رواية واحتسب عناق بقلم #الأسطورة_أسماء_حميدة الفصل الثاني

داخل مستشفى المنصورة الجامعي بعنبر الاستثماري، في غرفةٍ صغيرة تتسع لسرير طبي خاص بمريضٍ واحد كبقية غرف العنبر.

أما عن العنابر الأخرى فهي مكتظة بما فيها من واردين.

طرقٌ على باب الغرفة، فسمح مَن بداخلها للطارق بالولوج.

هندمت القادمة من غطاء رأسها وهي تدير مقبض الباب ترسم على ثغرها ابتسامةً مترددة، تلقي السلام على القابعيَّن داخل الغرفة، أحدهما جسده مسجى على السرير الطبي وساقه مُجبرة ومعلقة بأحبال مربوطة بحاملٍ معدني عند نهاية التخت، ورفيقته بالغرفة متكومة على كرسي معدني إلى يمين المريض.

تقدمت “سالي” تحمل بضعة أكياس باتجاه والدتها التي يبدو عليها الضعف والوهن وذلك إثر مكوثها طوال الليل إلى جانب والدها الذي سقط من أعلى صهوة جواده وذلك بعد أن انتهى من مروره لمتابعة سير العمل بالأرض الخاصة بهم تلك التي تلتف حول المنزل الريفي الخاص بهم الذي وبالرغم من بساطته إلا أنه ينم عن وضع عائلتها المادي.

أسندت “سالي” ما بيدها أرضاً، ومن ثم مالت تطبع قبلة على صدغ والدتها تقول بتعذُرٍ:

-آسفة على تأخري أمي، حتماً شعرتِ بالتعب بسبب جلوسك هكذا على الكرسي طوال الليل، سامحيني ولكن ما بيدي حيلة.

بينما هناك من انتابته الغيرة، ليعلو صوته الضعيف، قائلاً بعتاب:

-بالمناسبة أنا المريض هنا! أما مِن قُبلةٍ لهَرِمٍ مسنٍ مثلي يا صغيرتي؟

ابتسمت “سالي” وهي تسبل أهدابها تهز رأسها بيأسٍ فهذا هو أبيها المحب الذي لا ينفك عن أغداقها بالحب والحنان، ولكنه يغار عليها بشدة حتى من والدتها.

دنت “سالي” من تخته تتفادى هذه الأحبال وتلك الأثقال التي تدعم ساقه، تطبع قبلة على وجنته وأخرى أعلى رأسه برفق.

استاءت “سالي” كثيراً لما يبدو على وجه أبيها من شحوب ولكنها جاهدت كي لا تظهر ذلك، فله أسبوع على هذا الحال وعلى ما يبدو أن المسكنات والعلاجات التي وصفها له الطبيب لم تجدي نفعاً.

بينما تسائلت والدتها “فاطمة”:

-لِمَ كل هذا التأخير “سالي” ؟ لقد أنتابنا القلق عليك؟

قالتها” فاطمة” وهي ترمق ابنتها بنظراتٍ متمعنة، إذ بدا التوجس جلياً بنبرة صوتها فقد صار الخوف والقلق ملازماً للجميع بالآونة الأخيرة.

“سالي” بارتباك:

-لا شيء مهم لقد أعددت الطعام اللازم ل”أكرم” قبل سفره إلى القاهرة، وكذلك جهزت طعام صحي لأبي ووجبة لك أمي”.

بالكاد استطاعت “سالي” إخفاء حسرتها وهي تبحث عن سبب مقنع يفسر تأخرها فشجارها مع” أكرم”لن يستصِغه أبويها.

وعلى الرغم من موارتها لما بها من خيبة، إلا أن كلاً من والدتها “فاطمة” والحج “حسين” أبيها يخفيان الكثير، إذ أحست “سالي” أن الجو بينهما مشحوناً وعلى ما يبدو أنهما كانا يتناقران  قبل مجيئها.

أردفت “سالي” في محاولة لكسر حاجز السكون المريب هذا:

-أرجو ألا تكون “فاطمة” قد ضبطتك وأنت تتودد إلى الممرضات يا حاج “حسين”!

زفر “حسين” بحنقٍ يهز رأسه بنفي، يقول:

-ومن أين لي بطاقة حتى أفعل! فعلى ما يبدو أنني سأبقى مقيد بهذه الأغلال لشهرٍ إضافي.

ومن ثم شخص ببصره إلى نقطة ما في الفراغ وهو يقول بيأسٍ وإحباط:

-أكان وقته أن أقع وتكسر ساقي في هذه الفترة تحديداً؟ فالمزرعة بحاجة إلى عناية.

-اخبريني “سالي” كيف تسير الأمور هناك؟

زاد تجهم “سالي” لجدية تساؤلات أبيها وهي ممتنة إلى المولى عز وجل كون والدتها أمضت الليلة الأخيرة إلى جانب والدها ولم تتطلع على ما حل هناك بالأمس فلو علمت “فاطمة” بما حدث، قطعاً كانت ستخبر زوجها.

وفي حالته تلك لا ينقصه الشعور بالحزن لما دار، و”فاطمة” لن تتمكن من الإخفاء عنه مهما جاهدت؛ فهي كالكتاب المفتوح بالنسبة لزوجها الحج “حسين”.

أجابت “سالي” تقول بتذبذبٍ:

-انتبه على حالك أبي ولا تشغل بالك بأي أمرٍ آخر، ما يهم الآن هو أن نطمئن على صحتك، وأي شيء عدا ذلك لا يهم.

أسدلت “سالي” أجفانها تخفي عنه لمعة الأسى بمقلتيها العسليتين الصافيتين، وهي تحاول صرف انتباهها عن التفكير بآلة ضخ المياه التي احترق ماتورها، والخمسة مواشي التي غابت عن الحظيرة ولا تعرف أفُقِدت أم سرقت من الحظيرة.

انتبهت “سالي” على سؤال أبيها الذي ألقاه على مسامعها بتوجسٍ من شرودها ومعالم الحزن التي بدت جلية على وجهها:

-ما بكِ “سالي”؟! هل حدث شيئاً يا صغيرتي؟

رسمت “سالي” على ثغرها ابتسامة ودودة وهي تقول متصنعة الثبات:

-كُف عن القلق يا أبا “سالي”، كل ما في الأمر أن “عنتر” انقطع سرجه وكنت أتمنى أن يُكسر ساقه حتى أخلصه من آلامه بطلقة رصاص من بندقيتي جراء إسقاطه لك.

انفرجت شفاه الأب بابتسامة واهنة تختلف كلياً عن روحه المرحة، فهو دوماً ما كان يفتر ثغره مقهقهاً على مداعبات تلك المشاغبة “سالي” فهي حقاً خفيفة الظل، تدخل القلب دون استئذان، فعقب على ما قالت مردفاً:

-بالرغم من كونه حصاني المفضل ولكن إذا حدث هذا كنت سأُعَمِّر لكِ البندقية بالذخيرة الحية.

تمهل “حسين” لحظة، ومن ثم انجلى المرح عن وجهه ليحل محله الجمود وهو يوزع النظرات ما بين “فاطمة” و”سالي”، قائلاً:

-لقد اتصل بي الأستاذ “يوسف” موظف البنك على هاتفي المحمول، عندما ذهبتِ إلى المرحاض لتتوضئي يا “فاطمة”.

“سالي” بتوجسٍ:

-لا أبي! لا تقل لي أن هناك أخبار سيئة.

قالتها “سالي” بامتعاضٍ، فلا بد أن هناك ما هو أسوأ نظراً لوضعهم المالي الذي بدأ في التدهور هذه الفترة جراء خسارتهم في محصول القطن لهذا العام بعد الآفة التي هاجمت المحصول وهي منشغلة بدراستها في عامها الأخير بكلية الزراعة.

وذلك بعد أن ألح عليها والدها بضرورة التركيز على مذاكرتها كي تُحَصِّل نفس التقدير الذي تحرص على الوصول إليه كل عام.

فطموح “سالي” لا حدود له وكل عام تكُن الأولى على دفعتها بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف وهذا العام هو الفيصل في بلوغها ما تتمنى.

فحصولها على نفس المرتبة سيقربها من حلمها في التعيين بكادر التدريس بالجامعة، وما من أبٍ لا يفتخر بابنةٍ گ “سالي” لذا حمل على عاتقه مسئولية متابعة المزرعة لهذا الموسم وليته لم يفعل ولكنه بجميع الأحوال كان يرغب في صالح ابنته.

فهمت “سالي” من امتقاع وجه أبيها الحج “حسين” أن صديقه الأستاذ “يوسف” لم يهاتفه بشكل ودي، ومع ذلك افترضت حسن البلية وهي تقول بخِيفةٍ:

-ذوقٌ منه أنه اتصل ليطمئن عليك  يا أبي.

الأب زافراً بضيق:

-اتصاله لم يكن بغرض اطمئناناً ولا غيره، إنما عرض علي اقتراحاً كنت أناقشه مع والدتك.

تمهل “حسين” ومن استطرد يقول:

-إنه على علم بمشوار علاجي الذي سيطول وهو محق، فقصة الجبيرة تلك ستأخذ أكثر من أربعين يوماً، وحتى بعدها لن أتمكن من العودة كسابق عهدي، فعظام كهْلٍ مثلي ستبقى مأنونة ولن تلتئم سريعاً.

-وعملية كبيرة كالتي خضعت لها وتلك الشرائح والمسامير التي زرعوها للِحام ما تهشم من عظام قصبة الساق ستستغرق شهوراً كي تشفى.

-وهذا يعني أن المسئولية ستُلقى عليك كاملة.

عقبت “سالي” مسرعةً بتأكيد:

-لا تنعي همًّا يا أبي، لقد أنجبت رجلاً، و يمكنك الاعتماد علي في ذلك كما أن “حسام” سيعود عما قريب ولن يتخاذل عن مساعدتي.
             
عند “نادين” و”نوران”
“نوران” بخيبة:

-لست جميلة مثلكِ يا أمي.

زين ثغر “نادين” ابتسامة حانية، تقول:

-أنت صورة مطابقة للأصل “نوران” حتى لو لم تلاحظي ذلك فجميع من حولك يقر بهذا، حتى ولو كنتِ تقصدين التفاوت في لون بشرتنا.

-ولكن هذه العيون بلونها الغربي الذي ورثناه أنا وأنتي عن جدتك التركية الأصل تجعل حنطية بشرتك أكثر تفرداً، فتنبهر بِطَلَّتكِ الأعين فور أن تقع عليكِ.

-وحتى لو كنتِ غير مهتمة بمتابعة ردود فعل من حولكِ ولكنني أستطيع أن أرى ذلك بوضوح.

“نوران” باستمالة:

-أمي هل من الممكن أن نعدُل عن فكرة السفر إلى المزرعة، يمكننا الذهاب إلى هناك في فصل الشتاء، على الأقل لن يكون هذا البربري “عمران” هناك.

زفرت نوران أنفاسها بضيقٍ ومن ثم أردفت تقول:

-لا أعلم لمَ تلحين في السفر؛ فالحر هناك لا يطاق وكذلك الأشخاص!

-كما أنه من الممكن أن نطلب من المشتري الذي يريد مُعاينة المزرعة التواصل مع قريبكِ هذا، وإذا أعجبته يمكننا إتمام الإجراءات الخاصة بالبيع هنا في القاهرة.

جذبت “نادين” ابنتها تجلسها إلى جوارها على الأريكة تحاول إقناعها بهدوء:

-أنتِ تعلمين مدى تعلقي بالمكان هناك، لذا أريد قضاء بضعة أيام بالمزرعة قبل التخلي عنها إلى الأبد.

-فأنا لم أقم بعرضها للبيع بإرادتي، ولكنكِ تعرفين أنني يأست من كثرة البحث عن شخصٍ موثوقٍ به كي يهتم بها ويرعى الأرض ولا يبخسنا حقنا بالخير الذي تطرحه كل عام.

-ولو كان “عمران” متواجد هناك على مدار العام ما فكرت لحظة في بيعها.

“نوران” بضيق:

-يا الله كم مرة سنذكر اسمه خلال جلسةٍ واحدة!!

-كُفي عن تذكيري بأننا سنلقى هذا العنجهي عما قريب.

“نادين” باستنكار:

-توقفي أنتِ عن المزاح بهذه الطريقة، ولا تتحدثي معه بهذا الأسلوب.

“نوران” وهي تشيح بوجهها إلى الجهة الأخرى، قائلةً بازدراء:

-أنا لا أمزح.

“نادين” بتوبيخٍ:

-كم أنتِ فظة؟! إنه حقاً رجلٌ جذاب وقوي كما أنه وسيمٌ أيضاً.

ارتد رأس “نوران” لتقابلها رامقةً إياها بحاجب مرفوع اعتراضًا، تقول:

-احتفظي برأيك لنفسكِ “ناندو”، أنا لا أكره شخصاً في حياتي قدر كرهي لهذا السمج.

قطبت “نادين” جبينها تقول باستياءٍ:

-لِم كل هذا؟! إنه يعملك بلطفٍ، وعندما كنتِ صغيرة كان يهتم بكِ كثيراً.

-دوماً ما كنت تتشبثين به كلما حضر إلى زيارتنا، ولا أعرف لِمَ اختلفت معاملتكِ له في الآونة الأخيرة.

-حقاً أنا لا تعجبني طريقتكِ في الحديث معه ولا الألقاب التي تطلقينها عليه.

-على العكس تماماً من المفترض أن نكون متمنين له على وقوفه بجانبنا ومتابعة مصالحنا هناك.

أرادت “نوران” إنهاء الحديث عنه فسيرته توترها ولا تعرف لِم؟!، لذا تطرقت إلى مناحٍ أخرى:

-اخبريني، كيف تشعرين الآن؟! هل أخذتِ دواءكِ اليوم؟

“نادين” بتذمرٍ:

-لا؛ فأنا بدأت أشعر بتحسنٍ، كما أن الطبيب قال أنه لا داعي للاستمرار على الوصفة العلاجية فارتفاع نسبة السكر لدي كانت حالة عرضية وليس مرضاً مزمناً.

-ولا داعي لتذكريني بهذه اللعنة مجدداً.

-واطمئني فعندما نسافر إلى المنصورة ستتحسن حالتي المزاجية ولن أكن بحاجة إلى علاج بشكل نهائي، فالهواء النقي هناك يشفي القلب العليل.

تعلم “نوران” أن والدتها لديها فوبيا الأمراض ولا تحب الأطباء والمشافي، ولكن يجب عليها تعنيفها كي تنتبه على صحتها، فطوال سنوات عمر “نوران” العشرين لم تشعر بفاجعة ينهار لها كل عالمها كتلك اللحظة التي عادت فيها من الجامعة، ووجدت جسد والدتها يفترش الأرض، وعندما مالت إليها وجدت أطرافها باردة ووجهها شاحب.

عند هذا المشهد وضاع كل ثبات لديها وما عاد العقل يعمل، توقف الكون من حولها ولم تدري حينها بمَن ستستعين ولا لمَن تلجأ، فهي ووالدتها ليس لهما أحداً بالحياة حتى والدها كان خارج البلاد في هذا الوقت.

ولكن الغريب أن أول شخص هداها إليه عقلها كان……. .
ترى من هذا الغريب؟

👇

الفصل الثالث

3 أفكار عن “رواية واحتسب عناق بقلم #الأسطورة_أسماء_حميدة الفصل الثاني”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top