف (سالم) وهو يقول لـ(حازم) :
  • ها قد وصلنا.
    ثم يستدير مواجها إياه وهو يقول له:
  • هل انت متأكد أنك تريد الحقيقة, تريد المعرفة؟ فبعد الخروج من هنا لا مجال للتراجع .. ان إردت أن تعود لمدينتك فأنت حر في ذلك, إما الآن .. أو لا تختار بعد ذلك أبدا.
    بدا (حازم) في التفكيرو هل يريد ذلك فعلا, هل يريد المعرفة, لقد كانت حياته هادئة .. هادئة جدا, حتى تغير كل شيء في لحظات, وقد كانت هي السبب .. هي التى حركت فيه أشياء ودفعته للقدوم والوصول إلى هنا, يتذكر بسمتها وصتها, يتئكر دماءها, يتذكرها تماما, في تلك اللحظة يلمسه الذئب برأسه ويجعل أصابعه تتخللها, لم يسحب يديه تلك المرة, بل عزم على كشف كل شيء, عزم على معرفة مهما كان الثمن, أراد أن يعرف من تكون تلك المرأة, التى ماتت من أجله, أو ليكون صادقا .. لامرأة التى قتلها هوو ليجيب على (سالم) قائلا:
  • أنا مستعد, مستعد لأن أعرف كل شيء الآن.
  • حسنا .. اتبعني, واستعد لمقابلة (حكيم).
    يسير (سالم) أمامه بخطىً مسرعة, ويسير (حازم) خلفه وهو يتسائل من (حكيم) هذا, ثم يصبر نفسه بأن كل شيء سينقشع قريبا, كل شيء.
    سارا حتى وصلا إلى ساحة كبيرة بها بعض الآلات, بدا (حازم) في التعرف على تلك الإلات قائلا لـ(سالم) :
  • ما هذا .ز أليست تلك مركبات الـ(موجول)؟ .. ما الذي أتى بها إلى هنا ؟
  • لقد كانت كذلك, كانت مركبات, قبل أن نفعل بها ما فعلنا.
    وقبل أن ينطق (حازم) سمع صوتا عميقا تشعر به داخلك يقول:
  • ما كنا لنفعل هذا لولاك.
    نظر إلى مصد الصوت ليرى رجلا أشيب, وعلامات السن قد غزت وجهه ولكن جسده و بنيته تنبئ أنه كان قويا فيما مضى, فظهره ما زال مستقيما ‘لى حد ما, ونظراته حادة وكأنه ينظر إلى أعماقك, اقترب من (حازم) وهو يقول:
  • أنت لك كامل الفضل في هذا يا (حازم).
    ليجيبه (حازم) قائلا:
  • أنا .. أنا لا أتذكر أي شيء, أنا حتى لا أتذكركم.
  • من المؤكد أنهم قد تلاعبوا في عقلك وذاكرتك يا بني, لا تخف فكل شيء سيكون على ما يرام, تعال .. هيا إلى الداخل.
    أمسك الرجل المسن بيد (حازم) وبدأ يسير به داخل تلك الـ(موجول) التى تغيرت تمام عن التى يعرفها (حازم), فقد كانت تلك المركبات قد تراصت بصناديقها الخلفية متجاورة و مشكلة دائرة كبيرة في المنتصف, وتمت تغطية صناديقها من الأعلى لتصبح سقفا لها, وتلك المساحة التى في المنتصف التى شكلتها صناديق الـ(موجول) الخلفية قد بدت خالية إلا من كرسي معدني موصول به الكثير من الأسلاك, وخوذة معدنية موصولة بالكرسي, نظر (حازم) إلى هذا الشيء الموضوع أمامه و الذي جال بخاطره أنهم سيجلسونه هنا و يلبسونه تلك الخوذة على رأسه, مجرد الفكرة جعلت جسده يقشعر, نظر إلى الرجل الأشيب بجواره ثم نقل بصره إلى (سالم) الواقف لا يتكلم, لينطق بعدها الأشيب قائلا:
  • إنها السبيل الوحيد للمعرفة يا بني, ما عليك سوى الجلوس و سينير عقلك مرة أخرى.
    يشعر (حازم) بالخوف, ولكنه أيضا يشعر بالطمأنينة تجاههما, فسار بخطوات بطيئة نحو هذا الكرسي, ما أن وصل حتى استدار وجلس عليه ليتحرك بعدها (سالم) و الأشيب نحوه, بدا (سالم) في ربط يديه وقدميه بأغلال حديدية ليثبته, بينما يضع الأشيب الخوذة على رأسه, ثم ابتعدا تماما ليتجه الأخير نحو لوحة تحكم تبعد قليلا عن (حازم), ويسمع بعدها صوته و هو يقول:
  • استعد يا صديقي, فالرحلة لن تكون قصيرة, ولن تكون سهلة أيضا.
    3
    2
    1
    الآن
    أنزل رافعة ما لتتدفق التيارات إلى الخوذة التي لم تتوانى في إرسالها إلى (حازم) الذي بدوره بدأ في الصراخ بكل ما أوتي من قوة, الألم شديد, يشعر أن عقله يغلي, بل أن هناك صورا تضيء داخل رأسه, يبدأ في التذكر, كل شيء مؤلم .. يزداد صراخه أكثر .. يرى نفسه ممسكا بيدي رجل ما, يبتسم إليه , يقول له:
  • ستصبح مكاني يوما ما.
    يتذكر امرأة تحتضنه, يتذكر الشعور بالدفء, يتمنى ألا يفارق هذا الحضن في تلك اللحظات, تنظر إليه بعينيها الدافئتين وتقول:
  • ستظل صغيري مهما كبرت
    الألم يزداد, يتذكر أرضا خضراء, حقولا فسيحة, يركض فيها وهو يمسك بيدين صغيرتين, ينظر إليهما, صبيا و فتاة ضحكاتهما تملآن الدنيا, ثم يراها, وبرغم الألم .. يبكي, يراها بشعرها الكستنائي, المنسدل على كتفيها, يراها تضحك بعذوبة زادت من تدفق دموعه رغم صراخ الألم, تذكرها تماما, عيناها الحانيتين, صوتها, حتى لحظات شبقها وحميميتهما, سمع نفسه يهمس لها ( فريدة .. أنا أحبك), لتجيبه بقبلة على شفتيه شعر بها حتى في تلك اللحظة, ثم يرى نيرانا, نيرانا قد اشتعلت في مساكنا كثيرة بين الحقول الخضراء الشاسعة, أناسا محترقين يجرون يمينا ويسارا, يرى نفسه حاملا الطفلين وممسكا بيد (فريدة) ويجرون بأقصى سرعة, قذيفة سقطت أمامه لتقذفه بعيدا ويفلت من يديه هذين الطفلين, يرى كل شيء مشوش, أذنه بها طنين يمنعه من السماع بوضوح, ينظر حوله فيجد الطفلين وقد تراشقت فيهما الكثير من الشظايا, يبكي بحرقة .. يزيد بكاءه .. يصرخ وهو يحاول النهوض ليذهب إليهما ولكن قدمه بها شظايا تمنعه من السير, يتحامل على جروحه فيزحف نحوهما, يمسك بهما, يتلمسهما .. يقلبهمها في يديه محاولا حث الحياة أن تدب فيهما مرة أخرى, ولكن لا حياة, يراها ملقاة هي الأخرى, يزحف متألما, باكيا, صارخا باسمها, يصل إليها, يهزها محاولا إفاقتها, لتأتيه قذيفة أخرى بجواره, تبعده أمتارا عنها مرة ثانية, ليظلم بعدها كل شيء, الألم يعتصره, يشعر بالندوب في قدمه تحترق, يرى نفسه محمولا على سرير بواسطة حراس القاهرة 1030, يدخلونه من بوابة المصحة التى يعرفها جيدا, انهم يسيرون به عبر قطاعات لم يعلمها قبلا, دلفوا به إلى غرفة واسعة, أقعدوه و حملوه لينقلوه إلى ما يشبه الكرسي, مثبتة به كابلات طاقة كبيرة, وخوذة مثبتتة في الكرسي, و أقعدوا أمامه شخصا ما ورأسه مغطى بالكامل, أوثقوه تماما ثم أزاحوا الغطاء عن الذي أمامه ليجدها (فريدة), موثوقة هي الأخرى على كرسي عادي امامه وما زالت في مرحلة الإفاقة, حاول الصراخ ولكنهم كمموه و ألبسوه الخوذة, ليسمع بعدها صوتا يعرفه جيدا, إنه صوت د (عمار), ذهل عندما سمعه يقول لهم:
  • شغلوا الآلة, فلتمحوا ذاكرته, و اتركوها أمامه كما هي, فنتيجة عملكم ستظهر, عندما ينظر إليها ولا يعرفها .. قريبا سنتخلص من كل من خرج على نظامنا, سنتخلص ممن أطلقوا على أنفسهم القوم الأحرار إلى الأبد, بل و بعد قتلنا لزعيمهم وحصولنا على ابنه بين أيدينا الآن, سنجعله يقتلهم بيديه, وسيكون هذا نصرنا المنتظر, المجد للأخوية.
    يتذكر الآلام التى ألهبت مخه ورأسه, يتذكر مرحلة الغليان التى يعيشها تلك اللحظات, يتذكر كل من حقنهم بيديه بمركب الـ(روكس), منهيا حياتهم, يصرخ .. ولكن الصراخ تلك المرة لم يكن من الألم, بل كان من الغضب .. الغضب الذي اشتعل داخله ليكون شعلة تنير طريقه للانتقام, صورا كثيرة تتوارد إلى ذهنه, أشخاص, ضحكات, مؤازرة, حنان, قوة, معان كثيرة قد ارتبطت بداخله من خلال أشخاص كثيرون, الدموع ما زالت تنهمر, وصراخه ما زال عاليا, حتى أعاد الأشيب الرافعة مكانها ليتوقف بعدها كل شيء, ويعم السكون المكان.
    يهرول (سالم) ناحية (حازم) ليفك الأغلال عنه, والقلق يغزوا ملامحه, فـ(حازم) ما زالت رأسه للأسفل ولم يرفعها حتى الآن, انتهى (سالم) من الأغلال ثم أمسك بذقن (حازم) يرفعها بروية, ليجد دموعه تغرق عينيه, وتنهمر منهما بغزارة, هنا نطق(حازم) قائلا:
  • (فريدة) .. لقد قتلت (فريدة), لقد قتلت الكثيرين.
    نزل(سالم) على ركبتيه ناظرا في عيني (حازم) محاولا تثبيته, و شد أزره لولا أنه قد اغرورقت عيناه هو الآخر, فتكلم قائلا:
  • لا عليك .. لا عليك يا أخي, سنثأر لهم كلهم, لا تقلق.
    يميل (حازم) برأسه لينظر بجواره فيجد ذئبه, يشير إليه فيقترب, يضع يده على رأسه و تتخلل أصابعه فرائه دون خوف تلك المرة, أنهضه (سالم) من على الكرسي ليقف, ثم ينظر إلى الأشيب ويتجه إليه بخطوات متثاقلة, يفتح ذراعيه ويضمه بينهما قائلا:
  • شكرا لك يا (حكيم), شكرا على كل شيء.
    ليرد (حكيم) هذا الشكر بحضن آخر وفرحة عارمة قد بدت على ملامحه, ثم يقول له:
  • أنت لا تدرك سعادتي الآن, إذهب لترتاح, وغدا سانتظرك, سنذهب إلى المكتبة القديمة سويا.
    لم يعرف (حازم) ماهو المهم في تلك المكتبة القديمة الآن, فالأفكار في رأسه ما زالت غير مرتبة تماما, لذلك رد قائلا:
  • حسنا .. موعدنا غدا.
    خرج (حازم) و (سالم) من تلك المنطقة وعادا إلى المعسكر, ليجدا أن الناس واقفين ينظرون إليهما وكأنما كانوا يعرفون أين كانا, فينطق (حازم) قائلا:
  • مرحبا أيها الأحرار
    نظر الجميع لبعضهم نظرات تملؤها الدهشة, فقد كانوا يعتقدون أنهم قد فقدوه للأبد, أو أن جهاز (حكيم) لن يستطيع إعادته ولكنه هاهو يقف أمامهم, متذكرا إياهم, لتبدأ صيحات الفرحة تدب فيهم جميعا, فمنهم من يحتضنونه ومنهم من يتقافزون ومنهم من يبكي, كل يفرح بطريقته, فالأمل قد أضاء مرة اخرى.
    يقف (حازم) بعيدا عن الحشود قليلا, ليهمس في أذن (سالم) قائلا بعد أن سمع كلمات مثل ( عاد الأمل, رجع أخانا, ستعود الحقوق, سنأخذ كل ما هو لنا .. ) و أشياء من هذا القبيل :
  • أخبرني, كيف لي أن أكون أملا أو معيدا للحقوق, أنا .. لا أفهم شيء؟
  • لا تقلق يا أخي, ذهنك مشوش قليلا, ستستعيد كل شيء في الصباح, كما ان مقابلتك مع (حكيم) ستجيب عن كل أسئلتك.
    اعتدل (حازم) في وقفته وهو يأمل أن يتذكر كل شيء عما قريب, و يتطلع لمقابلة (حكيم).
    في تلك اللحظة, وجد (حازم) أن ذئبه قد زمجر و نظر لمكان ما خلف الحشود, ليبدأ هو بالتركيز في تلك النقطة, فيخرج منها بعض الأشخاص الذين يرتدون ملابسا مشابهة لهم, ثم يتبين أنهم من القوم الأحرار أيضا, ولكنهم لم يأتوا إليهم خاليي الوفاض بل يحملون جسدا مغشى عليه.
    يذهب القادمون بهذا الجسد لغرفة صغيرة, يدخلون إليها و يضعون المغشي عليه على سرير ثم يوثقونه فيه, ليدلف بعدها (حازم) و (سالم) إلى الغرفة, لينطق (حازم) قائلا:
  • ترى من يكون هذا الشخص؟ .. أين وجدتموه؟
    قالها موجها سؤاله للقادمين به ليجيبه أحدهم قائلا:
  • لقد كان عند أول الغابة يا سيدي .. لقد جاء من نفس الطريق الذي سلكته تماما, ومن الواضح أنه من سكان المدينة, فقد كانت تلك بحوزته.
    و مد يده ليعطيه نظارته وبها بعض الانبعاجات البسيطة لينظر إليها (حازم) ثم يقول:
  • ان كان ذلك صحيحا فمن المؤكد أن لديه شريحة في رأسهو قد يستطيع أن يبلغ عن مكاننا أو حتى يرسل إشارات إستغاثة.
    ثم يدقق النظر فلا يجد أي أثر لدماء على هذا الجسد لينظر إلى (سالم) مستفهما وهو يقول:
  • إنه سليم تماما ولم يتم ضربه إلا بإبرة تفقده الوعي, ألم تكن تسطيع فعل ذلك بي بدلا من هذا الألم الذي سببته لرأسي؟
    ليبتسم (سالم) وهو يقول:
  • كان يجب أن نفعل ذلك, كان يجب أن يعمل دماغك بكل قوته, لأن في تلك الحالة الشريحة تحاول أن ترسل إشارة بتحديد موقعك, و أيضا تكون في أضعف حالاتهاو فضربة واحدة على رأسك كافية بتعطيلها تماما.
    ثم ينظر إلى الضخم الذي ضرب (حازم) قبل ذلك قائلا:
  • ولكن من الواضح أن (رون) لم يضربك في الوقت المناسب .. و إلا لما تبعك هذا الشخص إلى هنا.
    نقل (رون) نظره بينهما و هو يشعر بالحرج ولكنه لم ينطق بكلمة, ليقول (حازم) بعدها:
  • (رون) ؟! ما هذا الإسم الغريب؟
    ليرد (سالم) باسما:
  • ستجد هنا الكثير من الأعراق و الأسماء المختلفةو وستدرك السبب بعد مقابلتك لـ(حكيم)
    أعاد (حازم) نظره إلى المغشي عليه الذي لم يفق حتى الآن, ثم قال :
  • معنى ما قيل أن هذا الشخص قد تستطيع شريحته أن ترسل شريحته أي إشارات استغاثة؟
    فيجيبه (سالم) في ثقة:
  • لا تقلق, فلكي تعمل تلك الميزة يجب أن يقوم الدماغ بنشاط غير معتاد عليه, أو يحدث فيه قصور غير معتاد, وتلك الحقنة التى أعطيناها له ما هي إلا مخدر قوي فقط, فهو الآن في حالة سبات, ولا يوجد أي نشاط غير طبيعي في دماغه, كما أن الشرائح غير قابلة للتتبع, لا تقلق, سنعلم من هو عندما يستعيد وعيه.
    خرج الجميع ووقف اثنان منهم على باب الغرفة تلقائيا, ثم اتجه (حازم) إلى غرفته الصغيرة ويتبعه (سالم) إلى أن وقفا على باب الغرفة ثم قال الأخير له:
  • سأتركك لترتاح الآن, فغدا يوم حافل.
    أومأ (حازم) برأسه ثم تركه (سالم) و مضى في طريقه, دخل إلى الغرفة وهو يتفكر في كل ماحدث في تلك الأيام القليلة, كل ما عرفه قد تغير, بل و على وشك أن يتغير فيه الكثير, ينتظر مقابلته مع (حكيم) بفارغ الصبر, و مع ذلك يشعر بالخوف, بالقلق, يشعر أن هناك أمورا ستصدمه أكثر و اكثر, ألقى جسده على الفراش, و أغمض عينه ليغفوا .. ويبدأ في نوم عميق.
    الشمس .. جالبة الضياء و دليل انقشاع الظلام, دفء الأمل وقوة الحق, هي الظهور بعد التخفي, و الحقيقة الظاهرة بعد كل الاستتار.
    (سالم) يسرع الخطى, تقترب خطواته من الهرولة, يتجه مباشرة نحو (حازم) الذي ما زال غافيا, يصل إلى بابه فيطرقه بشيء من العنف, ليستيقظ (حازم) من نومه شبه مفزوع, فينظر على الباب ليجد (سالم) واقفا و أنفاسه تتسارع, ليقول له:
  • لقد أفاق.
    فيقوم (حازم) من فراشه مسرعا, يرتدي معطفا جلديا كان قد أعطاه له (سالم), و يذهب خلفه إلى غرفة الدخيل الذي أمسكوه ليلا.
    يدلف الاثنان الى الغرفة, وفي اللحظة التي وقع فيها نظر (حازم) عليه, وجد أن الآخر يبادله النظرات, ثم تليها دهشة, ليوقد هذا نار الفضول داخل (حازم), لماذا دًهش هذا الشخص عندما رآه ولم يفعل ذلك مع أي أحد من الموجودين, فسأله (حازم) قائلا:
  • من انت؟ ولماذا جئت إلى هنا؟
    فيأتيه الرد بالصمت .. لا إجابة.
    هنا اغتاظ (سالم) من عدم مبالاة هذا الجالس أمامهم حتى لم يبدي أي رد فعلو فتقدم نحوه وهم بضربه لولا أن صاح به (حازم) :
  • لا ( سالم) .. لا تفعل.
    ليتوقف (سالم) ويخفض يده التي رفعها قبلا ويبدأ في التراجع ولكن عينه لا تنفك تثقب أعين هذا الجالس أمامهم, بل اكثر ما كان يشعل غيظه هي اللامبالاة التي يتمتع بها هذا الشخص.
    هنا قال (حازم) لـ (رون) الواقف بجوار المكبل امامهم بصوت عال صارم وواثق:
  • اضربه بكل ما أوتيت من قوة على رأسه.
    ليذهل بعدها (رون) و (سالم), وعندما رفع (رون) يده عاليا وقبل أن يهوي بها صرخ فيه (حازم) قائلا:
  • توقف.
    ليتوقف بعدها (رون) ويده كادت أن تهشم رأس هذا الأسير, وسط دهشة الجميع.
    ثم تحدث (حازم) قائلا بعدها:
  • إن الذي امامكم هنا مريض, مريض بضمور عقدة بروكا, و لحياته التى عاشها بين جدران القاهرة 1030 المليئة بالصمت, فقد اختفت لديه حالة السمع أيضا, تأثرا بضمور عقدة بروكا و بنمط الحياة البائس الموجود هناك.
    وسط دهشة الحاضرين يسأله (سالم), وكيف علمت؟
    فيجيبه قائلا:
  • هو لم يبدي أي رد فعل إلا عندما رآنا, حتى كلامنا لم يجلب انتباهه, ولكن ما جذب انتباهه هو تحركاتنا هناو لذلك أمرت (رون) بصوت عال أن يضربهو فإن كان طبيعيا لارتجف او ظهرت على جسده اشارة تنبئنا أنه سمع ما نقول, ولكن لم يبدوا عليه أي شيء, حتى باقتراب يد (رون) منه, لم يبد أي ردة فعل, هذا الرجل .. أصم أبكم.
    الأعين مفتوحة من فرط الذهول, فغن ماقاله (حازم) يتطابق تماما مع المنطق, وبدونه قد يكون اكتشافهم لتلك المشكلة شيئا صعبا بل وقد يأخذ الكثير من الوقت, أما هو فقد استطاع أن يحله في دقائق.
    هنا أخرج (حازم) مفكرته وقلمه, وكتب عليها قائلا:
  • سأحل وثاقك, ولكن عدني انك لن تفعل شيئا مجنونا
    ليجلس القرفصاء ويضعها أمام عيني الأسير الذي يومئ برأسه إيجابا, فيقوم بعدها (حازم) من جلسته ويبدأ في فك وثاقهو وسط تحفظ الجميع, ينهي ما يفعله ليصبح الأسير حرا, فيجلسه (حازم) على كرسي بجوار الفراش الذي قام من عليه توا, ويقطع بعض الوريقات من مفكرته ويعطيها للأسير, ففهم الآخر ان تلك ستكون طريقة تواصلهم الآن, بدأ (حازم) في الكتابة في مفكرته قائلا:
  • من أنت؟ وما الذي اتى بك إلى هنا؟ وكيف علمت هذا المكان؟
    ثم وضعها امامه وناوله القلم ليبدأ الأخير في الكتابة هو الآخر قائلا:
  • اسمي (وليد), قائد حراس القطاع 12, جئت بحثا عنك, وعلمت مكانك من الإحداثيات التى ظهرت على نظارتك التى كانت بحوزتي.
    ثم ناول (حازم) القلم بعد أن أراه تلك الورقة وما كتبه عليها, ليفاجأ (حازم) أن (وليد) يعرفه حتى قبل أن يعرفه على نفسه, بل وجاء باحثا عنه أيضا, ليكتب له قائلا:
  • ولماذا تبحث عني؟
    ناوله القلم بعد أن أقرأه ما كتب ليكتب له (وليد) قائلا:
  • لست وحدي من أبحث عنك, بل كل من في القاهرة 1030 يبحث عنك.
    هنا شعر (حازم) ببعض التوتر, هذا معناه أن المدينة كلها قد علمت باختفاؤه, ووصول أحد أفراد الحراس معناه أن هناك المزيد منهم, ولكن كيف يأتي هذا الحارس هنا وحده؟ فسأله (حازم) مستفهما, ليجيبه (وليد) قائلا:
  • جئت وحدي لأحاول إيجاد سببا لتركك المدينة الآمنة و الهروب, ولكن من الواضح أن هناك أكثر من سبب, أنت زعيم تنظيم ما, أنت تحاول التخريب, أنت تحاول تدمير كل الآمنين في مساكنهم, تحاول سلب الحياة منهم بعد أن استحقوها جراء كل العناء, كيف وقد كنت طبيبا جيدا فيما تعمل, انت عار .. خزي كبير, وخيبة امل.
    هنا بدأت الدموع تكثر شيئا فشيئا في أعين (حازم) عندما قرأ كلمة (طبيب) التى كتبها له (وليد), تذكر كل من قتلهم بيديه و رأسه محنية تقرأ الورقة, من خلال العقاقير التى كان يعطيها إياهم, تذكرها .. لينطق اسمها تلقائيا, هامسا به بينه و بين نفسه, ثم يرفع رأسه ناظر لـ(وليد) الذي استغرب من ردة الفعل تلك, وكتب بعدها شيئا وناوله إياه ثم نهض قائما, وتركه ومضى, لينظر (وليد) إلى المكتوب في الورقة ليجده قائلا:
  • اذهب إن شئت, وابقى إن أردت المعرفة, فلك مطلق الحرية.
    (وليد) لم يكن يتوقع هذا, بل ظن أنه سيثور عليه او سيستخدم القوة أو شيء من هذا القبيل, ولكن (حازم) خالف كل توقعاته فقد عرض عليه الحرية في الذهاب و الاكتفاء بما لديه, أو حرية البقاء والمعرفة, عليه فقط أن يحسن الإختيار.
    خرج (حازم) من الغرفة و تبعه (سالم) الذي أشار لـ(رون) بالبقاء على الباب ثم سأل (حازم):
  • لماذا تركته ولم تكمل أسئلتك؟
  • لقد علمت ما يهمنا في الوقت الحالي.
  • و هل تتوقع أن يبقى بعد أن عرضت عليه الحرية؟
  • سيبقى .. صدقنى .. فنظرة الفضول لديه تخبرني بذلك.
  • آمل ان تكون محقا يا صديقي.
  • لا تقلق, هيا بنا لندرك ميعاد (حكيم)
    أسرعا الخطى باتجاه الأشجار الكثيفة ليصعدا الى التلة و يهبطا منها إلى باحة سيارات الـ(موجول) التى اصبحت شبيهة بمعمل كبير, وصلا ثم توقف (سالم) قائلا لـ(حازم):
  • هنا يا صديقي, هنا تبدأ رحلتك, وهنا ينتهي دوري.
    لينظر إليه (حازم) مستغربا ثم يقول:
  • ماذا تقول؟ هيا تقدم لنكمل الطريق معا.
  • القادم طريقك أنت, أما أنا, فمجرد تابع لخطاك, فاختر الطريق جيدا أيها القائد.
    قالها (سالم) ثم استدار باتجاه العودة تاركا (حازم) في حيرته.
    دقائق مرت على (حازم) وهو في هذا الصمت, الى أن سمع صوت زمجرة قد اعتادها, نظر خلفه فوجد ذئبه المهيب واقفا على بعد امتار منه, و كأنه ينتظر منه إذنا ما, فابتسم (حازم) قائلا:
  • تقدم يا (كيرن), أنا سعيد أني تذكرت اسمك, وسعيد أنك هنا.
    ليتقدم بعدها الذئب بخطوات متسارعة نحو (حازم) الذي ما أن وصل إليه حتى فرك فروة رأس الذئب بكلتا يديه ومربتا عليه بسعادة, لحظات مرت ليظهر بعدها (حكيم) من بين بعض الأشجار قائلا لـ(حازم):
  • اتبعني.
    سار (حازم) تجاه (حكيم) الذي قاد الطريق دون أن يتفوه بكلمة حتى قال له (حازم):
  • إلى أين نحن ذاهبان؟
    ليجيبه (حكيم) دون أن ينظر إليه قائلا:
  • لقد أخبرتك البارحة, ذاهبان للمكتبة القديمة.
  • أهي مهمة لذلك الحد الذي يجعلها محط اهتمامك؟
  • ستعرف كل شيء عندما نصل.
    سار الاثنان ما يقرب للنص ساعة و (حكيم) يقود الطريق ولا يتحدث, ولكن (حازم) يأكله القلق والفضول, وقبل أن ينطق بحرف قال له (حكيم):
  • استعد, فقد انتهت رحلتنا فوق الأرض.
    لينظر حازم بعدها ليجد انهما قد وصلا إلى مدخل يشبه بوابة لطريق تحت الأرض, تبدا ببعض الدرجات التى تتجه للأسفل, فيتعجب من هذا التصميم الذي يبدوا عليه القدم, فيسأل (حكيم) قائلا:
  • ما هذا المكان؟
    ليجيبه (حكيم):
  • تلك شبكة الأنفاق القديمة.. كانت إحدى وسائل المواصلات قبل الإنفجار العظيم, سأشرح كل شيء في الأسفل, هيا بنا.
    نزلا الاثنان على درجات السلالم المؤدية للأسفل, ثم أخرج (حكيم) من جيبه مصباحين صغيرين ناول أحدهما لـ(حازم) الذي أضاءه على الفور ليبدد عتمة الظلام تلك, السير تحت الأرض لم يكن اعتياديا لـ(حازم), كما أنه لم يخطر على باله أصلا أن يكتشف البواطن أو يبحث عن شيء من العصر البائد.
    هبط الاثنان و هذا الأخير يحاول أن يبدد عتمة كل شيء, ليس الظلام فحسب, بل عتمة جهله حتى بتفاصيل هذا المكان, يوجه مصباحه يمينا ويسارا ليكشف عن حوائط لامعة بألوان ما زال بها بعض الزهو, يتبع (حكيم) الذي يظهر عليه أنه يدرك تمام أين يذهب.
    يقفا على حافة رصيف غير مستوي, ويبتعد عن الأرض مسافة تزيد عن المتر, يقفز (حكيم) من فوقه ليرسوا على الأرض, فيتبعه (حازم) الذي لا يدرك إلى أين يذهب حتى الآن, يهبط من فوق الرصيف ويتبعه (كيرن) ليكملا طريقهما نحو نقطة اظلم, و أعماق أكثر, على ضوء كشاف صغير.
    يسيران ليبدأ (حازم) الحديث قائلا:
  • ما كل تلك الأنفاق, أكان الناس يهربون فيها من شيء؟
    ليبتسم (حكيم) قائلا:
  • لا, لم يكن هناك هربو بل كانت هناك حياة, فقد كانت الأنفاق أسرع وسيلة مواصلات و اكفأها أيضا.
  • أخبرني المزيد.
  • حسنا .. كانت الأنفاق وسيلة نقل عظيمة, وكانت تسمى (مترو الأنفاق), و آلة النقل نفسها عبارة عن جرار عظيم يجر خلفه مركبات تتشابه في الطول والحجم, وغير مسموح لأي وسيلة نقل أخرى بالدخول على طريق المترو والذي كان مخصصا فقط له, لذلك كانت أكثر فعاليةو بعيدة عن الازدحام, محددة التوقيت, كانت وسيلة رائعة بحق.
    تتسع عينا (حازم) ويرتفع حاجبيه إعجابا بهذا الاختراع, ليسأل (حكيم) قائلا:
  • إن كان بتلك القوة, لماذا لم تستخدمه الأخوية فيما بعد؟
  • الأخوية يا بني لم ترد معظم أشكال الماضي, الأخوية أرادت عالما جديدا تماماو خاليا من كل ماهو قديم.
  • و هل هذا صواب في رأيك؟
    ليقف (حكيم) عن السير ويستدير مواجها (حازم) قائلا له:
  • ماهو مقياس الخطأ والصواب لديك؟ أهي معاييرك الخاصة؟ أم الحقيقة ذاتها؟ اسأل نفسك يا بني هل تسير على نهج الحقيقة؟ اسأل نفسك ولكن أعلم انك مهما وصلت, ستكون نهاية وصولك هي لقناعاتك الشخصية المتأصلة بداخلك, وعندها لن تكون تلك هي الحقيقة, بل سيكون اختيارك .. هو ما تريده انت.
    استدار مكملا الطريق ليسأله (حازم) قائلا:
  • وكيف لي أن أدرك الحقيقة؟ كيف لي أن أعلم الصواب و الخطأ؟
  • لتفعل ذلك فهو أمر ليس بالهين, بل شاق .. شاق جدا, فالحقيقة دائما مؤلمة, ولكن طريقة تطبيقها أسهل مما تتخيل.
  • كيف؟!
  • دعني أسألك أولا.. هل تعلم لماذا يخشى الناس مواجهة حقائقهم؟
  • لا .. لا أعلم.
  • سأخبرك قصة قديمة, توضح لك الكثير من الأمور .. كانت الحقيقة والكذب يعيشان بين الناس, متجسدين في أجساد على مرأى ومسمع من الجميع, ولكن الحقيقة كانت دائما تكشف الكذب في كل مواقفه, تظهره للعيان, فيزداد بغضا وكرها لها, فخطرت على باله فكرة, ستجعله أفضل, وستجعله مقبولا بين الناس, ذهب إلى الحقيقة و قال لها أن هناك بحيرة قريبة ولا يعرفها أحد سواه, و حاول أقناعها أن يذهبا ليستحما سويا في تلك البحيرة, و سيكون هذا قربان محبة للحقيقة, وسيتبعها و يتخلى عن صفاته السيئة, فصدقته وذهبت معه .. وما أن وصلا إلى البحيرة حتى خلعت الحقيقة رداءها و نزلت إلى المياه ولكن .. يبقى الكذب كما هو, سرق رداء الحقيقة و ارتداه هو, وسار بين الناس فخورا مزهوا, خرجت الحقيقة بعدها من المياه عارية, الكل يتحاشى النظر إليها, الكل لا يريد أن يواجه الحقيقة بأنها عارية مجردة من كل التصنع, فضلوا تصديق الكذب لتلبسه بثوب الحقيقة, رغم أنهم يعرفون جميعا, أنه الكذب .. الكذب ولا شيء آخر.
    توقف (حكيم) أمام عملاق حديدي يرقد على جانبه مائلا دون حراك, ليشير إليه موجها كلامه لـ(حازم):
  • هذا هو مترو الأنفاق, كان يحمل بداخله الكثيرون وقت الإنفجار العظيم, هل تعتقد أنه مات بموت أرواح من كانوا فيه؟ أم مات لانه اكتشف كذبة أخرى, ترتدي ثوب الحقيقة؟
    ثم فتح عن يمينه بابا معدنيا موجودا في الحائط الذي يجاورهم ودلف منه ليتبعه (حازم) و (كيرن) ويذهل مما رآه.
    قاعة واسعة مستديرة, تمتليء بالأرفف ما بين خشبية ومعدنية ومليئة جميعها بالكتب, كتب كثيرة أكبر من أن يحصيها (حازم), بل ومن اتساع المكان وجد ان هناك أيضا كرسيين مشابهين لذلك الذي أعاد الذاكرة لـ(حازم), قلبه يخفق من عظمة هذا لامكان, و كأنه رسى على شاطيء المعرفة, ليسأل (حكيم) قائلا له:
  • كيف؟ كيف استطعتم ان تجمعوا كل تلك الكتب و تنقذوها من الدمار؟
  • لسنا نحن من فعلنا ذلك, بل الأحرار الأوائل, ولم تكن تلك الوسيلة الوحيدة للحفاظ على المعرفة, بل استطاعوا أيضا أن ينقذوا كمًا عظيما من المعرفة المسجلة بتكنولوجيا رقمية.
  • أتلك هي المكتبة الوحيدة الموجودة؟
  • ماذا تظن أنت؟
  • أ أ أنا أعتقد أنها ليست الوحيدة.
  • حسنا, كلامك يحمل الصواب والخطأ في آن واحد, فهي بالفعل ليست الوحيدة, ولكنها الوحيدة هنا .. لقد استطعنا نشر وبناء الكثير من المكتبات في مختلف الأماكن, بمعظم اللغات الموجودة, نحن نحاول إنقاذ أكثر مما يمكن إنقاذه.
    ثم ابتسم (حازم) ساخرا يقول:
  • وما الفائدة؟ .. ما الفائدة من كل هذا؟
  • فائدة المكتبة؟ أم فائدة إنقاذنا لها؟
  • كلاهما.
  • لقد أردت أن تدرك الصواب من الخطأ, لقد أردت أن تفهم ما هي المعايير, حسنا .. إليك كامل المعرفة, و اصنع أنت معاييرك الخاصة.
    هنا شعر (حازم) انه أخطأ, أنه سأل سؤالا لم يكن يفترض عليه أن يسأله, ولكن المعرفة تأتي بالتعلم, و التعلم لا يكون إلا من الخطأ, فسار خلف(حكيم) الذي ولاه ظهره متوجها إلى ركن ما قائلا له :
  • آسف (حكيم), أنا ما زلت مشوش.
    ليستدير له باسما وهو يقول:
  • لا عليك يا بني, دعنى أخبرك الآن لماذا جئت بك إلى هنا.
    بدا الاهتمام يظهر على ملامح (حازم) الذي سحب كرسيا لنفسه وجلس, وبدأ (حكيم) في الكلام قائلا:
  • إن نشأة الأخوية كانت لها هدف رئيسي, وهو إنهاء القمع والظلم وتحقيق العدل والمساواة بين الناس, وهذا ما حدث في باديء الأمر, حتى أنهم قد أرسلوا مواثيقا للناس تخيرهم بين أن يتبعوا الأخوية او يبقوا على النظام القديم كما هو, أتبعهم الكثيرو ولكن ليس كما كان متوقع, ثم حدث بعدها الإنفجار العظيم الذي غيرت به الأخوية وجه العالم تماما, ليظهر بعدها عصر جديد في تاريخ البشر, يعيشون فيه بنظام محدد و أساليب محددةو قد ضمنت للكثيرين المساواة, ولكنها حرمتهم من اهم حق لهم .. الحرية.
    وبعد فترة من الزمن وجدت الأخوية أن السبب الرئيسي لمعاناة البشر, هم البشر أنفسهم, فهم من يقتلون بعضهم و يتناحرون فيما بينهم من اجل معتقدات يظن كل فرد فيها انه هو الصواب و الباقون على خطا ويجب التخلص منهم, حتى أن فكرة تقبل الرأي الآخر لم تكن موجودة بين الكثيرين, فدائما هناك احقاد تدفعهم لفعل كل ماهو مقيت ولذلك ستبقى الخسة والدناءة والعرقية والطائفية والعنصرية موجودين ما دام البشر بتلك العقليات, فآثروا عدم السماح بالحرية في هذا الوقت, إلى أن يستطيعوا رفع ثقافة البشر أنفسهم.
    هنا كان دور المقنع الأول والذي كان من نسل مؤسس الأخوية المهندس (علام) وبدأ في محاولة إرجاع الأخوية لطريقها الأول, واعطاء الناس ما تم سلبه منهم قبل ذلكو ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن, فأعضاء الأخوية الآخرين لم ترق لهم فكرة أن يكونوا كالناس العاديين بعدما وجدوا لذذة السلطة و قوتها بين ايديهم, فتآمروا عليه, و قتلوه.
    هنا استفحلت الدهشة على ملامح (حازم) الذي لا يصدق ما يسمع حتى الآن, فالأخوية كانت له بمثابة النقاء الأوحد في هذا العالم الكئيب, ولكن الحأكاذيب تكشف الآن.
    ثم استطرد (حكيم) قائلا:
  • ومن بعدها انحرفت الأخوية عن مسارها, بل نصبوا أنفسهم حكاما على العالم لضمان أن لا تكن هناك حروب أو أي شكل من أشكال العنف, ولضمان أن لا يجور أحد على حق أحد, فاستعبدوا البشر كلهم, بل و استطاعوا الحصول على معظم ثروات العالم, بل والادهى أنهم تقلدوا الحكم بعد موافقة معظم الناس الذين وجدوا السلام قد تحقق علي يديهمو راوا ان الأخوية قادرة على القيادة والنجاة تحت أي ظرف, ووثقوا فيهم تلك الثقة العمياء , ليبدأوا بعدها في التعاظم و التجبر أكثر فأكثر.
    أعضاء الأخوية ضمنوا لأنفسهم ولنسلهم الرخاء الدائم, والنعيم الذي لا ينضبو بل أنهم قد طوروا الطب من أجلهم هم فقط, فأصبحوا يستخدمون البشر كقطع غيار لهمو يستبدلون أعضائهم التالفة بأعضاء اكثر حيوية و صحة, هل تصدق فعلا أن من كاناو في المصحة كانوا كلهم مصابين بضمور عقدة بروكا؟ لا يا بني .. فهؤلاء ليسوا إلا قطع غيار لأعضاء الأخوية و أبنائهم , فلا يرضي أحد منهم أن يكون أحد أبنائه غير قادر على الكلام مثلا, أو أن يديه أو قدميه بهما عيب ما, هم لا يرضون بذلك, و المصحة بالنسبة لهم, مركز تجارة كبير.
    الدهشة, والحزن, والغضب, والشفقة, كل تلك المشاعر التى شعر بها (حازم) في آن واحد جعلته لا يصدق أن يكون هناك بشرا بكل هذا الحقد و البغض و الخسة, مما دفعه ليقوم مندفعا من على كرسيه قائلا لت(حكيم):
  • أنا .. لا .. أصدقك؟
    فيبتسم (حكيم) قائلا:
  • كنت أعلم أنك ستقول ذلك.
    ليستدير و يغوص في قلب الظلام ثم يعود بجهاز لوحي كبير نوعا ماو ويبدأ في عرض مشاهدا عليه ويعطيه لحازم قائلا:
  • أنظر, و تمعن, فهذا ما التقطه كاميرات المصحة نفسها, ومن داخل الغرف التى لم تجروء على الدخول إليها قبلا.
    نظر(حازم) ليجد شخصا على سرير غرفة العمليات وحوله بعض الأطباء, صدره مشقوق و يخرجون منه القلب, ويضعونه في صندوق ويغلقونه, ثم يتركونه يلفظ أنفاسه الأخيرة.
    مشهد آخر لشخص ملقى على بطنه في غرفة أخرى, او قد تكون هي نفس الغرفة, وبمثقاب بدأوا في ثقب رأسه من الخلف, تشنجاته التى ظهرت عليه رغم القيود تظهر أن هذا الشخص لم يتخدر حتى, بل فعلوا فيه كل ذلك وهو يشعر بكل ذرة ألم, ثم استخرجوا من رأسه قطعة ما, ووضعوها في صندوق شبيه لصندوق القلب, وتركوه وذهبوا, ليفاجأ هو بالمشهد الذي يليه, وجد بعدها بدقائق شخصا يدخل إلى الغرفة مسرعا ثم يقف مذهولا مما يرى, ويقترب ببطء ناحية هذا المسجي أمامه, ويبدأ في فك وثاقه ووضع الأقطان على رأسه ولكنه يدرك في تلك اللحظة أنه لن يفلح في إنقاذه, تصيب قلبه غصة بينما يشاهد هذا المشهد, فقد تذكر كل التفاصيل, فما يراه الآن هو ماحدث قبل أيام قليلة, و قد كان هو من يحاول انقاذ ذلك المسكين.
    مشهد إخر من غرفة مهيبة, مليئة بالشاشات و الأزرار الكثيرة والضخمة, و يقف الكثير من رفيعوا المقام فيها, و يبدوا عليهم انهم يتحادثون ولكن بشكل عنيف, ويوجهون كلامهم لشخص واحد, ويبدوا عليه أنه هو المسئول, وما ان أخبرهم شيئا حتى صمتوا جميعا, ثم استدار ليولجه نافذة خلفه, فتقدم اثنان منهم و أمسكوا به وجاء ثالث من الخلف و أخرج سكيناو ثم أجراها على عنقه ناحرا إياه, لينهمر الدم صابغا ثيابه باحمر قانيو ويتركه الاثنان بعدها ليسقط أرضا, ويسقط من بين ملابسه قناعا يعرفه جيدا, قناعا أبيض, به انفجار نووي عظيم, وزهرة كاملة النمو.
    دفع (حازم) بالجهاز إلى (حكيم) مستنفرا مشمئزا و قائلا:
  • كيف استطعت الحصول على كل ذلك, ومن الواضح أنه أمر بالغ السرية.
  • أنالم آتي بشيء يا بني, انت من اتيتنا بكل هذا.
    ليدهش (حازم) مستطردا:
  • أنا ؟!
  • نعم .. انت.
    يجلس على الكرسي مرة أخرى وهو يقول لـ(حكيم):
  • أنا لا أتذكر أي شيء, أخبرني من كنت, وماذا كنت أفعل .. أرجوك.
    ليجيبه (حكيم) قائلا:
  • انت (حازم مراد) ابن المناضل وقائد الأحرار و مرجع الحقوق, استطعت أن تكتشف انت ووالدك أماكن كثيرة تصيب الأخوية في مقتل و تفضح سرهم للعالم أجمع, حتى أنكم قد علمتم مكان أعظم سرين من أسرارهم, (السلاح الأكبر) و (حاوية الكائنات) وبعدها استطاعوا بشكل ما معرفة مكاننا وشنوا حربا علينا استخدموا فيها قوتهم, قتلوا مننا الكثيرو و أنت ممكن فقدوا معظم أحبته .. والدك .. والدتك .. طفليك, حتى أنهم لم يقتلوك لإذلالنا جميعا, لأنهم يعلمون أنك ووالدك كنتما املا كبيرا, فقتلوا لأول, و استعبدوا الثاني .. واستطاعوا نقلك في اماكنا كثيرةو لم نكن نعلم مكانك إلى أن وجدتك هي, واستطاعت معرفة الكثير عنك.
    هنا أدرك (حازم) انه (حكيم) يتكلم عن (فريدة), ليتذكرها ويخفق قلبه مجددا, و يكمل بعدها (حكيم) قائلا:
  • كانت تدرك أنهم لن يدعوها تؤثر عليك من الخارج, فوضعت خطة للدخول ومقابلتك هناك, علمت تماما انهم لن يدعوها تخرج حية, وقد تموت دون أن تقابلك من الأساس, ولكنها اعتمدت على غرورهم الذي سيكون نقطة الضعف لهم, فسلمت نفسها إليهم, ووضعوها امامك في معظم المرات التى كنت تسير فيها في المصحة, لم يجعلوا هناك سبيلا لك لتراها مرات أكثر, بل كانت مرة واحدة فقط, مرة واحدة و أخيرة, ستراها ولا تعرفها, ولكنها ستعرفك حق المعرفة, وستقتلها بيديك, لتحمل الألم في قلبك للأبد.
    هنا انهمرت الدموع من عيني (حازم), فكل ما قاله (حكيم) قد حدث بالفعل, ولكن ما حدث لا يمكن تغييرهو فالموتى لا يعودون للحياة, كم يود أن يضمها مرة .. مرة واحدة يعتذر لها فيها عن كل شيء, عن كونه بتلك الحماقة, ولكن لا سبيل لذلك أبدا.
    هنا قال (حكيم) له :
  • هون على نفسك, وانظر إلى الجانب المضيء, فبسببها قد عدت إلينا, كلنا ندين لها يا بني
  • ولكنني قتلتها .. قتلتها يا (حكيم), ما زلت أرى نظراتها وبسمتها في كل أرجاء عقلي.
    قالها (حازم) باكيا وهو ينظر في عيني (حكيم) الذي رد قائلا:
  • أنت لم تكن تعلم أنك تقتل, الذنب على من أقنعوك انك تعطي الدواء و في الحقيقة هو سم قاتل, حاول أن تتخلص من هذا الذنب يا بني, حاول ان تجعلها فخورة, ولا تهدر حياتها التى قدمتها من أجلك.
    لم يرد (حازم) بل حاول استيعاب كامل الكلمات, ليقول بعدها :
  • سأفعل .. أعدك.
    ثم استطرد قائلا و هو يمسح بيده دموعه التى سالت على وجنتيه :
  • لقد قلت أني أعرف مكان ( السلاح الأكبر) و(حاوية الكائنات), رغم أني لا أدرك ماهيتهما تماما , إلا أني ما زلت لاأتذكر مكانهما,ولم أعلم اسميهما إلا بعدما أخبرتني أنت بذلك, فهلا شرحت لي فضلا ما هما؟
    فأردف (حكيم) قائلا:
  • السلاح الأكبر هو متسلسلة إطلاق عظيمة, في أماكن متفرقة, لا يعلم مكانها إلا بعض أعضاء الأخوية الكبار, هي صواريخ قادرة على التسبب في دمار آخر, ولكن تلك المرة أكبر و أكثر فتكا بالأرض.
    قال (حازم) مندهشا:
  • ولماذا؟ .. لماذا تحوز الأخوية هذا السلاح من الأساس, بينما هم يحكمون العالم كما قلت؟
  • إنهم يفعلون ذلك تحسبا لخروج الأمور عن سيطرتهم, إن جنون العظمة يتملكهم بشكل مبالغ فيه.
  • حسنا .. أخبرني عن (حاوية الكائنات) تلك؟
  • إنها حاويات عظيمة, لم يرها أحد منا, ولكنها تحوي الكثير من الكائنات على هيئة بويضات مخصبة, و أيضا تسرع مرحلة النمو ثلاثة مائة وخمسة وستون مرة فور إعطائها الأمر, أي أن ما يستغرق عاما ليكون تفعله تلك الحاوية في يوم واحد.
  • يااه, لا أصدق كم المعرفة الذي وصلت له الأخوية, بل و قوة العلم الذي بحوزتهم, ولكن لا فائدة ترجى من علم يودى بصاحبه للهاوية.
  • بالضبط ..
  • إذا ماذا يفترض علي أن أفعله؟
  • هذا يعتمد على ما لديك.. ما تظن أنه صحيح و يجب فعله.
    قام (حازم) من على كرسيه يمشي قليلا في أرجاء المكتبة, مفكرا فيما سيفعله, ومحاولا تذكر أين كانا هذين السلاحين, ثم قال لـ(حكيم) :
  • الأمر صعب, لا أتذكر أين مكانهما.
  • اهدأ قليلا .. لا تضغط على نفسك, تلك المعلومات موجودة في ذاكرتك, الأمر مسئلة وقت فقط.
    لم يجد (حازم) بدا من ان يهدأ ويطيع ما قاله (حكيم)و فاتجه إلى أرفف الكتب يتفحصها وينظر فيها, أخذ يلتقط منها شيئا فشيئا, يفتح الكتاب يقرأ شيئا منه ثم يغلقه ويعيده مكانه, الأمر أثار إعجابه, مما دفعه للبحث في عناوين أكثر.
    ظل يجول بناظريه بين الأرفف حتى وقع بصره على كتابين مزخرفين بشكل مبهر, فالتقطهما يتفحصهما عن قرب, فأذهلته العناوين, فالكتاب في يمينه يحمل عنوان (القرآن الكريم), والكتاب في يساره مكتوب عليه (الكتاب المقدس), يصيبه الذهول, والدهشة, بل و الفضول في معرفة ماهية تلك الكتب, فاستدار إلى (حكيم) الذي يتابع الموقف في صمت ثم قال له:
  • ما هذين يا (حكيم), أو .. ما معناهما.
    ليشير له (حكيم) بإحدى يديه أن افتح الكتاب و انظر ما فيه, فيضع الكتاب الثاني على طاولة أمامه, ثم يفتح المعنون (بالقرآن الكريم), ينظر إلى الكلمات المزخرفة بعناية, ويقول له باستغراب:
  • أهذا .. مكتوب يدويا؟
    فيوميء (حكيم) برأسه إيجابا, ليكمل (حازم) تصفح الكتاب, إلى أن استوقفته فقرة في الكتاب ليقرأها بصوت عال ويقول:
  • ظهر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون.
    ثم نظر إلى (حكيم) الذي لم يحرك ساكنا, وهو مذهول مما قرأ, ليسأله قائلا:
  • من كتب هذا يا (حكيم), أهو أحد كتاب التاريخ؟ .
    هنا قام (حكيم) من مكانه وتقدم بتؤدة نحو (حازم) وهو يقول له:
  • لا .. ليس مؤرخا, ثم أنك تسأل السؤال بشكل خاطيء, انت تستفهم عن القائل, ام الكاتب؟
  • هل هناك فرق؟
  • نعم .. فرق شاسع, هذا الكتاب بين يديك يعود لمن يدينون بالإسلام, آخر دين سماوي, وحسب معتقداتهم فإن قائل تلك الكلمات هو (الله) الخالق لكل الكونو من أصغر ذرة, لأكبر مجرة.
    هنا ذهل (حازم) ثم قال:
  • وكيف يصدقون أن القائل هو الخالق كما يقولون, هل رأوه او سمعوه؟
  • كلا لم يروه ولم يسمعوه.
  • إذا فكيف وصل إليهم هذا الكتاب؟
  • الأمر لم يكن بسيطا, فقد أرصل الخالق لهم نبيا, يبلغهم الرسالة ويوصل لهم تلك الآيات.
  • حتى و إن كان, أنا أعتقد أن الأمر سطحي جدا.
  • هذا لانك تنظر إليه بسطحية يا بني, بل هو أعمق مما تظن, دعك من المبلغ و القائل والكاتب, ولكن انظر للكتاب نفسه, انظر لما فيه, وتمعن تلك الآيات, ستجد ان فيها من الحكمة ما يفوق قدرة بشر, او حتى مجموعة من الحكماء, سترى فيه قصص الماضي, والحاضر, و إن كنت نقيا كفاية, ستجد فيه .. علامات للمستقبل.
    نظر (حازم) إلى الكتاب المعنون بـ(الكتاب المقدس) , ليأخذه ويبدأ في التصفح, ليتفاجأ بعنوانه (سفر التكوين), هذا العنوان وحده كان كفيلا أن يشعل داخله رغبة المعرفة, فبدأ في القراءة ليقف عند سطرين, وبدأ يقول ما بهما بصوت مسوع قائلا:
  • ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض, و ان كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم, فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض.
    لينظر إلى (حكيم) الذي لم يحرك ساكنا ثم يقول:
  • أ أنا أشعر بتشابه غريب, الكتابين بهما ما يقول أن الانسان سببا للشرور, أ أهذص مصادفة؟
  • هل تراها مصادفة؟ ثم انك قد قرأت وحدك و باختيارك, أنا لم أعطيك شيئا تقرؤه .. فهل تراها مصادفة؟ .. الأديان يا (حازم) جاءتنا لتساعدنا على تحقيق الإنسانية أولا, نحن نحاول أن نعرف الناس بالعلاقة بين الخالق و المخلوق, فالأحرار يستحقون أن يختاروا معبودهم
    (حازم) المتشكك دائما والغير واثق في كل شيء حوله, بدأ في الشك في عقله, في قدرته على الثقة أصلا, في قدرته على الفصل بين ماهو واقع أو خيال, ولكن مهلا, كيف يقول هذين الكتابين تلك الكلمات التى قد تكون مكتوبة مما يزيد عن ألف سنة بكثير, أي أن الأحداث التى حدثت, لم تكن قد حدثت في وقتها, ثم أن الكتب تتحدث بصيغة الماضي, فكيف لها أن تتنبأ بمستقبل وهو بالنسبة لها شيء قد حدث في الماضي, لا يفهم شيء, ولكنه يشعر ان هناك دخانا يتصاعد من رأسه من كثرة التفكير, يستدير إلى (حكيم) فيسأله قائلا:
  • إن كان الخالق كما تقول هو الذي قال تلك الكلمات, التى أرى من ظاهرها مساواة و عدل, بل و أخلاق أيضا, كيف لم يستطيع المتدينون بهذه الأديان أن تكون حياتهم مثالية؟
  • نحن جميعا يا بني مخطئين, كلنا بلا استثناء, وهذا الخطأ يزيد من سواد القلب والروح, فننحرف دائما عن كل ما هو قويم, عموما, إجابة سؤالك في الآية التى قرأتها أولا.
  • أي اننا السبب, نحن؟ .. ولكن يا (حكيم) نحن أردنا أن نحقق العدالة حقا, و ليست مجرد كلمات.
  • وهذا ما أراده صاحب تلك الكلمات أيضا, أن نحقق العدالة بيننا, و أن نعيش في سلام.
  • هل تصدق؟ .. هل تصدق هذا الكتب و تلك الأديان ووجود الخالق حتى يا (حكيم)؟
  • المشكلة ليست في تصديقي من عدمه. فهو لن يفيدك في شيء, ولكن السؤال هنا .. هل تصدق انت؟
    تلعثم (حازم) ونحى بصره بعيدا عن (حكيم), ثم استدار موليا ظهره إياه ومتحركا بعصبية من يبحث عن شيء في ثنايا عقله .. حتى توقف و نظر لـ(حكيم) قائلا:
  • (حكيم) .. لقد تذكرت .. تذكرت أين مكانهما.
    ابتسم الأخير وتهللت أساريره و قد بدا ذلك ظاهرا وواضحا عليه تمام, ثم سأله (حازم):
  • أخبرني, هذين الكرسيين, هل لهما استعمال آخر غير إعادة الذاكرة أو أيا يكن ما فعلته بي المرة السابقة؟
    ليجيبه (حكيم) الذي لم تختفى ابتسامته قائلا:
  • نعم .. يساعداك على التواصل مع من لديهم ضمور في منطقة بروكا.
    هنا خطرت على بال (حازم) فكرة, فقال له:
  • احتاجهما في المعسكر, الآن
  • حسنا انطلق, و أنا سأتدبر أمري و أوصلهما إلى هناك, ولكن فيم تحتاجهم؟
  • ستعلم عندما تصل بهما
  • حسنا .. إذهب الآن وسآتي في أقل من ساعة.
  • ولكن .. أنا لا أعلم الطريق.
  • لا تقلق, فقد سمحت لك باصطحاب (كرين) من أجل هذا الأمر بالذاتو اتبعه فهو يعرف الطريق جيدا.
    صافحه (حازم) وشعر أن هذا الرجل قد أعطاه مفاهيما جديدة, بل و رؤية أوضح للكثير من الأشياء, ثم ترك يده و انطلق خارجا من البوابة الحديدية للمكتبة, متبعا (كرين) الذي يقود الطريق.

معسكر القوم الأحرار – داخل حجرة (وليد)
يجلس (وليد) في تلك الحجرة يعتصر رأسه, ماذا يجب عليه أن يفعل؟ هل يترك المعسكر و يذهب و يستخدم تلك الحرية التى أعطاها إياه (حازم), أم يبقى ليعرف .. هو شغوف بالمعرفة, يريدها .. بل و كانت هي الدافع الرئيسي ليخرج بحثا عن (حازم), يدرك في قرارة نفسه أن النظام خادع وبه الكثير من الأخطاء, و لكنه لا يعلم من أين يبدأ وكيف سينتهي به الأمر, غير أنه لن يستطيع العودة هكذا و الدخول من البوابة بشكل طبيعي, أقل ما في الأمر سيتم عزله من عمله لمخالفته الأوامر بل هو بهذا يخرق بنود صك الحرية التي يحفظها عن ظهر قلب,
(ليس من الحرية أن تصبح غير مسئول .. يجب ان يكون لك دورا في بناء العالم الجديد)
وكل ما يفعله الآن هو دوره في بناء العالم و الحفاظ على ما وصلوا إليه.
(العدل سيتم تنفيذه مهما كانت الظروف)
وخروجه من القاهرة لم يكن إلا محاولة لتطبيقه هذا العدل, فهو يريد المعرفة, يريد الحقيقة.
(سنعطيك كل شئ .. مقابل ولائك الكامل لنا)
وهو يحظى بالكثير الآن, لديه العمل, المسكن, الطعام, الزوجة, وابنه الصغير, الأخوية وفت بوعودها حتى الآن, هو لن يخون الأخوية إطلاقا, ولكنه لديه الحق في المعرفة, معرفة كل ما يخفى عليه, لذلك قرر البقاء, ريثما يقابل (حازم) مرة ثانية, وقد تكون الأخيرة.
لم يلحظ (وليد) وجودها, تلك الواقفة بجواره ما يزيد عن عشرة دقائق, بل أنه انتابه فزعة عندما استدار ورآها, وليته ما رآها, تقف أمامه بشعرها الفاحك و عيونها الزرقاوتين و فمها الدقيق, بقامتها المتوسطة ويدها الخجلة تحمل وعاءا مغطى و معه ورقة, ناولته الورقة أولا ولكنه لم يستجب, فللحظة شعر أن هناك شيئا يوخز قلبه, للحظة نسى كل شيء, حتى استعاد تركيزه على مهل ليلتقط منها الورقة فينظر مافيها فيجد مكتوبا داخلها كلمة واحدة
(الطعام)
ما أن قرأها حتى ناولته الوعاء وهمت بالانصراف, إلا أنه أمسك بيدها لتلتفت له, شعر أن العالم قد توقف في تلك اللحظة, شعر أن كل شيء يتحرك ببطء, حتى شعرها المنسدل الذي تحرك بعفوية عندما استدارت ليكون كستارا فاصلا بينه وبين وجهها, ثم يفتح هذا الستار ببطء, سلب عقله بالكامل, نظرتها, احمرار وجنتيها, كل شيء فيها, هم بالتحدث ولكن .. كأنما ارتطمت رأسه بعامود فولاذي عندما تذكر اعاقته, فترك يدها رويدا رويدا, ليجدها تشير له بإشارات غريبة بيديها فقط, لم يكن يفهم, ولكن شعر انها تتحدث, تتحدث وبطلاقة.
مر الوقت وهو قد اتخذ مجلسا بينما يتناول طعامه, ظل يفكر فيها كثيرا, يفكر في شكل الحياة التى قد يحظى بها إن كانت تلك هي زوجته, وهل كان سينجب منها أولادا, ثم يخطر على باله شيئا ما, لقد كان يتسائل دائما, لماذا يحمل ابنه ملامحا آسيوية وهو لا يملك تلك الملامح ولا زوجتهو تلك الفكرة وحدها كانت كافية لتجعل غضبه جما, هل الأخوية قد اعطوه ولدا دون أن يكون ابنه الحقيقي, هل كانت ممارساته – الميكانيكية – الغير ممتعة مع زوجتهو ممارسات لأجل كونها ممارساتو وليست بدافع الحب؟
كل شيء حوله يتداعى, حتى منوله نفسه, شعوره بالأمن و ]انه استطاع أن يقدم لأسرته كل شيء, ثم تذكر ثانية تلك البسيطة التى قابلها منذ قليل, الت شعر فيها بطيبة لم يجدها في زوجته حتى, شعر بشيء مختلف, ولكن ما زالت اعاقته .. أكبر عائق أمامه.
في تلك اللحظة دخل (حازم) مسرعا, (وليد) ليجد (حازم) مقتربا منه ويمد له يده بورقة, فتحها (وليد) ليقرأ ما كتب فيها :

  • لقد بقيت و اخترت أن تعلم, إن أردت المعرفة .. اتبعني
    خرج (حازم) ليتبعه (وليد) ويرى إحدى مركبات الـ(موجول) الكبيرة وتحمل كرسيين على ظهرها موصلين بأسلاك وكابلات في المركبة نفسها ليصعد (حازم) ويشير إلى (وليد) بالصعود, ولكنه توقف مكانه, فمن الواضح أن الخوف يعتريه من هذا الشيء الذي لا يفهمه, ولكن (حازم) نزل مرة أخرى وذهب إليه و أمسك يده برفق, ومشي به خطوتين ليصعد بعدها على المركبة , دون أن يمانع (وليد), في تلك اللحظة, لم يشعر (وليد) أن (حازم) شخص شرير أو طامع في أي شيء, شعر بمعني كلمة رفيق, صديق, فقط من هاتين الخطوتين, من إمساكه بيده ونظرته التى لا تضمر شرا, و في استسلام كامل جلس (وليد) على الكرسي وبدأ (حازم) في إلباسه الخوذة, بدأ يشعر بالانزعاج ولكن (حازم) همس له قائلا:
  • لا تخف.
    لم يسمعها (وليد), ولكن قرأها على شفتيه, شعر بها, فاستسلم تماما.
    أنهى (حازم) تجهيز (وليد) ثم اتجه هو إلى كرسيه وجلس عليه وساعده (حكيم) في تجهيزه, ثم أعطاه إشارة البدأ بإيماءة من رأسه, لتضيء الأسلاك وتتوهج بالطاقة, ويبدأ الاثنان في الحديث .. دون قيود.
    ثلاثون دقيقة مرت, ليقوم بعدها الاثنان وتعلوا وجهيهما ابتسامة, يقترب (حازم) من (سالم) الواقف يشاهد الموقف ثم يقول له:
  • هل تستطيع أن تحصي ما لدينا من أسلحة ورجال؟
    ليجيبه (سالم) في دهشة:
  • نعم .. نعم أستطيع
  • إذا فاعطني تقريرا سريعا ريثما تتحصل على ما طلبت, سأنتظرك في غرفتي
    قالها ثم نادى على (حكيم) ليتبعه ويتجهوا سويا إلى غرفته.
    دلف ثلاثتهما من الباب ليبدأ (حازم) في مخاطبة (حكيم) قائلا:
  • انا مضطرب, أشعر أنه يجب على أن أتخذ قرارا و لكني لا أدرك هل هو صواب أم خطأ, هل تساعدني؟
  • أنا هنا من أجل ذلك يا بني, ولكن قبل أن تتخذ القرار, حدد قناعاتك التى ستبني عليها هذا القرار.
  • أنا .. أنا أريد أن .. أن أحرر الناس فعليا, أن أجعل أمورهم بأيديهم, أن يمتلكوا ما سلب منهم قبل ذلك على مدى سنين طوال, لا أريد مكاسبا لنفسي بل أريد فقط أن يوضع كل شيء في مكانه الصحيح, أنا سأشن الحرب على القاهرة 1030, سأدمر الأخوية.
  • كلامك مغلف بالكثير من الدماء يا بني, الحرب مكلفة جداو تزهق أرواحا و تريق نفوسا, من أجل قضية ما, فهل ترى أن الحرب قرار سليم؟ أن تزيح الأخوية من المشهد؟ أن تعطي مقاليد العالم .. للعالم؟
  • ….
  • أنا لا أتنصل منك, ولكني أدرك مسئولية الأمر.
  • أنا فقط أريد أن أحقق العدالة .. أريد أن أمنح الناس حريتهم.
  • وما العدالة في سلب ما يؤمنون به؟ هم يؤمنون بالأخوية, يدركون أنها أفضل ما حدث في تاريخ البشر, أنت تتذكر قصة آدم التى حكيتها لك .. أليس كذلك؟
  • نعم .. أتذكرها.
  • الأخوية بالنسبة إليهم هي آدم, أما أنت .. فسيرون أنك الشيطان المسئول عن كل الشرور.
    صدمه هذا التعبير, لم يكن يدرك أن الأمر كبير لهذا الحد, اعتقد أن الناس سيفرحون بعد أن يزيل الأخوية من المشهد, بعد أن يصبحون أحرارا, أحرارا بحق.
    فيكمل (حكيم) كلامه قائلا:
  • لكي يتبعك الناس و يدركون انك خيًر, فعليهم أن يدركوا الحقيقة, أن يعلموا كل شيء, أظهر لهم الحقيقة, فسيسعون للحرية بأنفسهم.
    هنا راى (حازم) ان خطته لن تؤتي ثمارها إلا بعد أن يعلم كل سكان القاهرة 1030 أن الأخوية ظالمة مستبدة, بل و تستعبدهم لأطماعها الشخصية, لينطق قائلا:
  • وكيف سأجعلهم يعرفون الحقيقة, هذا أم شاق وصعب.
  • حطم الرموز, أزل الآثار القديمة.
  • ما تعني؟
    حينها أخرج (حكيم) من بين طيات ملابسه قناعا ما, أبيض بالكامل, مرسوم عليه انفجار نووي, و نبتة مكتملة, ذهل (حازم) مما يراه, فتلك هي المرة الأولى التي يرى فيها القناع ويصبح قريبا منه لتلك الدرجة, القناع الذي كان أملا و ملهما للناجون الأوائل, القناع الذي سبب رعبا لكل الطغاة وقتها, وهو أيضا الذي نفذ ما وعد به, رفع (حازم) يده ليمسك بالقناع ولكن (حكيم) أفلته ليسقط على الأرض .. ويتهشم تماما.
    ذهل (حازم) من فعل (حكيم), وتعجب (وليد) من هذا حتى أنه جثا على ركبته يتحسس تلك القطع المتناثرة وكأنه يودع عزيزا ما, أمارات التعجب التي بدت واضحة على (حازم) تحولت للغضب قبل أن يوجه سؤاله لـ(حكيم) بعصبية:
  • ماذا فعلت؟ .. لم أوقعته, لقد كان فرصة عظيمة لنا, لقد ….
  • اهدأ, ولا تنظر إليه على أنه الأمل, فالأمل و العدالة .. أكبر و أعظم من أن يتمثلا في قناع يا بني, فالحرية تأتي جلية واضحة, ولا تحتاج إلى الإختباء خلف قناع.
    هنا شعر (حازم) أن (حكيم) يوجهه, يجعله ينشيء طريقه الخاص في صنع الأمل, فنظر له وقبل أن يتفوه بكلمة دخل (سالم) إلى الغرفة وهو يقول لـ(حازم) و ويبتسم بنشوة الفرحة:
  • لدينا ما يكفي يا صديقي, الكثير من كل شيء.
  • هذا جيد, ولكني لا أريد لفظ الكثير, أريد أرقاما, أعطني أرقاما.
    ليخرج بعدها ورقة تحتوي على أرقام و أعداد للمشاة و الأسلحة الخفيفة و الثقيلة وكل شيء, ثم بدأ يقولها لـ(حازم) بصوت مسموع:
  • لدينا ثلاثون ألف قادر على حمل السلاحما بين رجال و نساء و شباب, و ثلاثة آلاف مركبة (موجول) مجهزة بقاذفات مدافع كبيرة الضرر, و ألفين مركبة (باج) سريعة الحركة, و أربعة مائة مروحية, و اثنان وخسمون ألف بندقية طراز NASH 430 سريعة التلقيم للقوات الخفيفة, و سبعة آلاف مطلق صواريخ ZODIAC 8000 للقوات الثقيلة, و أسلحة أخرى خفيفة متنوعة.
    ليقول (حازم) بعدها منبهرا بتلك الأرقام:
  • عظيم, عظيم جدا.
    ولكن (حكيم) تقدم ثلاثة خطوات ناحية (حازم) ثم وضع يديه على كتفيه قائلا:
  • إن كنت تظن انك قادر على غزو القاهرة 1030 بمثل تلك الخردة فأنت لا تدرك أي شيء.
    اتسعت عينا (حازم) و (سالم) في آن واحد, يتبادلان النظرات ثم قال (حازم) موجها كلامه لـ(حكيم):
  • خردة؟! .. أنت تنعت ما لدينا .. بالخردة؟
  • مقارنة بتسليح السور فقط, فنحن لا نملك شيئا, لديهم فوق سور البوابة وحده اثنا عشر ألف مدفع بعيد المدى, ناهيك عن عدد الحراس الذين يفوقونا عددا بكثير, بل و اماكن تمركزهم داخل و خارج الأسوار التى لا نعرف عنها الكثير, ويستطيعون جلبهم في دقائق, و تحت الأرض أيضا, سيسحقوننا قبل أن نطلق رصاصة واحدة.
    بُهت (حازم) فكيف سيتصدى لكل هذا الجيش الجرارو وهو من اعتقد أنه يستطيع بسهولة اختراق وتدمير الأخوية, ولكن لم يكن يدرك حجم القوة التى تسيطر على العلام فعليا, فنظر إلى (حكيم) قائلا:
  • وما الحل؟ .. كيف سنفعلها؟
    هنا اقترب منه (حكيم) وهو يهمس في أذنه:
  • حطم الرمز يا بني, واشعل فتيل أمل جديد.
    بدأ عقله يعمل من جديد, كيف له أن يحطم الرمز, كيف له أن يدمر كيان بحجم الأخوية, هنا واتته فكرة, فنظر إلى (سالم) قائلا:
  • (سالم) أريدك أن تأتني بعشرة أشخاص أقوياء سريعي الحركة, قادرون على تنفيذ ما يطلب منهم بالحرف.
    ليوميء (سالم )برأسه إيجابا ثم ينطلق خارجا, نظر بعدها (حازم) إلى (حكيم) الذي ابتسم قائلا:
  • وماذا ستفعل بمن طلبتهم؟
  • سأحطم الرمز, ويجب أن يتم من داخل القاهرة نفسها.
  • أحسنت يا بني, أحسنت .. ولكن ألا تخاف أن تدفع بهم إلى هاوية هم لا يدركون عنها شيئا, من المؤكد أنهم لا يعرفون كل شبر في القاهرة .. هم يحتاجون إلى مساعدة.
    ثم أشار برأسه إلى (وليد) الذي لا يفهم شيئا مما يقال, ففقدانه لقدرته على السمع يقتله, اقترب (حازم) منه و مد يده بورقة بعد ان كتب فيها شيئا, طالعها (وليد) ليجده قائلا:
  • أريد أن أتحدث معاك على الكرسي مرة أخرى.
    ليوميء (وليد) بالموافقة و يخرج الاثنان من الغرفة و يتبعهما (حكيم).
    بعد التجهيزات التى مر بها (وليد) و (حازم) جلسا يتحاوران ليبدأ (حازم) قائلا:
  • نحن هنا مرة أخرى يا صديقي, في أقل من ساعة.
  • نعم, برغم أن تلك الوسيلة تختصر الكثير من ال.. كما تعرف, الأوراق, ولكني لا أشعر ان هناك خيرا من هذه المقابلة
  • في الواقع, الخير نسبي, مثل الجمال و العدالة وكل شيء آخر.
  • ولكن هناك خير حتمي و مقبول, بل و متعارف عليه بين الجميع, ولا يخطئه أحد.
  • المشكلة يا صديقي .. أننا نملك جانبا من الخير, ولكن يخطئه الكثيرون.
  • ماذا تقصد؟
  • أقصد أننا نريد العدالة, الحرية, نريد أن يمتلك الناس إرادتهم.
  • الأخوية تحقق العدالة و المساواة, هذا ما أراه.
  • هل تثق في الأخوية؟
    هنا تأخر (وليد) في الإجابة, هو نفسه لا يدرك, أيثق فيها أم لا, إن كان يثق بها فلم خرج إذا باحثا عن (حازم) , و إن كان لا يثق فلم يدافع عنها الآن, فرد على (حازم) قائلا:
  • نعم .. أثق بها ثقة عمياء.
  • لا أظن ذلك, فقد واتتك أكثر من فرصة للهروب ولم تفعل, عندما قررت البقاء, قررت أن تعلم كل شيء, أنت لا تكرهنا ولا تعتبرنا خارجين عن القانون, ولكنك تشعر أن هناك شيئا ما خاطئا في الأخوية, وتريد أن تعلمه.
  • أنا .. أ أنا ما زلت أثق بها, حتى و إن كانت بها بعض المساويء, فلكل نظام مساوءه.
  • أتفق معك, ولكن هل تتعاظم مساويء النظام لتستعبد البشر الذين قام من أجلهم هذا النظام ليحميهم؟
  • أنت تهول الأمور, فالأخوية ليست بهذا السوء.
  • حسنا, فلنامل أن لا تغير رأيك.
    بالرغم من أن هذين الكرسيين يستعملان للتواصل مع من لديه ضمور في منطقة بروكا, إلا أنهما أيضا يملكان حجم كبير من البيانات يستطيع المتحكم الأول أن يستدعي منه ما يشاء من خلال شبكته العصبية, لذلك بدأ (حازم) في استعراض المشاهد التي أراها له (حكيم) في المكتبة, وبدأ عرضها على (وليد) الذي فغر فاه, وبدأت الدموع تنحسر في عينيه ثم تترقرق على وجنتيه, هو لم يكن يدرك أن الأخوية تملك كل هذا القدر من عدم الإنسانية, لم يكن يعلم أن الفساد وصل إلى القيادة نفسها بقتلهم للمقنع الأول, شعر دائما أن الأمور لا تسير بشكل جيد ولكنه لم يكن يتوقع أن تصل لهذا الحد, حتى توقف العرض من قِبل (حازم) ثم سأله قائلا:
  • ما رأيك, هذه هي الأخوية التى كنت تدافع عنها منذ قليل.
  • ……..
  • هل هذا هو العدل من وجهة نظرك ومن وجهة نظر الأخوية؟
  • أنا .. أنا لا أصدق أن كل هذا قد حدث أو ما زال يحدث, أنا أحتاج للكثير من التفسيرات, لا أصدق .. ما زلت لا أصدق.
  • أقدر موقفك تماما, فلا تستطيع في لحظة أن تخالف ما اعتقدت أنه صواب طيلة حياتك, ولكني أطلب منك الفرصة, ان تعطينا جميعا تلك الفرصة, كل هؤلاء تتعلق آمالهم عليك, كلنا نعلق أمالنا عليك.
  • ك .. كيف؟
  • أنت مسئول نقطة الحراسة بالقطاع 12, و لذلك فانت أكثر من يعلم عن النقاط العمياء داخل القاهرة وشوارعها, نريد منك أن تكون دليلنا, سأرسل معك أشخاصا و سنتدبر طريقة لتدخلوا بها إلى هناك.
  • و لكن ..
  • أرجوك فكر في الأمر.
  • ولكن لا توجد هناك نقاط عمياء.
  • ماذا؟
  • لقد تفاديناها .. جميعها.
    أحبط (حازم) مرة أخرى, فقد كان يعتمد على تلك النقاط ليبدأ الأمر كله من الداخل, ولكنه أمل زال مرة أخرى, كسابقه.
  • هناك طريقة ..
    قالها (وليد) لـ(حازم) الذي رفع رأسه في لحظتها ناظرا إليه يحثه على الإكمال:
  • هناك طريقة قد تفيد, فلم يذهب أحد منا إلى البوابة الثانية.
    هنا تهللت أسارير (حازم) الذي كاد أن ينتفض من على كرسيه قائلا لـ(وليد):
  • أهناك بوابة ثانية؟
  • نعم .. ولحسن الحظ أنني من القلائل الذين يعلمون مكانها.
  • ولماذا لا يعلم احد عنها شيء؟
  • أعتقد أن عسكريا هذا أفضل, أن يدرك الجميع أن القاهرة لها بوابة واحدة, لهو أفضل حتما.
  • صدقت, ولكن أين هي, وما تسليحها و حراستها, أخبرني عنها المزيد.
  • هي تقع بالجدار الشمالي للسور, على مقربة من المجرى القديم للنهر.
  • النهر؟ .. أتقصد؟
  • نعم .. نهر النيل.
    هنا شعر (حازم) أن النيل الذي كان يهب الحياة قديما بسريانه وجريانه منبتا الزروع و راويا للأنفس, هو نفسه الذي يهب طريق الأمل, ما زال يمنح الحياة, حتى و إن لم يكن موجودا.
  • كيف سندخل إليها إذا؟
  • أولا لن تستطيع أن تستبين ملامحها, فقد أصبحت بفعل الزمن شبيهة تماما بالسور.
  • ولكن أخبرني .. لم لم تستعملها للخروج فقد جئت من نفس طريقي, أي أنك خرجت من البوابة الكبيرة.
  • نعم استخدمت البوابة الرئيسية, هذا لأني لست قويا كفاية لفتحها.
  • سأرسل معك ما تريد من الرجال, ولكن وضح لي أكثر عن تسليحها.
  • أخبرني أنت أولا .. ما تريد أن تفعل؟
  • وهل أستطيع الوثوق بك؟
  • …..
  • أنا لا أقٌصد التقليل منك, ولكني لا أدرك موقفك إلى الآن, أنا لا أعلم شيئا عن البوابة التى تقول عنها, ما يدريني أنك صادق؟
  • لا شيء .. غير أني أريد تحقيق العدالة كما تريدها أنت, فهل يجعلنا هذا على نفس الطريق؟
  • نعم .. يجعلنا على نفس الطريق و أكثر.
    قالها (حازم) بابتسامة ليراها (وليد) الذي بادله إياها, ثم قال (حازم):
  • سأخبرك كل شيء, في باديء الأمر أردت أن نهاجم القاهرة 1030 مباشرة, ولكن اتضح ان قوتنا وعتادنا لن يستطيعا فعل ذلك, فأردت ان أجعل الهجوم من الداخل, بأن نرسل بعضا منا ويبدأون في عرض تلك المشاهد المصورة التى رأيتها بعد أن يوصلونا بالتحكم في الشاشات الموجودة في الأماكن الكبيرة.
  • أشعر انك تسير على نهج المقنع الأول, تتحكم في الإعلام, ثم بعد ذلك القوة.
  • أنا أحاول.
  • ولكن ماذا بعد أن تريهم تلك المشاهد, هل تعتقد أن الناس جاهزون للتصديق, هذا إن افترضنا أنك نجحت في تلك المحاولة؟
  • بعدها سنبدأ في الدخول و التكتل داخل القاهرة نفسها, على أمل أن أستطيع الوصول إلى المصحة ومنها سيتغير كل شيء.
  • هذا مستحيل, لن تصمدوا هناك يومان, انت لا تدرك حجم قوة الأخوية.
  • ولكني لا اجد حلا آخر.
  • بل هناك حل .. هو سلاح ذو حدين ولكنه قد يكون كافيا.
    هنا بدا التلهف على ملامح (حازم) ظاهرا و هو يقول له :
  • أخبرني ما هو إذا؟
  • القنبلة الكهرومغناطيسية.
  • !!! .. ماذا؟ قنبلة كهرومغناطيسية؟
  • نعم .. هي الحل الأمثل.
  • وماذا سنفعل بها تلك القنبلة, ستدمر الكثيرين دون داعي.
  • لا لن تفعل, ولكنها ستعطينا وقتا كافيا للدخول, و من البوابة الكبيرة.
  • كيف؟
  • تلك القنبلة تطلق نبضات كهرومغناطيسية قادرة على شل حركة أي جهاز كهربي او الكتروني في مسافة محددة, ولكنها لن تستثني أحد, فهي ستقوم بتعطيل مركباتنا أيضا.
  • يا للهول .. ولكن ذلك يعني .. أننا بهذا نُفقدهم أفضلية المدافع التى على السور .. أليس كذلك؟
  • نعم .. ولكننا سنفقد مركباتنا نحن أيضا.
  • سحقا .. ألا يوجد حل يجنب مركباتنا هذا الدمار؟
  • …. يوجد حل ما, لكنه ما زال تحت التجربة, ولا يمكن أن أضمنه.
  • قل ما هو سريعا.
  • طلاء .. طلاء يعمل كعاكس لتلك النبضة, ولم تأتني معلومة عن أنه أصبح جاهزا بعد, لذلك لا يمكننا الجزم إن كان خيارا صحيحا أم لا.
    هنا فكر (حازم) في الأمر, فالأمر به مخاطرة, ولكنه يستحق, لذا قال لـ(وليد):
  • كيف يمكننا الحصول عليه؟
  • وما الذي جعلك تعتقد أنهم لم يستخدموه على أسلحتهم؟
  • لديهم الكثير من الأسلحة, بأعداد مهولة, و أنت تقول أنه ما زال تحت التجربة, حتى و ان انتهوا من تصنيعه, فهم لن يستطيعوا نشره بتلك السرعة على جميع أسلحتهم في الوقت المناسب, و إلا على الأقل لكنت علمت أنت أيضا, بحكم أنك أحد المسئولين عن الحراسة و هذا يعد من مهامك.
  • أتفق, أعطني رجالا أدخل بهم إلى القاهرة, اجعل منهم فريقا ينفذ استحواذك على الشاشات, والباقي سيأتي معي لنأتي بالطلاء إلى هنا.
  • أتمنى أن تنجح الخطة, أنا أعتمد عليك يا صديقي.
  • مادام هناك أهداف نبيلة, فسنفعل كل ما يجب علينا فعله.
    هنا ابتسم (حازم) و بدأ في نزع الخوذة من على رأسه, ليتبعه (وليد) ويهبط الاثنان من الـ(موجول), ليجد (حازم) أن (سالم) قد جاء و معه الرجال, فقال له (حازم) :
  • زد عليهم الكثير يا صديقي, فالأمر عظيم.
  • هل .. توصلت لشيء جديد؟
  • نعم .. اتبعني, فسأشرح لك كل شيء في الغرفة.
    ثم توجه (حازم) ومعه (وليد) بعد أن أشار لـ(حكيم) بأن يلحق بهم و يتبعهم (سالم) ليخبرهم عن الخطة التى سينفذونها.
    الأمور استتبت, كل يعلم دوره, كل مؤمن بما سيفعله, لن يتوانوا ولو لحظة في التضحية بأنفسهم في سبيل ما يصدقون به.
    في الليل تحرك (وليد) ومعه مجموعة مكونة من أربعون فردا, ولكن قبل أن يغادر نظر إلى هؤلاء الأحرار, نظر إلى حياتهم النتى تخالف أنماط القاهرة, يضحكون رغم كل ما بهم, يساعدون بعضهم, يملكون حبا حقيقيا رغم اختلافهم في كل شيء تقريبا, ثم رآها مرة أخرى, تنظر إلى عينيه مباشرة, ثم ابتسمت, ليبادلها هو الآخر نفس الإبتسامة, يراها تحرك يدها في أشكال لا يفهمها, ولكن إشاراتها أوصلت له المعنى, شعر أنها تقول له :
    (عد سالما )
    ليوميء برأسه إيماءة الموافق, ثم ينظر لمن معه و بدأوا في التحرك باستخدام مركبة (موجول) لتسير بهم في مجرى النهر القديم الذي أصبح جافا, ما أن لاحت لهم أسوار المدينة حتى ترجلوا من الـ(موجول), يقودهم (وليد) الذي قد قسمهم و أعطى كلا منهم ورقة تحوي مهمته.
    بدأوا في الهرولة وقد تسلحوا بأسلحة خفيفة من مسدسات طراز Bang 680 مجهزة بكاتم للصوت و خناجرا قصيرة, قادهم (وليد) عبر مجرى النهر إلى أن وصل إلى نقطة ما, فتوقف ليقف الجميع خلفه, وبدأ الخروج من مجرى النهر ليكون السور مقابلا له, يسيرون ولا يرون إلا السور الشاهق الأسود, بعضهم يراه لأول مرة, فمنهم من ولد وعاش خارجه, ومنهم من يعرفه حق المعرفة, ولكن لا أحد يرى تلك البوابة التى من المفترض أنها أمامهم, حتى وصلوا إلى السور بدأ (وليد) يتحسسه إلى أن توقف لينظر إليهم نظرة من وجد كنزا, فقد أمسك بحافة من حواف البوابة, بدأ يشير لهم في سرعة أن ادفعوا هنا, ليفهموا هم ما أراد ويبدأوا في دفع البوابة بكامل قوتهم, ولكن ما زاد من حماسهم أنها بالفعل بدأت في التحرك, فدفعوها أكثر لتخلق لهم فرجة كافية ليمروا منها واحدا تلو الآخر.
    مروا بسلام, ليبدأ (وليد) في السير بهم في أماكن أقل إضاءة على طول السور, وما أن يصل إلى نقطة الحراسة الأولى سيبدأ في تعطيل الكاميرات مما ستسبب نقاطا عمياء, هذا سيؤخر من أن يتم كشفهم, وسيجعلهم قادرون على الحركة بحرية نسبية, ليستطيعوا إتمام ما أتوا من أجله.
    في تلك الأثناء كان (حازم) و(حكيم) يتابعان تجهيز القوات و استعدادها للمعركة, قال (حازم) متحدثا لـ(حكيم):
  • النيل .. كيف نسينا وجوده بتلك الطريقة؟
  • هو فقط آثر الإختفاء, وكما ترى, لقد ظهر في أكثر لحظة مناسبة.
  • أخبرني يا (حكيم) كيف جف النيل بل وكيف تغيرت معالم العالم بتلك الطريقة؟
  • عندما حدث الإنفجار العظيم, تغير شكل العالم والمناخ كليا, وردتنا إخبارية أن منبعي النيل نفسيهما قد غطتهما صخور الجبال من أثر الإنفجار, بحيرة تانا رُدمت تماما, وبحيرة فيكتوريا لا نعلم عنها شيئا, غير أن النيل لم يعد موجودا جاريا كما كان, مما يوضح أنها تأثرت هي الأخرى.
    صمت, يعقبه حزن, ثم يسأله (حازم):
  • إذا كيف نجونا, وكيف نبتت تلك الأشجار هنا رغم أن كل ما كان يحيطنا كانت الصحراء على ما أتذكر, أو على حسب ما علمونا إياه.
  • الإنفجار قضى على الكثير من الكائنات, ولكن هناك أنواعا أخرى استطاعت أن تنجوا بطريقة ما, وهذا الهياج الجوي سبب انتقالا كثيرة لمعظم بذور وحبوب لقاح ناجية هي الأخرى, كما أن أرضنا يا بني تسبح على خزانات مياه جوفية, الإنفجار شق لها طريقا للأعلى, لتصبح كما تراها الآن.
  • ألن يعود النيل يوما؟
  • … سيعود, أنا واثق من ذلك, فهذا الشريان لم يُقطع بعد.
    ابتسم (حازم), هو يشعر براحة كبيرة عندما يتحدث مع (حكيم), يعطيه أملا في كل شيء, يشعر أنه يضيف على العالم لمسة من السعادة, يكملا طريقهما بين مركبات الـ(باج) ليكملا الاستعداد لكل ما سيأتي.
    (وليد) بدأ بتنفيذ الخطة, أول نقطة حراسة لم تكن بالقوة الكافية, ولكن (وليد) يحاول الحذر دائما, فاستطلع المكان ناظرا من نافذة تطل على النقطة من الداخل ووجد ان هناك حارسين, هو يعلم أنهما إن وجداه فلن يتركا فرصة إطلاق النار عليه, فهو متسلل بملابس غريبة, لذلك بدأ في البحث عن صندوق التحكم بالكاميرات والذي كان خارج النقطة, فما أن وجده حتى بدأ في تغيير بعض الأسلاك ليجعل كاميرات النقطة العمياء ثانوية وليست أساسية, وبذلك لن تظهر على الشاشات داخل النقطة, فعلها وهو يقول في نفسه:
  • فلنأمل ألا تتغير شاشات عرض الكاميرات بواسطة أحدهم.
    هو يدرك أنه لا أحد يغير تلك الكاميرات, ويدرك ان ما فعله فيه مخاطرة كبيرة, ولكن إن غيرها أحد ووجد أسلاك الكاميرات مقطوعة, فلن يمر الكثير من الوقت قبل أن تهب القاهرة على قدم وساق باحثة عن هؤلاء الدخلاء, أما بتلك الطريقة فالخسائر دائما أقل, كما أن لديهم أفضلية الباب الثاني التى لا يعرف عنها أحد.
    بدأ (وليد) في تغيير بعض نقاط المراقبة ثم انفصل هو ومجموعته, لتبدأ مهمته بالوصول إلى الطلاء العاكس, بينما المجموعة الأخرى تحاول اعتراض البث من خلال غرف تحكم عليها بعض الحراسة القليلة مما يسهل عملهم.
    أخذت مجموعة (وليد) في التحرك مستترين بالمباني و معطلين لنقاط الحراسة التى تقابلهم على طول الطريق, قائدهم يحاول الوصول للجانب الآخر, هو يقطع القاهرة 1030 عرضيا, ويأمل ألا يراه أحد, ولكن إن سار على نفس النمط, فستكون فرص كشفهم قليلة.
    أخيرا .. وجد (وليد) ضالته, مركز البحث العلمى و التطوير الخاص بالأخوية, التفت إلى مجموعته يحاول أن يقول لهم شيئا ولكن .. إعاقته تعيق ذلك, فأشار إليهم أن لا يستخدموا العنف إلا ان لزم الأمر.
    رويدا بدأوا في الحركة, يقتربون من المدخل الذي يحميه حارسين, تسللا خلفه حتى لا يعترضاهما من الأساس, ثم صعدا عبر نافذة إلى المبنى, واحدا تلو الآخر, حتى صعدوا جميعا ودخلوا إلى المبنى, أمرهم (وليد) بالمكوث في تلك الغرفة التى ولجوا إليها ريثما يبحث هو عن الطلاء, ثم انطلق.
    لا يدري أين يذهب, كما أنه خائف, نعم .. يشعر بالخوف, فإن داهمه خطر ما, لن يستطيع تفاديه, أو بالأحرى, لن يستطيع سماعه, لذلك كان يلتفت في كل لحظة يمينا ويسارا, إلى أن وصل إلى حجرة مكتوب عليها لافتة تقول ( أبحاث شبه تامة), أمسك المقبض الذي بدا عاديا ودون أي نوع من أقفال الحماية, أداره يسارا ليفتح .. ثم دخل إلى الغرفة و أغلق الباب خلفه.
    مصباحه اليدوي الصغير كان له كامل الفضل في التعرف على الأشياء بالداخل, ظل يبحث و يبحث, حتى وجد صندوقا مربعا أخضر اللون, مكتوب عليه (طلاء مضاد الكهرومغناطيسية) ثم وجد بعض الأوراق بجوار الصندوق, أمسك بها يتصفحها في عجالة فوجد بعض المعلومات المهمة كنسبة التقدم في المشروع والتى تخطت الخمسة وثمانون بالمائة, ووجد اهم معلومة, أن تلك العينة خرجت من المخازن التى تقع في الجهة الجنوبية من المبنى.
    انطلق (وليد) نحو الباب, فتحه وبدأ في طريق العودة, هو يعلم تمام أين الجهة الجنوبية, سيذهب هو و من معه ليأخذوا ما استطاعوا من الطلاء, و ينتهوا من هذا الأمر, ظل يتحرك في حرص و حذر, حتى وصل إلى الغرفة التى تركهم بها, فتح الباب ليجد أسلحة مسدساتهم كلها في وجهه, وما أن أدركوا أنه هو حتى أخفضوا مسدساتهم, أشار لهم أن يتبعوه, وخرجوا واحدا تلو الآخر.
    انطلقوا في صف واحد ملاصقين للحائط, وقد أفادهم أن المبنى معظمه مظلم, ولكن الكاميرات ترصد كل شيء, هذا الأمر لم يمر على (وليد) مرور الكرام, ففصل كل الكاميرات على الطريق المؤدية للجهة الجنوبية, وما أن وصلوا حتى اوقفهم (وليد) بإشارة منه, وبدأ هو في التسلل داخل المخازن, لحظات وظهر لهم مشيرا إليهم بالدخول.
    لم تكن الصناديق ثقيلة الوزن, مع أنها كبيرة الحجم, وجدوا ما يزيد عن ألف صندوق ولكن كيف سينقلوا كل تلك الكمية, فاذا بـ(وليد) يكتب لهم, أن يحمل كل فرد منهم عشرة صناديق, ويبدأوا في نقلها للغرفة على الجانب الآخر كمرحلة اولى, ثم تأتي المرحلة الثانية بنقلها خارج المبنى, ومنه إلى خارج القاهرة 1030 كلها.
    بدأوا في التنفيذ, الأمر لم يأخذ وقتا كبير, فقد كانوا حذرين, نقلوا حوالي ثلاثة أرباع الكمية, و ساروا بها إلى الحجرة الأولى التى قفزوا إليها في باديء الأمر, ومنها إلى الطرقات, ولكن المشكلة الأكبر لم تكن في إخراجهم من المخازن, بل في طريقة إخراجهم من المدينة كلها, هنا كتب (وليد) لهم أنه يستطيع أن يأتي بوسيلة تنقلهم, فتحرك نحو أقرب نقطة حراسة و اقترب من مركبة الـ(باج) التى يمتلكونها, وخلع معطفه, ليظهر زيه الخاص بالمدينة, حتى إن رآه أحد وهو يقودها فلن يشك في أمره, صعد إليها بروية, وبدأ في التحرك ببطء مستترا بالظلام ودون أن يضيء كشافاتها, حتى لا تصيب الجلبة ولا تلفت الأنظار, وصل إلى رجاله الذين انبهروا بقدرته على إيجاد تلك الحلول, بدأوا في تحميل الصناديق, نزل (وليد) ليبدأ في إحضار الصناديق هو الآخر وقد أمرهم أن ييحملوا الصناديق ولكن كل فرد على حدة, وبينما هم كذلك وجد (وليد) أنهم قد توقفوا عن ا لتحميل فجأة, لينظر من خلف المبنى فيجد حارسا وقد استوقف أحدهم وهو يحمل الصناديق, هذا الحارس سيبلغ نقطة الحراسة ويضيع كل شيء هباء, نظروا جميعا إليه, الوقت محدود, فالحارس موجها فوهة سلاحه إلى زميلهم ويبدوا أنه سيخبر رئيسه الآن من تركيز عينيه في نظارته, ثم في لحظة, وجدوا أن الحارس وقع على الأرض, وهناك رصاصة تستقر في جبينه, وفوهة سلاح مرفوعة تجاهه .. سلاح (وليد).
    الذهول سيد الموقف, لم يكن ذهولا منهم فقط, بل من (وليد) نفسه, الذي دمعت عيناه في صمت, ويده ما زالت على نفس وضع إطلاق النار, يدرك أن ما فعله قد يكون مبالغا فيه, ولكن لم يكن هناك حلا آخر, يدرك أن هذا الحارس كان فقط يقوم بعمله, ثم يتسائل .. هل كان لديه أسرة؟ .. أولاد؟ .. أي شخص؟ .. هل سيفتقده أحد؟ .. ثم يسأل نفسه, ما ردة فعله إن كان هو مكان ذلك الحارس .. تتساقط دموعه, وما زالت يده متجمدة على وضعية الإطلاق, يمسك أحد أعوانه بيده, ثم ينطق بكلمات لا يسمعها, لا يفهمها, هل يواسيه؟ أم يخبره أن ما فعله كان صائبا؟ هو لا يعلم.. لا يدرك .. هو فقط يتبين أنه قد قتل رجلا يقوم بواجبه.. فهل يجعله هذا مذنبا؟
    حملوا مركبة الـ(باج) بالصناديق, و ركبوا فيها وتوجهوا بها إلى البوابة الثانية, (وليد) يقود ولكنه مسلوب الإرادة, مازالت عينه تتساقط منها الدموع دون أي تعبير على وجهه, الصمت .. دائما كان ا لصمت رفيقه, لا يعلم غيره, ولا يدرك شيئا سواه .. يتسائل كيف ستنتهي حياته؟ هل ستنتهي بذلك الصمت القَتَال؟ لايدرك .. ولا حتى يريد أن يدرك.. بل يريد أن ينتهى كل شيء وحسب.
    وصلوا إلى البوابة, وهبطوا من المركبة ليكملوا فتح البوابة بما يتناسب مع حجم الـ(باج), خرجوا من البوابة و أغلقوها خلفهم مرة أخرى محاولين محو أي أثر, و هبطوا إلى مجرى النيل, ليسيروا بالمركبة في طريقهم نحو المعسكر, بغنيمة كبيرة, ودموع ما زالت تنساب على وجنتي (وليد).
    وصلت الـ(باج) المحملة بالطلاء إلى المعسكر لتُقابل بترحيب كبير من الجميع, و ظهور (حازم) يليه (سالم) ويتبعهما (حكيم) ليرحبا بالأبطال, الفرحة تعم الجميع, ولكن (حازم) يرى (وليد) شاردا, حزينا, فسألهم :
  • ما الذى حدث؟ .. لم هذا الحزن؟
    ليجيبه أحدهم:
  • لقد اضطر (وليد) لقتل أحد الحراس.
  • ماذا؟
    نظر (حازم) لـ(وليد) الشارد والذي ما زال ممسكا بمقود الـ(باج), اقترب منه و فتح بابها ووضع يده على كتفه, ثم أمسك بيديه و انزلهما من على المقود, وبرفق بدأ يُنزل (وليد) من الـ(باج) والذي استجاب تماما كطفل صغير, حتى وقف على الأرض مقابلا لـ(حازم) الذي يدرك أنه مهما قال فلن يستطيع تخفيف الألم الذي يشعر به, هذا إن استطاع سماعه من الأساس, فاحتضنه (حازم) ليبدأ (وليد) في البكاء أكثر, هو قد لا يسمع, ولكنه يشعر, يشعر و يتألم رغم كل شيء, ظل يبكي بصوت مسموع, يصرخ .. إلى أن هدأ تماما, هنا وجد (حازم) يهمس له قائلا:
  • لا عليك .. كل شيء سيكون على ما يرام.
    قرأها على شفتيه, لم يسمعها, ولكن إدراكها كان كافيا له في تلك اللحظة.
    تحرك (حازم) نحو الطلاء في السيارة و فتح منه صندوقا ينظر إليه لتعتريه الفرحة ثم يقول لمن حوله:
  • الآن لدينا درع يحمينا, ابدأوا العمل على كل مركبات الـ(موجول) أولا, ثم تليها المروحيات والـ(باج), سنهجم في الصباح, فحتما قتل الحارس سيثير الكثير من الأسئلة.
    دقائق مرت ليجد أن المجموعة الثانية قد عادت, يخبرونه أن المشاهد التى أعطاهم إياها في أقراص مدمجة تعرض الآن في كل أنحاء القاهرة, هنا نظر إلى (حكيم) وقال :
  • الناس الآن يعرفون الحقيقة, بدأ الأمل يا صديقى.
    العمل على قدم وساق, الطلاء يزين مركبات الـ(موجول) و الكثير من المروحيات ومركبات الـ(باج), هنا تقدم (وليد) إلى (حازم) و قد أعطاه ورقة مكتوب فيها:
  • القنبلة, سآتيكم بها, وحدي.
    تعجب (حازم), فالخطة أن يذهب (وليد) مع بعض الرجال لإحضارها, فإذا به يدس في يديه ورقة ثانية مكتوب فيها:
  • لن نصل في الوقت المناسب, القنبلة يجب أن يتم تفعيلها من الداخل, ولكن عليكم أن تجعلوهم يبدأوا الضرب بكامل قوتهم, فوجود المدافع داخل خرسانة الأسوار قد يحميها, يجب أن تخرج على سطح السور, وأنا سأتحرك بعد قليل.
    (حازم) يرى فيه إصرارا على الذهاب وحيدا, ولن يستطيع أن يمنعه, فهز رأسه موافقا, ليتركه (وليد) ويمضي خارجا, ممتطيا ظهر الـ(باج), ومختفيا عن الأنظار.
    في تلك اللحظة وصل (حكيم) سائلا (حازم):
  • أين يذهب وحيدا؟
  • يقول أنه سيحضر القنبلة.
  • وحيدا؟
  • نعم ..
  • هل تدرك أن حربنا كاملة تعتمد على تلك القنبلة, أي أنها تعتمد عليه اعتمادا كليا؟
  • نعم أعي ذلك .. ولا أنسى أننا في مأمن نسبي من القنبلة بفضله أيضا.
  • إذا كيف تركته يذهب وحده, إن حدث و مات فسـ …
  • لن يموت, ولكن الحزن يأكله, يشعر بالذنب لقتله هذا الحارس, ولم يرد أن يضطر للقتل مرة أخرى دفاعا عن أحد, أخبرني يا (حكيم) هل تدرك كيف تعمل تلك القنبلة؟
  • أعلم بعض المعلومات فقط .. أولها أن الآليات يجب أن تكون في نطاق التأثير الكهرومغناطيسي حتى يتأثر بالقنبلة, وتأثيرها على مطلق القنبلة يكاد يكون معدوما, إن كان قريبا منها قد يصاب بالسرطان فقط.
  • هل تعلم مداها؟
  • قد تتجاوز الثلاثة كيلومترات بقليل.
    هنا انتبه (حازم) لتلك الكلمة مذعورا, ليسأل (حكيم) قائلا:
  • ماذا؟! ثلاثة كيلومترات فقط؟ معنى هذا أن (وليد) يجب أن يكون في منطقة القتال.
  • نعم .. هو يعلم ذلك جيدا.
  • (وليد) .. لماذا تقتل نفسك بتلك الطريقة
  • ……
  • هل هناك طريقة ننقذه بها؟
  • قد .. قد يكون هناك طريقة, ولكني للأسف لا أعلمها, فلنأمل أن يدرك ما يفعل.
    الوقت يمر, الصباح يشرق, وكل المركبات جاهزة و تم طلي معظمها, الأفراد مسلحون, الكل مستعد, ينتظرون إشارة التحرك فقط, هنا صعد (حازم) على إحدى مركبات الـ(موجول) قائلا:
  • أيها الناس, رجالا ونساء, لقد سُلبت منكم حريتكم, وسُلبت منكم الإرادة, اليوم, ستستعيدون كل ماهو لكم, ستأخذون كل ما حرمتم منه, وليس لأجلكم فقط, حاربوا و أطلقوا الغضب على كل طاغية ظالم, حاربوا من أجل جيل قادم, بل من أجل كل الأجيال التى تليكم, حاربوا من أجل الحياة, حاربوا من أجلكم .. من أجل الوطن.
    هنا تعالت الصيحات, كلماته ألهبت الحشود, صعد الكثيرون على متن المركبات, استقل البعض المروحيات, والباقون يسيرون خلف هذا الجيش الكبير, الكل يشعر بالحماس, لأول مرة يشعرون أن هناك شيئا يستحق الموت من أجله, بل وجدوا أن هناك أشياءا تستحق ذلك .. الحرية .. الكرامة .. الوطن ذاته.
    لاحت في الأفق أسوار القاهرة 1030, ليطي (حازم) إشارة التوقف من فوق مركبة الـ(موجول) التى يركبها, فيقف الحشد كله, هو ما زال ينتظر الإشارة من (وليد), ولكنه تذكر ما قاله له
    (عليكم أن تجعلوهم يبدأوا الضرب بكامل قوتهم, فوجود المدافع داخل خرسانة الأسوار قد يحميها, يجب أن تخرج على سطح السور)
    هنا علم (حازم) أنه لابد من أن يرسل بعض المركبات ذات التأثير القوي, لتستفز الأسوار فترد بهجوم أقوى وبكامل القوة, فأمر عشرون مركبة (موجول) ذات المدافع الثقيلة بالتقدم, وبدأت المركبات في التقدم وتزيد من سرعتها, على الجانب الآخر كان حراس الأسوار يرون مركبات غير معروفة تقترب منهم, فبدأوا بأخذ الاحتياطات و جهزوا بعض المدافع في وضع الاستعداد, هنا انطلقت قذائف الـ(موجول) لتطيح بجزء من السور, ليبدأ بعدها الرد عنيف, فكل المدافع بدأت في إطلاق نيرانها مرة واحدة, بل وبدأت تظهر على السطح مدافعا أخرى في مشهد مهيب,يراه (حازم) وكل من معه, فجأة أصبح للمدينة أذرع مدمرة, لقد فعلوا ما لم يفعل من قبل .. لقد أغضبوا القاهرة.
    (حازم) يرسل خمسون مركبة (موجول) أخرى, بعد أن تم محو المجموعة الأولى تماما, ولكن تلك المرة كانت المناورات أكثر, فالمراكب لم تقف في وضع ثابت بل ظلت تطلق النيران بأشكال ليست مستقيمة, ليأتي الرد عنيفا من خلال مدافع القاهرة, انطلقت كلها في آن واحد, فكانت كموجة نيران غاضبة أزاحت في وجهها كل شيء, (حازم) و من معه في منطقة بعيدة عن مدى إطلاق النار ولكنهم يشاهدون المنظر المهيب, وسط ذهول ورعب وخوف من الجميع, خوف من أن تنتهي تلك الحرب قبل أن تبدأ, فهم لم يعتقدوا أن القاهرة تملك كل تلك القوة, هي مذهلة .. ومخيفة , وعنيفة بشكل لا يصدق.
    ثم بدأت تفتح البوابة الكبيرة على مصراعيها, لينطلق منها حشود كثيرة من الحراس ومراكب الـ(موجول) و الـ(باج) مطلقة نحو (حازم) الذي وجد أن يتركهم حتى يدخلوا منطقته, إلا أن مراكب القاهرة بدأت في إطلاق النار من مسافة بعيدة, وللمفاجأة, فقد بدأت في التسبب بالخسائر, فتلك المدافع ذات مدى أطول, وإن لم يقتربوا الآن سيموتون في أماكنهم, (حازم) يفكر, ثم لم يجد إلا حلا واحدا, الاشتباك .. ولنأمل أن (وليد) ما زال على قيد الحياة.
    هنا صرخ (حازم) في الجميع, قائلا:
  • لقد انتظرتم جميعا ثأركم, وانا انتظرت ثأري لكل من ماتوا أيضا, حان وقت رد الدين … هجووووووووم.
    لتتعالى الصيحات وينطلق الجيش في مشهد مهيب,ينطلق بالأحرار من البشر, وذئابهم العتية, كلا الطرفين يطلقون النيران, يتقاذفون بما لديهم, إلى أن دخلوا مجال المدافع التى على الأسوار, وبدأت حينها الحرب الحقيقية, فقذيفة واحدة من تلك المدافع كان تبيد على الأقل سبعة مراكب و عشرات الأشخاص, الغبار يعلوا الجو, رائحة الموت بدأت في الانتشار, طعم الدماء الصديء يجبرك على تذوقه, كل شيء مرعب, أشلاء, صارخون على قيد الحياة وقد فقدوا أطرافهم, امرأة ملقاة وتفقد نصف جسدها السفلي, كل شيء مؤلم .. مهيب .. فظيع إلى أبعد الحدود.
    (وليد) شعر باهتزازات عنيفة, أدرك أن (حازم) قد بدأ الهجوم, هو الوحيد الذي كان يعلم أين تقع القنبلة الكهرومغناطيسية, فهي في مخزن الأسلحة الكبرى, وفي ظل تلك الفوضى سيوفي زيه بالغرض ولن ينتبه أحد إليه, وجد أن الحشود تجري ناحية البوابة, الحراس بدأوا حالة استنفار عامة, ولج هو إلى مخزن الأسلحة, استوقفه حارس على باب المخزن الكبير قبل أن يدفعه (وليد) للخلف, محيطا ذراعه برقبته ليمنع الدم من الوصول إلى رأسه, ليسقط الحارس مغشيا عليه.
    دلف مسرعا إلى المخزن بعد أن أخذ بطاقة الحارس ومررها على الباب ليفتح, ثم أغلقه خلفه سريعا, استدار ليجدها أمامه, كملكة متوجة, كأنها منضدة متوسطة الحجم, اقترب منها محاولا تفعيلها, وها قد نجح, أمامه ثمانية دقائق فقط ليصل لها إلى البوابة حملها على ظهره وخرج بها مسرعا ناحية باب المخزن الرئيسي وهو يقول في نفسه:
  • اصمدوا قليلا فقط يا رفاق, أصمد يا (حازم), ثمانية دقائق فقط.
    وضعها في مركبة (باج) وصعد على متنها واتجه إلى السور, كان يصارع الوقت, الازدحام شديد, القوات تُحشد بشكل رهيب وهو يحاول الوصول, اقترب من البوابة الأمامية ليفزعه ما رآه.
    المدافع التى خرجت من السور وعلى سطحه, كأنه كان أرضا و نبت فيها كل تلك الأسلحة, أدرك في تلك اللحظة ان رفاقه يعانون, بل و المؤكد أن هناك الكثير من القتلى, الازدحام ما زال شديدا, فنزل من على الـ(باج) وحمل القنبلة على ظهره وغاص بها بين الناس متوجها للبوابة.
    يلعن قصور جسده في تلك اللحظة, الكثير لا يعلمون تلك القنبلة فيظنونها سلاحا سيساعد في كسب الحرب, لذا كانوا يفسحون له الطريق, يشعر أنه وحيد رغم كل هذا الزحام, لا يسمع شيء, أي شيء, برغم كل هذا الدمار, ينظر حوله فيجد أناسا يضعون أصابعهم في آذانهم, هم حتى يدركون مكان الخطر فيتجنبونه, أما هو فلا يستطيع, يدرك أنه لن يسمع الموت, فهل سيكون الموت سهلا بالنسبة إليه؟ .. يهرول و القنبلة على ظهره, يحاول الوصول للمسافة التى تجعلها مؤثرة, يقترب من السور, تبقى القليل فقط, هو يدرك المسافات جيدا, يعلم أن أمامه بضعة أمتار قليلة, يهرول أكثر .. يشعر بالتعب, ينساب العرق من جسده غزيرا, يجري أكثر, يهرول أكثر حتى ..
    خارج الأسوار
    (حازم) يصوب بسلاحه على الحراس فيصيب منهم من يصيب, الطلقات تتناثر حوله, المدافع الجبارة تدمر كل شيء, يطلق نيران مدفع الـ(موجول) خاصته لتفتك بمركبة (باج) تحمل بعض الحراس عليها, وجد (حازم) أن مدافع الأسوار الجبارة تطلق النار على المجموعات التى على الأطراف, فعلم أن القادة لن يقصفوا جنودهم بأيديهم, فصاح قائلا:
  • اشتبكوا معهم, تلاحموا, المدافع لن تقتلنا إن وجدوهم بيننا, اشتبكووووا أكثر.
    ليبدأ الجميع في الاشتباك و التلاحم أكثر وبالفعل هدأت طلقات المدافع, في تلك اللحظة بدأت الأسلحة البيضاء أيضا بأخذ مكانها في الموقف, فكل من كان يحمل سيفا أو خنجرا أخرجه فى تلك اللحظة, وبدأ التقطيع ونثر الدماء, حازم لا يحمل أحدهم, وفجأة .. وجد أحد حراس القاهرة ينطلق نحوه بسلاح أبيض ليقفز في الهواء قاصدا الهبوط على (حازم) الذي رفع سلاحه الناري امامه وقبل أن يطلق, وجد (كيرن) يلتقم الرجل في الهواء ممزقا إياه, لينظر بعدها إلى (حازم) الذي أومأ له شاكرا, وبدا في إسكمال القتال و بجواره ذئبه, ولكن المفاجأة دوت بينهم بطلقة قذفت (حازم) نفسه للخلف, هنا علم أن الأسوار لن ترحم أحدا, حتى وإن كانوا حراسها أنفسهم.
    داخل الأسوار
    ينساب العرق من جسده غزيرا, يجري أكثر, يهرول أكثر .. حتى ..
    اخترقت فخذه رصاصة, الألم الذي اعتصره لم يكن هينا, وكأن قضيبا معدنيا ساخنا قد غرز في فخذه, لينظر إلى من أطلق عليه تلك الرصاصة فيجده حارسا صغيرا .. لم يتجاوز الخمسة وعشرون عاما, يرتجف, يرى الخوف في عينيه, فيتحامل, ليحاول الوقوف مرة أخرى, فيقف حاملا القنبلة, لتأتيه رصاصة أخرى .. من حارس آخر, لم يلتفت تلك المرة, أمامه بضعة أمتار, اثنين على ما يعتقد, تحرك وهو يجر القنبلة فلم يعد قادرا على حملها, فتأتيه رصاصة أخرى في ظهره لتسقطه أرضا, يراها تضيء في رأسه, تلك التى لم يعلم اسمها حتى, الدماء تنساب من فمه, لأول مرة يتذوق طعمها, يتحامل .. يقوم مرة أخرى, مسترجعا مشاعره التى خالجته عندما رآها أول مرة, يجر القنبلة .. مترا واحدا فقط ويصل, واحد فقط, ولكن رصاصة رابعة تصيب كتفه الأيسر, يتذكر إشارتها له (عد سالما), يصرخ من الألم .. وأشد ما كان يؤلمه أنه لا يسمع حتى صراخه .. لا يسمع صيحات المدافع, ولا طلقات المسدسات, أكثر ما كان يقتله, هو الصمت .. الصمت ولا شيء أكثر, يزحف على بطنه وهو ما زال ممسكا بطرف القنبلة, ها قد اقترب, اقترب جدا, رصاصة أخرى في قدمه, لم تثنيه عن زحفه, يبكي من شدة الألم, يصرخ مستجديا لروحه أن تبقى فيه قليلا, يطلب منها ألا تغادره الآن, يزحف بإصرار .. حتى يصل إلى النقطة التى حددها قبلا, يتحامل على القنبلة بعد أن أوصلها ويحاول الوقوف ولكن أقدامه قد فارقته, فلا حياة فيهما, ينظر إلى وجوه قاتليه, ثم يتذكر بسمتها, يتمنى لو كان يستطيع التحدث, فقط ليقول لهم أنه لا يحمل لهم أي ضغينة, فقط ليخبرهم أنه .. يحبهم, يحزن عليهم, يشفق عليهم, أن يحملوا عبء القتل وهم ما زالوا صغارا, يشعر بنفسه يضيق, يضيق أكثر فأكثر, يتشبث بالقنبلة أكثر, يحثها على إطلاق موجتها وكأنما بإطلاقها ستتحرر روحه, ولكن فوهات البنادق لم تمهله لتلك اللحظة, أكثر من عشرون فردا جعلوه هدفا و أطلقوا عليه النيران لتبدأ الرصاصات باختراق جسده, ممزقة إياه, دون أي شفقة .. ولكنه لم يشعر بهذا الألم, فما شعر به قبلا كان كافيا, فقد قتله الصمت, قبل أن تقتله فوهات البنادق.
    خارج الأسوار
    المدافع تطلق نيرانها, تقتل, تمزق, تفرق, تدمر كل شيء أتت عليه, حتى خطة (حازم) بالالتحام لم تكن كافية, فقد استهدفت المدافع كل شيء, لم تستثني أحدا, ينظر جواره فلا يرى إلا خرابا, مركبات مقلوبة, مروحيات ساقطة, أشلاء لأناس قد رآهم قبل دقائق أحياء, مقبرة جماعية, تساوى فيها الإنسان والآلة, قتلهم الحقد, والظلم, وانعدام الإنسانية, هل ما فعله كان صوابا؟ هو يحمل دماء كل من مات من الفريقين على عاتقيه, يحاول النهوض بعد أن قذفته ضربة المدفع التى أخطأته, يشعر بآلام مبرحة, ينظر إلى مصدر الألم, فيجد شظية قد استقرت في بطنه, ينزف, يتألم, الأمر سيء إلى أقصى حد, ثم .. وجد أن المدافع كلها قد نكست, وكأن الروح التى كانت تسكنها فارقتها, أضاء الأمل داخله مرة أخرى, ليقول في قرارة نفسه:
  • لقد فعلتها يا (وليد), لقد فعلتها يا صديقي.
    ابتسامة الأمل أضاءت وجهه رغم الألم, قام واقفا, أمسك ببندقية من على الأرض, يضع يده على جرحه, يصعد إلى (موجول) واقفة بدون قائد, ليقف خلف مدفعها قائلا:
  • أيها الأحرار, حان وقت استعادة ما سلبوه مننا, لم تعد مدافعهم تخيفنا, فقد أضحت بلا فائدة, اهجموا بكل قوتكم و اخترقوا الأسوااااار.
    الأمل .. تلك الكلمة التى تحرك شعوبا بأكملها, ما أن بعث (حازم) الأمل فيهم مرة أخرى حتى انتفضوا وكأن المعركة بدأت الآن, صيحاتهم تعالت أكثر فأكثر, يقاتلون بشراسة أكبر, (حكيم) استطاع رؤية (حازم) وهو على الـ(موجول) فأسرع وصعد إليه, ليفاجأ بإصابته, فقال:
  • جرحك خطير, سأحاول أن أعيدك إلى المعسكر.
    فامسك (حازم) بذراعه قائلا:
  • لا .. لا أستطيع العودة الآن, ساعدنى على وقف النزيف, ودعنا نكمل ما بدأناه
  • بني .. لقد نزفت كثيرا, يجب أن تعود.
  • صدقني يا (حكيم), لن أعود, فقط ساعدني على الوصول إلى الداخل, يجب أن أصل.
    لم يستطع (حكيم) رفض طلبه, فبدأ بنزع الشظية التى بدت ظاهرة له من بطن (حازم) وسط ألم وصراخ عظيمين, ثم يخرجها أخيرا, ويقتطع جزءا من ملابسه ليلف به جرح (حازم) الذي بدأ بالضغط عليه ليوقف ما استطاع من النزيف, ثم التفت له (حكيم) قائلا:
  • ماذا تريد أن نفعل الآن؟
  • سِر بنا إلى الداخل يا صديقي, فـ(وليد) ينتظر.
    قاد (حكيم) الـ(موجول) مخترقا بها صفوف الجيش, وسط إطلاق نار عنيف, ولكنه كان يطلق نيران مدفع الـ(موجول) ليفسح لنفسه طريقا يمر منه, رأته بعض المركبات وبدأوا في فعل ما فعل, ليتحرك الجميع ناحية البوابة بشكل أكبر, مخترقين الحراس و مركبات العدو التى اصابتها النبضة الكهرومغناطيسية فتركتها بلا حياة, حتى وصلوا إلى البوابة المفتوحة على مصراعيها ولم تغلق فقد أصابتها النبضة هي الأخرى, وما أن وصلت حتى قوبلت بوابل عنيف من الرصاص, ولكن بضع طلقات من مدفع الـ(موجول) أطاح بالكثير, كانت السيارة تنطلق حتى مرت بجوار القنبلة الموضوعة على بعد امتار قليلة من البوابة, لتمر بها ويأمر (حازم) (حكيم) أن يتوقف, ويجول ببصره يمينا ويسارا باحثا عن (وليد), ثم ينظر إلى القنبلة فيقع قلبه في قدميه, فقد وجد (وليد), ولكن في وقت متأخر.
    نزل (حازم) من الـ(موجول) وسط إطلاق النار وهو غير آبه بما يدور حوله, الرصاصات تعبر من فوق رأسه, لا يكترث .. يقترب من هذا الملقي على الأرض, الغارق في دماءه, يقترب منه .. يتلمسه .. يحتضنه, ليصرخ بعدها ألما, يسير بأنامله على أماكن اختراق الرصاصات لجسده, يناديه في كل أرجاءه, يرتجي منه بقايا روح, يضمه لصدره أكثر, ينظر لوجهه الذي ارتسمت عليه ابتسامة الراضي بما فعل, ليهمس في أذنه قائلا:
  • لقد أوفيت بوعدك يا صديقي, أوفيت بوعدك.
    ثم يجد أن (سالم) قد ظهر من العدم و يسحبه من كتفه ليضعه في إحدى مركبات الـ(باج) ومطلقا النار على الكثيرين في نفس اللحظة, ينطلق به ليذهب به لوجهته التالية, فينظر إلى الـ(موجول) التى كان يستقلها مع (حكيم) فيجدها تأتي خلفه, يطمئن, يحاول التركيز على ما سيفعل تاليا, ما زال يفقد الدماء, لا يريد مفارقة الحياة الآن, ما زال لم يحقق ثأره.
    تقف الـ(باج) أمام المصحة, ليهبط منها (سالم) ويلحقهم (حكيم) ويدلف الثلاثة للداخل, يقودهم (حازم) فهو أكثرهم دراية بالمصحة, يعلم أين وجهته, ينطلق إلى مكتب د (عمار), وقبل أن يصل إلى المكتب قوبل بوابل من الرصاصات احتمى منه بحائط جانبي, لينظر بعدها إلى (سالم) فيبدأ في إطلاق النار بشكل عشوائي, وفي لحظة قفز (حكيم) داخل الممر وهو يحمل مسدسه مطلقا منه رصاصاته ليصمت بعدها كل شيء, إلا من صوت (حكيم) على الأرض قائلا:
  • اذهبا الآن.
    فيخرج الإثنان من خلف الحائط ليكملا طريقهما إلى مكتب د (عمار) الذى اقتحمه (سالم) لتستقر في كتفه رصاصة توقعه على الأرض, ليطلق (حازم) على إثرها النار عشوائيا, يتسلل إلى المكتب, بعد أن سحب (سالم) وأخرجه منه, يتحرك ببطء, فتنطلق الرصاصات بعشوائية مرة أخرى, ولكنه يسمع بعدها صوت نفاذ الطلقات, ليخرج (حازم) من مخبأه من خلف كرسي معدني داخل المكتب مسددا فوهة مسدسه إلى ( عمار) الذي رفع يديه في استسلام قائلا:
  • (حازم) .. لا ترتكب حماقة, أنت لا تريد أن تكون قاتلا يا بني.
  • حماقة ؟! و بني؟! .. أنت تتحدث كثيرا يا دكتور, الحماقة كانت في تصديقي لك.
    هنا ابتسم (عمار) قائلا:
  • هل تعتقد أن قوي كفاية لتواجهنا, أنت لا تفهم, فنحن أقوى مما تتصور, إن كنت لا تصدق, فاسأل من ماتت على يديك .. أيها الأحمق.
    هنا انفجر (حازم) غضبا ليطلق النار على (عمار) فيصيبه في بطنه ليسقط أرضا مضرج بدماءه قائلا:
  • أرأيت ما زلت احمقا, لن تستطيع أن تتخلص منا يا (حازم) القاهرة 1030 مجرد مدينة واحدة, نحن نملك 1029 مدينة غيرها,نحن نملك العالم, أيها الأحمق.
    ذهل (حازم) من تلك الكلمات, فمجرد تخيل أن هناك هذا الرقم من المدن تمتلك أسلحة شبيهة بالتى واجهوها هنا, لهو أمر مهيب, ولكنه قال لـ(عمار):
  • مع الأسف, لن تكون موجودا لتشهد نهايتهم جميعا.
    وأطلق أربعة رصاصات في صدره, تحديدا في قلبه, هو فقط يريد أن يتأكد ألا يواجهه مرة أخرى.
    دخل بعدها كلا من (حكيم) و(سالم) ليجداه واقفا ومصوبا مسدسه نحو (عمار) الغارق في دماءه فيربت (حكيم) على كتفه قائلا:
  • فلتنهي ما جئت من أجله.
    ينظر له (حازم) وقد فهم ما يرمي إليه, ثم اتجه إلى مكتب (عمار) ليضغط بضعة أزرار مخفية تحت المكتب بترتيب معين, فتنفرج المكتبة التى خلفه كاشفة عن درجات سلالم تنزل للأسفل بشكل دائري,ثم قال(حازم) مخاطبا إياهم:
  • مرحبا بكم في قمرة ومركز قيادة الأخوية الخاص بالقاهرة 1030
    دلفوا جميعا إليها يتقدمهم (حازم), ثم سأله (سالم):
  • ماذا كانت طبيعة عمل (عمار) بالضبط, ليكون مكتبه هو المدخل لقمرة القيادة؟
    ليجيبه (حازم) قائلا:
  • (عمار) كان من يعتبر الحاكم الفعلى للقاهرة, فقد كان رئيسا لكل منصب فيها, الحراسة, المصحة, المراقبة, المؤن, كل شيء كان تحت يده وسلطته.
    تكلم (حكيم) مخاطبا (حازم) قائلا:
  • وهل تعتقد أن ما تبحث عنه موجود هنا؟
  • نعم .. بالطبع, القاهرة كانت اللبنة الأولى و الأكبر في كل شيء, فمن المؤكد أنه هنا.
    ليسأل (سالم) باستفهام:
  • عن ماذا تتحدثان؟ .. وما هو الموجود هنا ونبحث عنه؟
    فيجيبه (حازم):
  • ستعلم كل شيء بعد قليل.
    أكملا الدرج حتى نزلا إلى الأسفل, ليجدا بوابة كبيرة و بجانبها لوحة ازرار, يبدأ (حازم) في ضغط بعضها لتفتح البوابة أمامهم, وتظهر لهم غرفة مربعة تملؤها الشاشات وبها الكثير من أزرار التحكم في كل شيء, كمية الطعام, كمية الماء, حتى نظام التدفئة, نظام الحراسة, المدافع, الأسلحة, حركة المركبات, أماكن سكن الأفراد, التحكم الكامل في كل شيء, ولكن (حازم) كان يبحث عن شيء أهم بكثير, كان يبحث عن (السلاح العظيم), و(حاوية الكائنات) أو كما كانوا يطلقون عليها قديما .. (سفينة نوح).
    سأله (حكيم) قائلا:
  • ماذا ستفعل بعد أن تجد ما تبحث عنه؟
  • لا أعلم بالضبط, ولكن كل زر من الاثنين سيكون قرارا مصيريا, إما أن أوقف متتالية السلاح للأبد فيدمر نفسه ويبدأ هو في تدمير منشآت ومستعمرات الأخوية, و إعطاء الأمر لسفينة نوح بإعمار الأرض, أو أطلقه و يتدمر كل شيء, ولينجوا وقتها من يستحق النجاة فقط.
  • و هل ترى أن هذا قرار صائب؟
  • قال لي أحدهم ذات مرة.. ما مقياس الصواب والخطأ لديك؟ .. البشر ما داموا موجودين فستبقى الأحقاد والشرور موجودة دائما, لن تنتهي الصراعات على هذا الكوكب إلا بنهايتهم, إلى الآن لا أدرك يا صديقي, لا أدرك هل سيكون قراري صواب أم خطأ.
  • أنت تدرك كل شيء, ولكنك لا تريد أن تمنح ما لا تعلمه أي فرصة, سنخرج أنا و (سالم) ونتركك لقرارك, واعلم تماما, اني أثق بك, كلنا نثق بك, مهما كان اختيارك, ولكن .. اختر بحكمة.
    يتركه الاثنان ويخرجا ويبقى هو في الغرفة وحيدا, يتحسس جرحه الذي ما زال ينزف, يجلس على الكرسى الأوحد بالغرفة, يقترب من لوحة التحكم الكبيرة, ثم يضغط بعض الأزرار فتتباعد الكثير من أزرار اللوحة في المنتصف طرديا, ويظهر زرين كبيرين, على أحدهما رمز لسفينة, والآخر رمز لانفجار نووي, تزينه نبتة لم تزهر بعد, جسده بدأ بالشحوب, فقدانه للدم الكثير يخبره أن حياته على وشك الإنتهاء, يدرك أنه لن يكون موجودا ليشاهد نتيجة إختياره, ولكنه على الأقل, أظهر للناس الحقيقة, جعلهم يدركون حقيقة حكامهم, وحقيقة أنفسهم, أعطاهم ما سلب منهم قبل ذلك, دون أي شروط.
    البرودة تغزوا جسده, عليه أن يختار سريعا, عليه أن يضع حدا لكل شيء, يرفع يده ويمدها إلى اللوحة .. ثم يضغط على زر ما.
    الخدر يسري في جسده, ثم يراها من بعيد, بكامل بهائها وحسنها, تبتسم له, تضحك تجاهه, فيبتسم هو الآخر, ويغلق عينيه .. في سلام.
    تمت بحمد الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top